يجادل كثيرون من أبناء جيلنا والجيل السابق عليه في عظمة الدكتور عبد الرحمن بدوي وعبقريته ومكانته، ويظنون أنه نال أكثر من حقه، بل يذهب بعضهم إلى أنه نال أكثر من حقه بكثير، وواقع الأمر في رأيي أن العلامة المفكر الدكتور عبد الرحمن بدوي لم يحصل حتى الآن على واحد في المائة من حقه.
تعوّد القُرّاء مني أن أقدم أمثلة عملية مباشرة أدعم بها ما أقول وألجأ فيها إلى نصوص أصحابها من دون أن أحمّل هذه النصوص أصداء آراء سابقة، وربما تساءل هؤلاء كيف يُمكن لي أن أسلك مثل هذا السلوك مع عبد الرحمن بدوي؟ وهو الذي كان بكتاباته صاحب أحكام مُسبقة قاطعة يُدافع عنها بكلّ ما يملك، هل أناقش أحكامه فأدخل في جدل، والجدل لا يرفع قدر من تتجادل معه، لأنك بحكم وجود القلم في يدك سوف تنحاز لرأيك أو لنفسك؟ أم هل تذكر آراء الآخرين، وتكون مضطراً إلى ذكر فضل للآخر في مقابل فضل عبد الرحمن بدوي؟
الحقيقة أنني لن ألجأ إلى هذا الأسلوب فحسب ولكننني سأعتمد عليه، ولهذا فسأعرض على القارئ نصاً من نصوص عبد الرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية، وسأختار نصاً له يتحدث فيه عن علم (مشهور وغير مشهور) من أعلام الفلسفة، وسيُطالع القارئ النص بعد أن أقدم هذه التعليقات التي تثبت من وجهة نظري أن عبقرية عبد الرحمن بدوي لا حدود لها فهو في فقرة واحدة يُقارن العلم الذي يُعرّف به بثلاثة من أعلام الفلسفة الوجودية المعاصرين له، فيصدّر لنا ما أصدره من أحكام على هؤلاء الأربعة، فالعلم الذي يتحدث عنه هو يسبرز (هكذا كان يكتب اسمه الذي يكتبه الآخرون : ياسبرس) أقرب الأربعة إلى أستاذ الأربعة أبي الوجودية كير كجور.
وهو هنا يصف هيدجر بالغموض وجفاف اللغة وضراوة الاصطلاحات وذلك على الرغم مما هو معروف عن هيدجر من عنايته باللغة حتى قيل إنه عاش في اللغة وهو ما تحدثنا عنه في مدونتنا عن الدكتور عبد الغفار مكاوي. ويصف سارتر بالعبث وفجاجة الدعاوى يقصد بهذا تطرّفه في طرح أفكار فلسفية بعيدة عن المعهود والمتوقّع، ويصف جبريل مارسل بتخلخل التحليل وتهلهل التفكير، هكذا يقرر عبد الرحمن بدوي بكلّ قوة ودون أن يهتز له جفن، وبالطبع فإن له أسانيده، كما أن لغته لا تخلو من النزعة الخطابية، ومن الطريف أنه في إحدى المرات وفي موضع مختلف وصف الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بأن احكامه لا تخلو من هذه النزعة الخطابية.
على أن أهم ما يُميّز أحكام عبد الرحمن بدوي هو ميله للإنصاف على الرغم من حدة أحكامه، وأذكر هنا رد فعلي حين أصدر مذكراته أكثر من عشرين عاماً وهاجم فيها كثيرين وانصرف كلُّ من كتبوا عن هذه المذكرات إلى الحديث عن هجومه على هذا او ذاك، ذلك أني آثرت في عرضي لهذه المذكرات أن اتحدث عن إنصافه لمن أنصفهم وهم كثيرون.
ومن تجلّيات الإنصاف في أحكام عبد الرحمن بدوي أنه يحاول دوماً إيجاد وصفة مُميّزة لكل صاحب إنتاج مهما كان مختلفاً معه، ولهذا فإنه كما سوف نرى في هذا النص يُبلور للسابقين ما لم يُبلوروه لأنفسهم كما أنه وهذا معنى مهم من معاني الإنصاف لا يقف بالأستاذية والتلمذة عند حدود الأستاذية المباشرة والتلمذة المباشرة التي تقتضي وجود علاقة معاصرة بين الأستاذ والتلميذ، وإنما هو على سبيل المثال يتحدث على هؤلاء الأربعة على انهم تلامذة كيركيجارد (1812 ــ 1855) بينما انهم عاشوا حياتهم الدنيا في غير عصره، وإن كانوا فيما بينهم لم يكونوا بعيدين عن معنى المعاصرة أو. فهايجر (1889 ــ 1976) ومثله جبريل مارسيل (1889 ــ 1973) أما يسبرز الذي نقلنا تعريفه به فسابق عليهم بسنوات قليلة (1883 ــ 1979ومع هذا فإنه على طريقة العرب في كتابة الوفيات يدخل معهم من عاصرت وفاته وفاتهم وإن كان أصغر منهم وهو سارتر (1905 ــ 1980) وذلك باعتبار شهرة سارتر وتداوله وحصوله على نوبل (1964) وزيارته لمصر وقصته مع عشيقته.. الخ.
ثم إن الدكتور عبد الرحمن بدوي يُقدم حياة يسبرز بمنتهى القدرة على التصوير السيكولوجي لنفس تدرجت في تطلُّعاتها وقراراتها، وهو يفعل هذا باقتدار وكأنه كان مع الرجل في مراحل حياته، قريبا منه، يستمع على سره، ونجواه ويُناقشه في قراراته ويُشاركه في الاختيار الذي فضله او يُعارضه فيما اختاره، يفعل عبد الرحمن بدوي هذا كله بمهارة أديب قادر على القص من دون فقدان لما يتطلّبه فن القص من الحبكة الفنية والتصوير الفني والصدق الفني، فإذا انت في النهاية امام لوحة نادرة قادرة على أن تبين لك الحقيقة من جميع زواياها وإذا أنت مُعجبٌ بإدراك الدكتور عبد الرحمن بدوي أو تصوره للمؤثرات القوية في حياة ذلك الرجل على نحو ما فعل من تعويله على أثر زيارة مدينة روما في جعله مليئا بالانفعالات النبيلة. وإذا أنت تتابع الرجل وهو ينتقل بين دراسة القانون والفلسفة والطب وعلم النفس وتدريس علم النفس والفلسفة وكأنك لا تستشعر تغيرا شاذاً قد حدث وذلك لأن الدكتور عبد الرحمن بدوي أجاد تسويغ الانتقالات وتبريرها ووضعها في إطارها الفني.
ولنقرأ بعض مقدمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في الحديث عن هذا الفيلسوف: «كان يسبرز من بين الفلاسفة الوجوديين المعاصرين أغزرهم إنتاجاً وأوضحهم تفكيراً وأوسعهم اهتماماً وأقربهم إلى التفكير الإنساني العام. ليس فيه غموض هيدجر، ولا جفاف لغته ولا ضراوة اصطلاحاته، وليس فيه عبث سارتر ولا دعاواه الفجّة، وليس فيه أخيراً تخلخل التحليل ولا تهلهل التفكير اللذان يُميّزان جبريل مارسل. وهو قبل هؤلاء جميعاً أشدهم تأثراً بأبي الوجودية كير كجور: عُني به منذ بداية اتجاهه الفلسفي الخالص، وأخلص له، وإن كان لم يطرق الموضوعات التي طرقها وبالطريقة التي لجأ إليها.
“ولد كارل يسبرزKarl Jaspers في الثالث والعشرين من فبراير سنة 1883 بمدينة أولدن برج في ألمانيا، وأمضى طفولة هادئة، مقيماً معظم الوقت في الريف أو على شواطئ بحر الشمال. وربّاه أبواه على حب الحق والإخلاص في العمل، دون الارتباط بمراسم دينية فيما عدا قليلاً من الطقوس البروتستنتية ثم درس في مدارس أولدن برج، وفي سنة 1901 دخل الجامعة”.”ولم يكن طريقه المعتاد الذي يسلكه أساتذة الفلسفة فلم يتخصّص في الفلسفة في الجامعة، بل في الطب، لأنه بدا له أن الفلسفة كالشعر لا يمكن أن تكون دراسة للتخصص يُصبح المرء بعدها فيلسوفاً بيد انه كان في عهد الطب مشغولاً بالمسائل الفلسفية وتبدت له الفلسفة رسالة الإنسان العليا، بل الوحيدة في الوجود. لقد كان يرهب جلال الفلسفة فمنعته هذه الرهبة وهذا الإجلال من اتخادها حرفة في الحياة، ورأى أن مهنته الحقيقية يجب أن تتعلق بالحياة العملية.
فقرّر بادئ الأمر أن يدرس القانون، ليكون محامياً، وفي الوقت نفسه كان يحضر محاضرات الفلسفة غير أن هذه المحاضرات في الفلسفة خيّبت رجاءه، لأنها لم تُعطه شيئا مما رجاه من الفلسفة، فلم يجد فيها تجارب أساسية تتعلّق بالحقيقة الواقعية، ولا دليلاً هادياً إلى الحياة الباطنة والتربية الذاتية، بل كلّ ما قدمته له كان خليطاً من الآراء الجدلية زعمت مع ذلك أن لها قيمة عملية، كذلك لم تُرضه دراسة القانون، لأنه لم يكن يعرف الحياة التي يُمكن أن تُفيد فيها، ولم ير فيها غير طريقة شاذة غريبة للجدل والمراء والسفسطة بواسطة افتراضات جوفاء لا تثير الاهتمام. لقد كان يبحث عن نظرة في الواقع، ولم يجد في دراسة القانون ولا في محاضرات الفلسفة التي تلقاها آنذاك ما يُعينه على إيجاد هذه النظرة في الوجود وفي الحياة.
“واستبد به الضيق فراح يُعزّي نفسه بالاهتمام بالفن والشعر، وزار روما سنة 1902 حتى يتملّى بجمال هذه المدينة الخالدة وينعم بروائعها الفنية فعاد من هذه الرحلة مليئا بنبيل الانفعالات. ثم انتهت هذه الحياة الدراسية المضطربة بنهاية الفضل الدراسي الثالث في الجامعة، إذ قرّر نهائيا التخصص في الطب. لقد أحس بالحاجة إلى معرفة الإنسان معرفة تقوم على الوقائع. وعكف على العلوم الطبية والطبيعية المرتبطة بالطب، وأصبح وقته موزّعاً بين المعمل والمستشفى. وكان هدفه أن يُصبح طبيبا، ولعله كان يطمح ببصره إلى أن يكون أستاذاً في كلية الطب، أستاذاً لعلم النفس والأمراض العقلية. وفعلاً بدأ سنة 1909 ينشر أبحاثاً في الأمراض النفسية، وفي سنة 1913 حصل على دكتوراه التأهيل لتدريس علم النفس.
“ولم يكن يسبرز يهتم بالسياسة ولا الأحوال الاجتماعية، بل كان يكرّس كلّ تفكيره لأعمال الروح، أعنى للبحث العلمي الخالص في ميدان العلوم النفسية والامراض العقلية”. “إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 فشعر شعوراً عنيفا بما للمشكلات السياسية والتاريخية والاجتماعية من أهمية بالغة التأثير في حياة الإنسان. هنالك أحس بأهمية الفلسفة وكان عمله في التدريس في الجامعة مقصوراً على علم النفس، لكن تبيّن له شيئاً فشيئاً أن دراسته للنفس إنما هي تحضير للخطوط العامة لإيضاح الوجود. لأنه لم يفهم من علم النفس مجرد الدراسة التجريبية لوقائع الحياة النفسية وقوانينها، بل في المقام الأول دراسة إمكانيات النفس ابتغاء معرفة ما الإنسان، وماذا يستطيع أن يكون، وماذا يستطيع أن يفعل.
“وحصل يسبرز في سنة 1921 على كرسي الاستاذية في الفلسفة، ولكن اتجاهه ظل برغم ذلك كما كان من قبل، واستمر كذلك حيناً إلى أن تبيّن له بكلّ يقين أنه ليس ثم في الجامعة فلسفة حقيقية، فأحس بضرورة البحث فيما هي الفلسفة الحقة وكيف يجب أن تكون، ومن هذا التاريخ -وقد شارف الأربعين- كرّس نفسه نهائياً للفلسفة فجعل منها واجبه وغايته. أدرك يسبرز أن الفلسفة ليست إدراكاً لصورة العالم وشكله، فهذا من شأن مجموع العلوم في حركة تطورها المستمر وليست الفلسفة نظرية المعرفة، فهذه فصل من فصول المنطق، وليست تحصيلاً للمذاهب والمدارس التي نشأت على مدى تاريخ الفلسفة، فما هذه غير نظرات”.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا