أبدأ بداية طريفة من باب التشويق الكفيل بالتصوير الدقيق، وإن كان التشويق يستطرد إلى شرح. كنت أتذاكر مع أستاذنا الأكبر الدكتور يوسف القرضاوي الرأي في بعض علماء الأزهر من اساتذته فوصلنا إلى أحدهم فإذا به يبتسم قبل أن يُدلي برأيه ويقول إن زملاءه كانوا يصفون هذا الأستاذ بأن شرحه “قرديحي” وامتحانه “عمولة”! معنى الكلمتين يرتبط بتقييم درجة الجودة في الصناعة، فإذا كانت الصناعة في غاية الامتياز فهي “عمولة” ومن أوصاف العمولة أن يقال “عمل المعلم لابنه” الذي هو أعز الناس عنده، ومن ثم يصنع له أفضل صناعة بأفضل تشطيب، أما إذا كانت الصناعة في حدودها الدنيا من أجل تقليل التكلفة أو من أجل السرعة أو بسبب ضعف مستوى الصانع أو الخامات فهذه هي الصناعة “القرديحي”. ومن الطريف أن الكلمة في اصطلاح التغذية والمطابخ والمطاعم تطلق على الأكلات الخالية من اللحم مما تعودته الذائقة محتويا على اللحم.
نضع حاشية على هذا المعنى فنقول إن المدرسة الأزهرية في التقييم كانت تختصر التقييم في ثلاث درجات أولى وثانية وثالثة، وبلغة جيل الدكتور الشيخ القرضاوي فالأولى هي العمولة، والثانية هي العادي، والثالثة هي القرديحي، دلالة وصف زملاء الشيخ القرضاوي وجيلهم، ومنهم والدي رحمة الله ورضوانه عليه، أن هذا الشيخ الذي لم يكن يُعطي الشروح والمحاضرة حقها [حسب فهمهم هم لا حسب الفهم التربوي] كان يتطلّب من تلاميذه جودة في الامتحان لأنه كان قادراً على نوع متميز [صعب] من التقييم يفوق جودة شرحه بمراحل.
لا نزال في الامتحانات والتقييم فيها، فأذكر أن الكليات النظرية في الجامعات المصرية (ومعها كلية التجارة رغم أنها ليست نظرية وإنما تمنح البكالوريوس) تقيّم الطلاب في كلّ مادة بدرجة من عشرين على حين أن الكليات العلمية تقيّمهم في الغالب بدرجة من مائة، ومن عبقرية أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف بعد فترة من رئاسته للجامعة أنه اكتشف أن ضيق المدى في درجات الكلية النظرية هو الذي يتكفّل أو يتسبّب بالشكوى من نتائج امتحاناتها، وذلك أن الفارق بين كل تقدير والذي يليه هو درجتان مثلاً، بينما هذا الفارق عشر درجات في الكليات العلمية.. ومع هذا فقد رفض أساتذة هذه الكليات قبول فكرة تغيير مدى الدرجات ليكون من مائة بدلاً من عشرين مع أنهم في كثير من الأحيان يقيّمون التحريري بدرجة من مائة ثم يأخذون 20 ٪ منها.
ننتهي من التشويق وندخل في الجد فأذكر انني كنت منذ أكثر من ثلاثين عاما أطالب بكل جدية أن تكون مهنة أستاذ الامتحانات مهنة محددة، وألا تكون على المشاع وخاضعة للمصادفات على نحو ما كانت في الجامعات المصرية في ذلك الحين، ولم أكن وحدي بالطبع، ولم تذهب مقالاتي ودعواتي في هذا الصدد أدراج الرياح فقد استطعنا في كثير من الأقسام والتخصصات أن نضبط الأمور وننحو بها ناحية الموضوعية وبعيداً عن الذاتية، لكن هذا لا ينفي أن هناك فكرة ذكية بدأها البريطانيون على ما أذكر مما قرأته في أدبيات هذا الموضوع منذ أربعين عاماً، وأصبحت الأستاذية المتخصصة في التقييم تخصصاً معروفا بين الأساتذة (وذلك على نحو ما عرفت مصر في الأربعينات تقليد أستاذ كرسي للدراسات العليا للجراحة في كلية طب قصر العيني الذي شغله الدكتور محمد كامل حسين)، صحيح أننا في مصر نبدأ التقليد الجديد من باب فتح الأبواب المالية للترقيات والاستحقاقات لكن الفكرة فكرة ذكية وبخاصة في الأقسام الكبيرة التي يزداد فيها عدد الأساتذة بما يسمح بمثل هذا التخصص.
بعيداً عن التخوف المشروع من نمو سلطة مركزية (ومعروفة سلفا) في التقييم فإن الفكرة بذكائها تكفل تطويراً في التعليم نفسه، ومن عقائدي الثانية أن أساليب التقييم التربوي (التي نسميها اختصارا بالامتحانات) هي من أفضل الوسائل بل هي أفضل الوسائل لتطوير التعليم، حتى إنني أقول أننا لو أردنا تعريب التعليم الطبي مثلا فلنبدأ بجعل الامتحان نفسه باللغة العربية، ولو أردنا ضبط الإحصاء في الرسائل فلنبدأ بجعل أحد المناقشين الثلاثة أستاذاً في الإحصاء، ولو أردنا ضبط قواعد الجزء التجريبي في رسائل الطب فلنبدأ بأن يكون أحد الأساتذة الثلاثة من الأقسام الأكاديمية في كلية الطب أو العلوم أو الهندسة وبترتيب الجدول(أي كشوف ألاساتذة) وليس بالاختيار القائم على المعرفة أو المصادفة.. وهكذا.
في هذا المقام أذكر لاثنين من أساتاذَتي هما الدكتور محمد عماد الدين فضلي والدكتور محمد صادق صبور جهودهما الصادقة في أواخر السبعينات التي أدت إلى التجربة التي كرّستها جامعة عين شمس قبل غيرها في تطوير تنظيم دورات إعداد المدرس الجامعي التي أصبحت شرطاً لازماً للحصول على درجة المدرس الجامعي، وعلى الرغم مما يعتري هذه التجربة الآن من ظلال البيروقراطية وتراكمات الزمان والشكلانية والجمود فإن التجربة الرائدة تظل قابلة للتطوير والإصلاح.
بقي أن أنتهي بالتشويق على نحو ما بدأت به، أعرف قسما من أقسام كليتي التي أنتمي إليها كان الأساتذة والأطباء من الأقسام الأخرى يُسمّونه بالقسم الهوائي، ويتمادى بعضهم فيُسمّونه بالقسم الأمواجي، وذلك أن الثلاثة الأوائل فيه وهما الأستاذ المؤسس وتلميذاه الأولان كانوا يختلفون في كلّ شيء إلا شيئاً واحداً فقط، وهو هوائيتهم في أيام الامتحانات فالأول متقلب المزاج حسب رضاه أو إحباطه من الحالة السياسية العامة، والثاني متقلب حسب انطباعه الأقدم الذي لا يغيره أبداً لأنه قد جمد عليه، والثالث متقلب حسب انطباعه الأحدث الذي يمكن معه أن يتحول من أمريكي إلى سوفييتي في لحظة واحدة والعكس في اللحظة التالية ما دامت مصلحته أو بالأحرى فهمه لمصلحته يقوده إلى هذا . كان زملاؤنا في الكلية يتمتعون بالحديث عن ثلاثتهم بلا تحرج، وعن توجه القسم الذي هو كأمواج البحر بلا مبالغة، وفيما بعد ربع قرن وصل زميلنا صاحب وصف ذلك القسم بأمواج البحر إلى رئاسة الجامعة، فكنت أري الوصف من موجبات استحقاقه لما وصل إليه …. ولعله لا يذكر ذلك التعبير الجميل.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا