وصف المعاصرون للشيخ يوسف الدجوي ١٨٧٠ – ١٩٤٦ ذلك العالم الجليل بأنه كان آية في الذكاء، وسرعة الخاطر، وجودة البيان، وقوة الذاكرة، وسعة العلم، وكانت حلقات دروسه في الأزهر الشريف عامرة يحضرها مئات تناهز الألف من العلماء وطلبة العلوم، كما كانت ترد إليه استفتاءات من شتي الأقطار. كان الشيخ يوسف الدجوي مع هذا إنسانا نبيلا سمحًا كريمًا يعطف على الغرباء ويهشُّ لتلامذته وطلابه. وكان رقيق العاطفة يتألم لألم المسلمين ويحرص على وحدة الصف الإسلامي في مواجهة تيارات الإلحاد القوية، ويترفع على خصوماته الفكرية مع غيره من العلماء، ولا يتحرج أن يأنس لكلام أحد تلامذته ويتعاون معه في خدمة الإسلام والمسلمين. وهكذا كان الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله رجلا عظيمًا، وأستاذا مرموقا لا تشغله الخلافات عن عظائم الأمور.
ومما رثاه به العلامة الأستاذ محمد فريد وجدي في مجلة «الأزهر» حيث قال: «…….. ومن مميزات الفقيه ـ رضي الله عنه ـ أنه يأنس إلي البحوث النفسية الحديثة في أوروبا، ويراها خير أداة لكسر شوكة الماديين، فاعتمد في بحوثه على ما حققوه منها، وكان لا يخشي في مجاهرته بذلك لومة لائم».
لا جدال في أن الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي (1870 ـ 1946) كان من أبرز وجوه الحياة العامة والثقافية، وكان كما ذكرنا قادرا على الاتصال بجماهير المثقفين وإبهارهم بعلمه وحفظه وفلسفته وتثبته. وكانت له محاضرات عامة مشهورة ومؤثرة كما كان من أقدر العلماء الذين وظفوا الصحافة في نشر ردوده على الشبهات المكررة في بعض كتابات المستشرقين وهي الشبهات التي كان بعض الكتاب ينقلونها ويكررونها مستغلين ما كان متاحا في ذلك العصر من مناخ الحرية العقلية، لكن الشيخ الدجوي كان قادرا على ان يتعقب هذه الشبهات ويرد عليها، وقد عرف على سبيل المثال بالبراعة في الرد على الدهريين والماديين الغربيين باستعمال منطقهم وأقيستهم العقلية.
دعت جمعية الشبان المسلمين الشيخ يوسف الدجوي للرد على أصحاب النظريات الإلحادية من الغربيين وذلك من خلال محاضرة يلقيها عن “علم الطبيعة وصلته بالإلحاد”. ابتدأ الشيخ يوسف الدجوي هذه المحاضرة بقول العلامة الإنجليزي “سبنسر”: “ليس الغرض من تعلُّم الطبيعة معرفة الظواهر وإنما الغرض هو الوصول إلى الأسباب الباهرة التي نُفسِّر بها هذه الظواهر مع صعوبة هذا الوصول واستحالته في كثيرٍ من المسائل”، والإلحاد لا يجتمع مع التعمق في الدراسات الكونية؛ لأن نسقها المحكم الدقيق يدل على وجود إلهٍ مدبرٍ يُدير الكون.
ثم استند الشيخ يوسف الدجوي إلى قول العلماء بأنَّ ما حصل من الاكتشافات العلمية يدل على أن الكثير منها لا يزال طي الخفاء؛ لأن العلماء يكشفون اليوم ما كان مجهولاً بالأمس، ولو سلَّمنا جدلاً بأنهم عرفوا كل النواميس الطبيعية فإن ما عرفوه ينحصر في مشاهد الأرض وحدها، فلهم أن يقولوا إنا عرفنا عناصرها وتركيبها ولكنهم لا يستطيعون أن يقولوا إنهم عرفوا ما اشتملت عليه العوالم الفسيحة من أسرار، فليست أرضنا إلا ذرة صغيرة بإزائها ويكفي أن تعلم أن الأرض جزء من ألف ألف وثلاثمائة جزء من الشمس، وليست الشمس إلا شيئًا صغيرًا بجانب غيرها.
ونحن لا نجد الدليل على المجهول وعدم الدليل لا يدل على عدم المدلول، أما كنا نجهل الميكروبات والكهرباء آلاف السنين ثم كشف العلم عنهما؟ أيكون جهل الأقدمين بهما دليلاً على عدم الوجود؟ وإذا كان العلم ينقض في غده ما أثبته في أمسه فكيف يكون حجةً قاهرةً على ما جاء به القرآن من أسرار؟ وكيف ينجح من يعلم القليل فينكر وجود خالق السموات والأرض؟ إذا كانت الافتراضات غالبةً في تعليل العلماء فكيف يكون الغرض الاحتمالي يقينًا لا جدلَ فيه؟ واستشهد الشيخ يوسف الدجوي في نهاية محاضرته بقول العلامة “كاميل فلامريون”: إنه من الضلال أن نصدق كل ما يقال، ويساويه في البطلان ألا نعتقد شيئًا أصلاً .
وفي محاضرةٍ أخرى في جمعية الشبان المسلمين حول إثبات الروح استجابةً لاقتراح بعض المشككين انتهج الشيخ الدجوي منهجه الذكي في الاستعانة بالأدلة المنطقية والبراهين العقلية الدامغة.
ذكر أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي أن الدكتور إبراهيم سلامة عميد كلية دار العلوم الأسبق، كان على صلة علمية بالشيخ الدجوي، وأنه راسله في مسائل كثيرة، نذكر منها ما يدور حول حديث «كل مولود يولد على الفطرة» حيث تساءل الدكتور سلامة عن المراد بالفطرة؟ وهل يصل الإنسان إلي الإسلام، وإن نشأ بعيدا عن محيطه؟ فرد الأستاذ ردا مبسطا ملأه بالوقائع المشاهدة لدي الطفل، فهو يدرك بالفطرة أن الجزء أقل من الكل، بدليل أنه يفضل التفاحة كاملة عن الاكتفاء بنصفها، ويعترف بعجزه أمام ما لا يستطيع أن يفعله لقصوره الذاتي، ويفرّق بين الكذب والصدق، إذ يتحاشى بفطرته أن يظهر أمام والده في مظهر الكاذب، ويعرف القبيح من الحسن قبل أن يلج حجرات الدراسة ليتعلم، وهو بذلك كله لابد أن يعتقد أن لكل فعل فاعلا، وأن الإنسان لا يستطيع أن يوجد نفسه، فلابد من خالق!».
«وبهذا الإحساس صار الإنسان قابلا لأن يكون أرفع المخلوقات، فإذا تلقي تعاليم الإسلام مع سلامة فطرته وجدها تسير مع اتجاهه في تيار واحد، فالفطرة في الحديث النبوي، وفي قول الله عز وجل: «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم» (الروم: 30)، معناها قبول الإنسان للحق، واستعداده للدين الصحيح إذا ترك لطبيعته النقية، لأن الإسلام يوائم ميوله الأصيلة كل المواءمة، يقول الزمخشري في تفسير قول الله تعالي: «فطرة الله التي فطر الناس عليها»، أي الزموا فطرة الله القابلة للتوحيد ودين الإسلام».
ظل الشيخ يوسف الدجوي لسانا فصيحا من ألسنة الأزهر في عهده، مستحوذا على ثقة الكبار من رجاله في علمه وفضله. ويروي أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي أن باحثا أمريكيا هو إيفان م. دي أرسل خطابا إلي شيخ الأزهر الأستاذ الأكبر سليم البشري، يذكر فيه أنه اعتنق الإسلام، كما اعتنقه ألوف من أبناء أمريكا الجنوبية لأسباب نبيلة دعته إلي ذلك، ويريد أن يكون داعية لهذا الدين، لكن معلوماته عنه لا تكفي لتصوره في الحديث عن الإسلام في وسط يناقش الحجة بالحجة، ويدحض الدليل بالدليل، ويرجو من مشيخة الأزهر أن تدله على كتاب ينقع الغلة، ويشفي الأوام، فعهدت المشيخة إلي الأستاذ يوسف الدجوي فقام في أيام معدودة بتأليف كتاب «رسائل السلام».
ويعد هذا الكتاب واحداً من أبرز الكتب التي تعرضت للجوانب الأخلاقية في الدين الإسلامي، ونبهت إلى أن الجانب الأخلاقي يمثل أساس السلوك الناجح في المجتمع الإسلامي، كما أنه من الكتب التي تعرضت للحديث عن مزايا التشريع الإسلامي باقتدار، وفي الطبعة الأخيرة من هذا الكتاب ملحقان مهمان لم تشملهما الطبعة الأولي، إذ نشرت الصحف خلاصة لما كتبه العالم الأديب الإنجليزي هـ.ج. ويلز في مؤلف تاريخي عن الإسلام ورسوله، وكلها تخرصات باطلة لم يوح بها اطلاع بصير، أما الملحق الثاني فقد تضمن نقد الأستاذ الدجوي ما كتبه الأستاذ محمود عزمي عن الشريعة الإسلامية، إذ كتب في «الأهرام» مقالات يدعو فيها إلي ترك الشريعة الإسلامية جانبا.