الأستاذ خالد محمد خالد ١٩٢٠- ١٩٩٦ أشهر من أن يعرّف، وقد كتبت أكثر من ترجمة لحياته وفكره وإسهاماته ومواقفه ، منها تلك التي نشرتها منذ ربع قرن (الأهرام : 4 مارس 1996) غداة وفاته مباشرة تحت عنوان: «خالد محمد خالد: ضمير مضيء لأمته وشعبه»، وأعدت نشرها في كتابي «مصريون معاصرون»، لكني بالطبع أجد نفسي في حاجة إلى تقديم نبذة من عدة سطور كي يستأنس القارئ بها في مطالعته اليوم ، فعلى مستوى الحياة العادية نذكر أن الأستاذ خالد تخرج في الأزهر (1947)، وعين في الفيوم، ثم في الجيزة، وبقي مدرسا حتى 1956 حيث انتقل للعمل في الإدارة العامة للثقافة، ثم في وزارة الثقافة، وانتهت حياته الوظيفية قبل وصوله سن التقاعد مشرفا على تحقيق التراث في الهيئة المصرية العامة للكتاب. وقد آثر الرجل أن يتقاعد قبل وصوله إلى سن التقاعد، وكذلك فعل في كل حياته، فمع كل هذا اللمعان الفكري، والتألق الذي حظي به فإنه لم ينل من حظوظ الدنيا والسياسة شيئا مذكورا، وكأن كبار رجال الحكم كانوا يقولون علنا وسرا: يكفي أننا لم نسجنه ولم نعذبه!
كان الأستاذ خالد محمد خالد نموذجا فريدا في الفكر العربي المعاصر، لأنه استطاع بانتماءاته التي لم تمتزج ولم تختلط على أرض الواقع بأوربا (شرقية كانت أو غربية) أن يصل إلى ما لم يصل إليه غيره في الفكر السياسي على مستوى الفهم، وعلى مستوي التطويع، وعلى مستوي الجدل والمناقشة، وتمثل تجربته الفريدة صورة عقل ذكي دعمه فؤاد محب للوطن وللشعب، ولهذا فإنه كان ينحاز للتقدم قبل أن ينحاز للفكر التقدمي، كما كان ينحاز للغايات النبيلة من دون أن يحصر نفسه في الطرق التقليدية لها.
لهذا كان من السهل على الأستاذ خالد محمد خالد أن يراجع أفكاره ومعتقداته، كما كان من السهل عليه أن يراجع أفكار الآخرين ومعتقداتهم، صحيح أنه كان متحمسا لما يؤمن به، وكان تحمسه يذهب به إلى الاندفاع، لكن أحدا لا يستطيع أن يقول إنه كان يتصنع الحماس في الاندفاع.
ومع أن أغلبية القراء الآن يحبون مراجعات الأستاذ خالد محمد خالد بأكثر مما يحبون أفكاره الأولى، فإن هناك مَنْ يحبون أفكاره الأولى من دون مراجعاته، وقليل من القراء مَنْ يحبون أفكاره الأولى ومراجعاته على حد سواء.
وقد نشر الأستاذ خالد محمد خالد مذكراته في جريدة «الأخبار» التي ربطته بها علاقة حب ومودة، ثم نشرها قطاع الثقافة في «أخبار اليوم» في كتاب جميل الإخراج، وقد اتخذ لمذكراته عنوان «قصتي مع الحياة»، وكان من الذكاء بحيث انتبه إلى ما كان القراء يريدون أن يقرأوه من تاريخه الفكري، وجاء اهتمامه هنا على حساب تاريخيه العلمي والوظيفي، اللذين ألم بهما بأسرع ما يكون دون أن يحس القارئ أن شيئا قد فاته في مثل هذين التاريخين.
كذلك فإننا لا نراه قد عني بأي صراع وظيفي مر به، ولا بأي أزمة مالية أو مادية تغلب عليها، وإنما هو معنى بخط واحد رآه مهما، وقد كان كذلك بالفعل.
شجاعته العقلية النادرة
ولعلي أكرر بعض ما قلت في رثائه مما يضيء طريقنا ونحن نتدارس حياته.. فقد تمتع هذا الرجل العظيم بقدرة غير محدودة على اختراق غيوم الحاضر ليرى المستقبل. وتمتع مع هذا بشجاعة فائقة على أن يأخذ بيد أمته ليريها هذا المستقبل، وكان واحدا من قلائل استطاعوا أن يشكلوا فكر الرئيس جمال عبد الناصر وتطلعاته إلى خدمة بلاده قبل أن تقوم الثورة.
وربما كان السبب وراء ذلك هو طاقة الصدق الرهيبة التي حملتها كلمات الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه «من هنا نبدأ»، والتي لقيت تعطش قلب الرئيس جمال عبد الناصر وهو يومها في تصويره لنفسه: القلب الثائر الباحث عن الحقيقة وعن الحل في آن واحد.
وكان الأستاذ خالد محمد خالد بحكم ثقافته الأزهرية المتكاملة والمتمكنة، وبحكم خياله القادر على صياغة الرؤية وصناعتها، وبحكم إخلاصه غير المحدود لتراب هذا الوطن ولدماء هذا الشعب، قادرا على أن يقدم للرئيس جمال عبد الناصر ولأمثاله ذلك الضوء الذي يبدد ظلام اليأس الذي يخيم على الذين اضطرتهم الظروف لأن يعيشوا في مغارة صنعتها الأهواء المتنافرة بحسن نية.
وكانت حياتنا السياسية يومها قد أصبحت (رغم الثراء الفكري العظيم، والليبرالية الناهضة بعد الحرب العالمية الثانية) بمثابة المغارة الفكرية أمام الشباب الوطنيين، وكانت في هذه المغارة أكثر من كوة (فتحة) ترشد هؤلاء الشبان إلى اتجاهات سياسية نشطة في ذلك الحين، ولكن أمثال الرئيس جمال عبد الناصر الذين لم يبخلوا على أنفسهم بالتجربة إلى منتهاها كانوا قد وصلوا إلى أن هذه الطرق قد لا تؤدي إلا إلى مغارات أخرى. فلما جاء الأستاذ خالد محمد خالد وكتب «من هنا نبدأ»، وجد هؤلاء في كتابته ضوءا جميلا يقودهم إلى الخروج من المغارة، وإن لم يكن هذا الضوء صادرا عن فتحة تقود إلى مغارة أخرى.
بعده عن الإيمان بالديماجوجية
أحب أيضا أني أشير إلى حقيقة مهمة وهي أنه كان في وسع الأستاذ خالد محمد خالد، بشيء من التنازل عن الإيمان بما اعتقد، أن يُصور في أذهان الجماهير زعيما كبيرا، ولكنه كان أبعد الناس عن الإيمان بالديماجوجية، ولهذا كان يخشى السبيل الذي قد يقود إليها أو يستظل بها في أية صورة من الصور.
وكان في وسع الأستاذ خالد محمد خالد أن يسعى إلى المناصب الرفيعة، ولكنه كان يعرف قدر نفسه، وكان يؤمن بأن إمساك مصباح الهداية والإرشاد أعظم أثرا من إمساك عصا المارشالية أو عصا المايسترو وأعظم أثراً كذلك من إمساك العصا من الوسط.
ولهذا ظل الأستاذ خالد محمد خالد يبدع ألحان الفكر وخطط المجابهة دون أن يقود الفرق التي تعزف ألحانه أو تنفذ خططه. وكان يمتلك من عبقرية فهم التاريخ قدرا هائلا من الفهم الصحيح لتميز دور المبدع علي دور المايسترو.
يذكر التاريخ السياسي للأستاذ خالد محمد خالد موقفيه العظيمين في عام 1954 وفي عام 1962. وكلمات الأستاذ خالد محمد خالد في الموقفين تستحق أن تكتب بماء الذهب كلما نقلنا عنها في كتاباتنا التاريخية، وأستطيع أن أزعم ـ وتحت يدي كل ما كتب في أزمة مارس عام 1954 ـ أن أحدا من مفكرينا وكتابنا العشرة الذين أدلوا بدلوهم يومها في هذا الموضوع، لم يفتح الله عليه بما فتح به على الأستاذ خالد محمد خالد في المقالين الذين كتبهما بعنوان «الإخوان والشيوعيون والثورة»، ووضع فوق المقالين قول فولتير الخالد «لا وجود لوطن حر، إلا بمواطنين أحرار».
ويبدو أننا لا نزال حتى الآن على سبيل المثال بحاجة إلى قراءة هذين المقالين اللذين نشرهما الأستاذ خالد محمد خالد في صحيفة الجمهورية في 16 و20 مارس عام 1954، وإن لم يشر إليهما في مذكراته بما يستحقانه.
أما في مناقشات اللجنة التحضيرية للميثاق فقد كان الأستاذ خالد محمد خالد بشجاعته الفائقة (وبقرار محنك من الرئيس جمال عبد الناصر الذي منع البطش به من ناحية أخري) بمثابة البطل الإغريقي في مأساة مصر في الستينات، أو بمثابة الرجل العربي القديم الذي كان يتأسف على حال قومه الذين لم يتبصروا ما قاله إلا بعد وقوع الواقعة فصارت أقواله مضرب الأمثال.
ولقد أشار الأستاذ خالد محمد خالد يومها فيما سجلته كل المحاضر وكل الكتابات التاريخية إلى إنه لابد من إطلاق الحريات والسماح بإنشاء الأحزاب وحرية الصحافة، وأنه لابد من الحرية للجميع حتى للمعزولين سياسيا.. وسخر في أدب رفيع من فكرة حماية الثورة من أعدائها وقال: إن الثورة أخذت فرصتها ولو مضت في هذه الإجراءات فإنها ستتورط في دكتاتورية معوقة.. وكأنه كان يقرأ المستقبل.
وما من كتاب ينتمي إلى اتجاه فكري كائنا ما كان، وما من كاتب إلا استشهد بحوار الأستاذ خالد محمد خالد يومها مع الرئيس عبد الناصر، ووظفه لخدمة ما يريد أن يقوله، حتى إنك تجد الاتجاهات المتنافرة والمتناقضة تماما وهي تتفق في الاستشهاد بحوار الأستاذ خالد مع الرئيس عبد الناصر أو في الإفادة منه وتوظيفه.
وليس هذا بغريب على «الضوء» و «النور» الذي يحرص كل الناس على الإفادة منها في مسالكهم.. وهذا هو الدليل الحي على أن الأستاذ خالد محمد خالد كان نورا مضيئا في ضمير أمته العظيمة.
حبه للتفلسف فيما رواه من المذكرات
تحفل مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد بكثير جدا من التفلسف، وليس بوسعنا أن نصف التفلسف بالصادق أو الكاذب، أو الصحيح أو الخاطئ، أو المفيد أو الضار، أو الخصب أو العقيم، لكننا نستطيع أن نقول إن كثيرا من فلسفات الأستاذ خالد محمد خالد تبدو وكأنها تحصيل حاصل، لكن مثل هذا القول قد يمثل ظلما لرجل مجتهد حاول دوما أن يفكر، ووصل كثيرا إلى الصواب. بيد أننا نستطيع أن نقول أيضا إن كثيرا من الأحكام التي ساقها إلينا الأستاذ خالد بعد تعبه وجهده في الوصول إليها.. أحكام علمية معروفة في التخصصات والميادين التي ندرسها، ومع هذا فإن نظرة الرجل الصادق دفعت الأستاذ خالد محمد خالد إلى التفكير المتئد والمتكرر فيها حتى وصل إلى الصواب.
ومن واجبنا تجاه القارئ أن ننقل عن الأستاذ خالد محمد خالد ما أشار به في مذكراته إلى السبب الحقيقي لرجوعه عن موقفه القديم الشهير في كتاب «من هنا نبدأ»، ملقيا السبب على توجهات الرئيس السادات الفكرية التي جعلت الرئيس السادات يردد بعض الشعارات التي استنفرت أفكاره، ومن الإنصاف أن نترك الأستاذ خالد محمد خالد نفسه يتحدث عن تاريخه مع الفكرة ونقدها ومراجعتها والخروج منها إلى فكرة جديدة أكثر توفيقا، وقد واصل الأستاذ خالد محمد خالد الحديث في هذه الجزئية مشيرا إلى بعض النصوص التي وردت في كتابه الأول، ومواجها نفسه بأفكار طائفة جديدة من أصحاب الفكر الديني لم تكن موجودة في زمن نشره لكتابه الأول، ومع أنه يبدو كما لو كان يطوع كتابه القديم للمعارك الجديدة التي شاركت فيها الدولة نفسها، فإنه يصدر عن فكرة صائبة، ورؤية تتعظ بالتاريخ، فتبدو متأثرة بأحداثه وتجاربه:
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الأستاذ خالد محمد خالد تحدث في صراحة وشجاعة عن الخطأين اللذين جعلاه ينادي بالأفكار التي نادي فيها في كتابه الأول «من هنا نبدأ»، وهو يتحدث في مذكراته حديث رجل ناضج صقلت التجربة فكره، وكشفت عن مواطن الخطأ في استنتاجاته الأولي، ويبدو كما لو أنه يتمنى على الله ألا يندفع آخرون إلى ما اندفع إليه في ظروف أقل اضطرابا، وأكثر قدرة على تحرير العقل والوجدان:
وقد لخص الأستاذ خالد محمد خالد موقف الرئيس عبد الناصر منه ومن آرائه في قصة طريفة موحية تعبر عن طبيعة الزعيم صاحب الموقف الذي كان يحترم الشخص وطريقة تفكيره، لكنه لا يعمل بالفكرة التي يقدمها ولا يحترمها! وكأنما كان الرئيس عبد الناصر يحترم الأداء لا الموضوع، ويحترم الأسلوب لا المعنى، شريطة أن يتوافق الأسلوب والأداء مع مصالحه أو مع توجهاته، على أن الأستاذ خالد محمد خالد سرعان ما يصدمنا بقصة من قصص المفارقات والسراديب، نرى فيها الرئيس جمال عبد الناصر يستعمل نصوص الأستاذ خالد محمد خالد التي أعجبته فلا يشير إلى صاحبها، ونرى طرفا ثالثا هو جريدة «المصري» التي آثرت أن تشير إلى الحقيقة في شجاعة، ونرى طرفا رابعا هو الرئيس محمد نجيب يشير إلى هذه الواقعة من طرف خفي. ونري الرئيس عبد الناصر بعد كل هذا لا ينسى ولا يسامح مَنْ كشفوا حقيقة سلوك له، كهذا، يستدعي النقد!!
السجال الشهير بين الرئيس عبد الناصر والأستاذ خالد محمد خالد
تزداد معرفتنا بطبيعة العلاقة بين الرئيس عبد الناصر والأستاذ خالد محمد خالد حين نقرأ ما يرويه من ذكرياته التفصيلية عن الحوار الشهير الذي دار بينه وبين الرئيس عبد الناصر في اللجنة التحضيرية للميثاق الوطني، مقدما حديثه هذا بكل ما يمكن له من شعور مناهض لفكر الثورة ورجالها في هذه الجزئيات الخطيرة.
وقد آثر الأستاذ خالد محمد خالد أن يورد نص مداخلته في اللجنة التحضيرية للميثاق في الفصل الرابع والأربعين من مذكراته (أي قرب نهايتها) تحت عنوان «التضحية بالديمقراطية»، ومع أن هذا الحوار طويل فإن تجربتنا الثورية مع الديمقراطية أطول منه، لهذا فإننا لا نري ما يمنع القراء أو يمنعنا من أن نتأمل بعض الوقت في عناصره وأفكاره ، وقد نقل الأستاذ خالد محمد خالد هذه الفقرات عن المضابط الرسمية لاجتماعات اللجنة المذكورة والمنعقدة خلال نوفمبر وديسمبر سنة 1961 معترفاً بأنه اختزل بعضها بسبب المساحة المتاحة، وبهذا قدم خدمة جليلة للتاريخ .
في هذه المناقشات كان الأستاذ خالد محمد خالد يلقي بالمثل التاريخي الناصع أمام الرئيس عبد الناصر، لكن الرئيس الحريص على السلطة، وعلى تطبيق معتقداته كان يفاجئ المفكر وقارئ التاريخ بما لم يكن على باله، فهو يشرح للمفكر أن معنى الديمقراطية يختلف في ظل الاشتراكية، وهو يفرق بين الشيء ونفسه بما يسعف تطبيقه من محاولة تأصيل مصطنع: لكن الأستاذ خالد محمد خالد يعود ليناور الرئيس من أجل غايته النبيلة ويقول له في بلاغة وذكاء: إنه لا يطلب «الرحمة» لمن يسميهم الرئيس أعداء الشعب، لكنه يطلب لهم «العدل»:
وعندئذ يبدأ الرئيس عبد الناصر دفاعا عن سلوكه على طريقة الهجوم والتحذير، حتى إنه يصل إلى القول بضرورة تعبئة الشعب دفاعا عن الثورة، وهو يبدو وكأنه يهدد الأستاذ خالد محمد خالد من طرف خفي، لكنه في واقع الأمر لم يكن في حاجة إلى تهديده، ولا إلى تهديد غيره، فقد كانت الرسالة قد وصلت وآتت ثمارها نتائجها، لكن توكيدها على لسان الزعيم لم يكن يضر:
ويجد الأستاذ خالد محمد خالد نفسه مضطرا إلى الاعتراف بفضل الرئيس جمال عبد الناصر عليه، ويكرر نظريته (الصناعية أو المصطنعة) القائلة بأن الرئيس عبد الناصر لم يكن يكره النقد، وإنما كان يكره الحقد، وهو كلام كان يسعد الرئيس عبد الناصر، ويبرر له كثيرا من سياساته، بل إن عبد الناصر كان يسعي إلى سماعه، كما كان يسعد بصدوره عن شخصية من طراز الأستاذ خالد محمد خالد نفسه:
وعند هذا السؤال الحرج المحرج يلجأ عبد الناصر إلى نظريته التي انفرد بها قبل غيره، وهي الحديث عن ديمقراطية أخري غير تلك التي تعرفها الكتب والأدبيات والممارسات، وهو من أجل دفاعه عن فكرته لا يجد مانعا من أن يواصل ما درج عليه طيلة سنوات متتالية من السخرية من الديمقراطية بذكر بعض التجاوزات التي حدثت في ظروف ديمقراطية، وهو أسلوب كان عبد الناصر يعتقد في صوابه وفعاليته، بل إنه حتى وإن لم يكن (هو أو غيره) يؤمن بصحته فقد كانت تكفيه جدواه المباشرة ، وكان الرئيس عبد الناصر ينتهز الفرصة للحديث عن رأيه في تجربة العسكرة المبكرة التي استلهمتها ثورة يوليو، وهي تجربة أتاتورك، ويطرح عبد الناصر في استعلاء شديد، وذكاء أشد وجهة نظره في ضرورة الثورة الاجتماعية ضمانا لنجاح الثورة السياسية، وعدم موتها على نحو ما حدث في تركيا، ومن العجيب أن كل أعضاء اللجنة التحضيرية للميثاق سمعوا هذا الكلام دون تعليق، ومن العجيب أيضا أنهم بعد سنوات قليلة وجدوا هذه الثورة الاجتماعية نفسها تطيح بعبد الناصر ونظامه بأسرع مما أطاحت الظروف بثورة أتاتورك.
انتصار فكرة الأستاذ خالد
ومع هذا فقد كان الأستاذ خالد محمد خالد يخترق حجب الغيب ويرى الحقيقة، ويعبر عنها كما لم يعبر عنها غيره من الذين حضروا هذا الجدل الجميل. وقد واصل الرئيس عبد الناصر حديثه في هذا الصدد فطرح رؤيته عن تصوره للتطور الحزبي الممكن في مثل هذا الظرف الثوري على حد تعبيره، وقد وصل عبد الناصر بعد ردود مطولة كان يردْ بها وهو مجهد على فقرة واحدة لخالد محمد خالد، إلى الحديث عن علاقة الثورة المصرية بالشيوعية، وعلاقة «الاشتراكية» العربية التي نادى هو بها بالشيوعية.
ومن الطريف في مطالعتنا لمحضر هذه الجلسة وبعد هذا الطرح المطول والكلام الكثير أننا نجد الأستاذ خالد محمد خالد يسارع بالرد ليقول إنه يكره كثرة الكلام، وبالطبع فإن المناخ التأليهي الذي كان عبد الناصر قد وصل إليه لم يكن ليسمح بأن نفسر هذه العبارة علي أنها عائدة على كلام عبد الناصر الكثير، وإنما كان المنطقي أنها تقدم اعتذار خالد عن فكرة أن يتكلم بعد كل هذا الإيضاح الذي قدمه عبد الناصر، ومن الإنصاف أن نبدي إعجابنا العميق والشديد بهذا الذي فعله الأستاذ خالد محمد خالد حين قال مباشرة: إنه يؤمن بأننا لا نمارس ثورة (لا اجتماعية ولا اشتراكية) وإنما نمارس تحولات فحسب. وبمثل هذه العبارات الصادقة والملهمة أنهى الأستاذ خالد محمد خالد (ببراعة) كل تأثير (ممكن) لنظريات عبد الناصر:
وعند هذا الحد كان الأستاذ خالد محمد خالد يتصور أن بإمكانه أن يصل إلى حل عبقري لمشكلة غياب الحرية في المجتمعات الاشتراكية، ثم ها هو يرمي القفاز ليقول إن الديمقراطية أبسط من أن تعقّد على نحو ما عقّدها الرئيس عبد الناصر، وإن علاقة النظم ببعضها لا تحتاج كل هذا التنظير أو التعليل، ومن العجيب أن منطق الأستاذ خالد محمد خالد كان من الذكاء والقوة بحيث إن منطق عبد الناصر لم يصمد أمامه، وإن صمدت أمامه بالطبع سطوة عبد الناصر وجعلته هباء منثورا لولا أن المحاضر حفظت هذه النصوص الجميلة.
حله الذكي للتوفيق بين موقفنا من الرأسمالية والاشتراكية
وقد قدم الأستاذ خالد محمد خالد في هذه المناقشة حلا في غاية الذكاء والتوفيق لفهم موقفنا من الرأسمالية والاشتراكية، وقدرتنا علي الاختيار بين هذه وتلك، وقد صاغ آراء ذكية وبسيطة عبرت عن فهم عميق لتحولات التاريخ هنا وهناك، كما عبرت عن دراسة متأنية للمذاهب السياسية والتاريخية في تجلياتها النظرية، وفي تجلياتها الفعلية علي أرض الواقع، و وصل الأستاذ خالد محمد خالد إلى تحديد نقاط التوجه الضروري نحو الديمقراطية من أجل تحقيق مصلحة الشعب ونظامه، حتي إننا نراه وهو ينصح بالإفادة من نتائج تجارب الشعوب والنظم السياسية التي عزلت من أسمتهم «أعداء الشعب» ثم أخفقت في تجربتها علي نحو لم يكن الرئيس عبد الناصر نفسه يتصوره ، لكن الرئيس عبد الناصر بدأ يجادل الأستاذ خالد محمد خالد مجادلات لفظية يؤكد بها علي صحة توجه الثورة، وعلي ما يدل علي إقرار الأستاذ خالد محمد خالد نفسه بثوريتها مستغلا نصا لجأ الأستاذ خالد فيه إلى لفظ الثورة للحديث عن التجربة التي كانت قائمة، وهو أمر طبيعي لم يكن لينقض فكرة خالد محمد خالد، لكن الرئيس عبد الناصر رأي فيه بذكائه ما يساعده علي الانتصار اللحظي في مثل هذه المناقشة، وهكذا وجد الرئيس عبد الناصر أن من الضروري له في مواجهة هؤلاء الحاضرين أن يعيد بلورة الخلاف بينه وبين الأستاذ خالد محمد خالد في فهم الديمقراطية، والديمقراطية السليمة.
ثم وجه الرئيس جمال عبد الناصر حديثا مباشرا إلى الأستاذ خالد محمد خالد أخذ يلقي فيه باللوم علي خالد نفسه فيما وصلت إليه الثورة من فهمها السياسي لمعني الديمقراطية، ولخص الرئيس عبد الناصر للأستاذ خالد محمد خالد تجربته في الحياة الحزبية وما دفعته إليه من اقتناعات وتوجهات على نحو ما هو معروف، وإن كان هذا كله كان يثير الأستاذ خالد محمد خالد ليصحح المسار الفكري:
ووصل عبد الناصر إلى تصوير الأمور تصويرا متعسفاً حين قال للأستاذ خالد محمد خالد إنه يبحث عن المظهر حين يركز علي الحرية السياسية بينما الأولي به أن يبحث عن الحرية الاجتماعية!! ويبدو أن عبد الناصر وقد رأي نفسه متوحداً مع القيم الفاضلة، وكأن هذه القيم لا تعرف غيره وهو!!
وصل هذا الحوار إلى نهايته علي يد الأستاذ خالد محمد خالد الذي وجد نفسه وقد نجح في أن يبرئ ذمته أمام التاريخ، حتى وإن خلا هذا الإبراء من جدوى مباشرة، إذ لم يكن هناك مَنْ هو مستعد لإجراء مراجعة فكرية من أي نوع.
تشخيص التآمر على الديمقراطية
والحق أن الأستاذ خالد محمد خالد لم يبخل في مذكراته بالحديث عن تشخيص التحولات البارزة في الفكر السياسي المصري في عهد الثورة من تآمر علي الديمقراطية، وتحمل الشعب لثمن هذا التآمر، ونحن نراه يلخص الموقف في عبارات جميلة موجهة تنطق بمدي ما عاشه في حياته من إحباط، وألم، وهو يقدم بتشخصيه لحديثه عن دوره الذي قدر له أن يلعبه دون أن يوثر به في المناقشات التي أعقبت حدوث الانفصال في 1961، كذلك يلخص الأستاذ خالد محمد خالد تجربة الثورة في المجال السياسي تلخيصا قاسيا، و يفيض الأستاذ خالد محمد خالد في الحديث عن هذه المرحلة من تاريخنا السياسي الذي حاول المشاركة الجادة في صنعه وتوجيهه، فإنه يروي باعتزاز قصة تحية كريمة أرسلها إليه الفقيه الأكبر الدكتور السنهوري باشا ، وهو يقرن روايته لهذه القصة بتصوير درامي لما حدث للسنهوري علي يد الثورة .
وقد استعرض الأستاذ خالد محمد خالد بعض ما يمكن وصفه بأنه «الوجاهات» في المواقف المناهضة لرأيه والمحذرة من خطورة ما كان يدعو إليه من إطلاق الحريات، والحفاظ عليها، وكيف كانت مثل هذه الآراء تغلف نفسها بالثورية، والحفاظ على الثورة، كما عبر عن عجبه من وجود مثل هذا المنطق في التفكير مع إقراره التام بأن مثل هذا المنطق قد استطاع بسهولة أن يتفوق على منطقه هو، ويأتي هذا الحديث في غضون روايته لموقفه من قضية «العزل السياسي» الذي أرادت الثورة تمريرا له. وينهي الأستاذ خالد محمد خالد رواية هذا الموقف في مذكراته على نحو درامي مؤثر يجيد تصويره، لافتا النظر إلى أن رئيس تحرير الجمهورية الذي نشر آراء خالد منفردا بذلك عن بقية الصحف التي أهملتها وحورتها وحرضت عليها، دفع ثمن موقفه الشجاع بعد شهرين.
تفسيره المجامل لموقف سلطة الثورة من حرية الرأي
ومع كل هذا القدر من المعاناة نجد الأستاذ خالد محمد خالد يقدم تفسيرا غريبا لا يمكن وصفه إلا بأنه تفسير شاذ، لموقف سلطة الثورة من حرية الرأي، ويتلخص هذا التفسير في القول بأن عبد الناصر كان لا يعاقب على النقد، وإنما يعاقب على الحقد.. وهو يتلمس العذر للثورة في مواقفها المتناقضة من حرية الفكر دون أن يدرك أن هذا الأسلوب لا يصح بحال من الأحوال في معالجة قضايا الفكر، لكنه علي كل حال معذور بسبب ما كان يراه في ذلك العصر. ومن الحق أن تقول إن خالد نفسه هو الذي أثبت بالنصوص القاطعة شذوذ تفسيره المجامل .
ونحن نري الأستاذ خالد محمد خالد في صفحات أخري من مذكراته وقد أخذ يفيق إلى نفسه ووجدانه منذ مرحلة مبكرة، ونراه قد أخذ ينتبه بوضوح إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر لن يسلك طريق الديمقراطية في ممارسته للرياسة والحكم، ومن الحق أن نعترف أن الأستاذ خالد محمد خالد لم يكتشف هذا بالمنطق، وإنما اكتشفه من خلال حديث موح وصريح أدلي به له الرئيس عبد الناصر نفسه.
استيائه الشديد من فكرتي التنظيم السري والشمولية
وفي هذا الإطار الفكري الرحب الذي حكم حياة هذا الرجل وفكره منذ مرحلة مبكرة، يروي الأستاذ خالد محمد خالد في شجاعة وقوة موقفه الرافض للتنظيم الطليعي، واستيائه الشديد من فكرة التنظيم السري، وتقديره لخطورة هذه الفكرة على الثورة نفسها، وحرصه على ألا ينضم بأي صورة من الصور إلى مثل هذه الكيانات، وهو يقدم هذا في نسيج جميل وصادق حيث يقول:
كذلك تتضمن مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد قصة في غاية الأهمية لتاريخنا السياسي، إذ تطلعنا على مدي ما كانت أجهزة الثورة قد وصلت إليه من حرص شديد علي توظيف الأقلام جميعا لخدمة أهداف الثورة، لا لخدمة الحقيقة، ومع أن الأستاذ خالد محمد خالد يصور نفسه طاهرا شريفا، وقد كان كذلك بالفعل، إلا أن الرواية تدلنا على أن أحدا لم يكن ليتصور أن تبتعد أجهزة الثورة عن مثل هذا الأسلوب الناجع من وجهة نظر رجالها الأمنيين والإعلاميين.
يجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى كثيرا من الاخوان المسلمين المنصفين يذكرون للأستاذ الأستاذ خالد محمد خالد هذا الموقف وغيره بالتقدير، ويأتي على رأس هؤلاء الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي أفاض في الحديث عن هذه الجزئية في مذكراته.
لقاؤه الأول بالرئيس جمال عبد الناصر
عرض الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته قصة لقائه الأول بالرئيس جمال عبد الناصر (1956)، واستطرد من روايته للقصة إلى الحديث عن علاقة عبد الناصر الفكرية به، كما كان فخورا بتأثير كتبه في عبد الناصر، مع تحفظه على مسلك الزعيم تجاه الديمقراطية، ويبدو الأستاذ خالد محمد خالد دون أن يدري أقرب إلى السذاجة في فهمه لطبيعة علاقة الرؤساء بالمفكرين وأفكارهم على نحو ما نري من نصوصه.
عاش الأستاذ خالد محمد خالد يتأرجح مع الأمل في أن يري عبد الناصر وقد اقتنع بالديمقراطية، لكن اللقاء المباشر كان كفيلا بأن يعيده إلى الحقيقة التي كان يتوجس منها. ففي ذروة مناقشة الأستاذ خالد محمد خالد (في هذا اللقاء) مع عبد الناصر حول الديمقراطية، وما استدعاه هذا النقاش جاء الاعتراف الصريح من عبد الناصر بنيته البقاء في الحكم لسنوات طويلة:
وقد قدم لنا الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته ما كنا ننتظره منه من تفصيلات دقيقة عن الجو الذي أدلي فيه برأيه الشهير في توجه الثورة إلى فرض العزل السياسي ، وما ارتبط بهذا الرأي من آراء أخري وفي معالجة قضايا الحريات، وفي دعوته هو نفسه إلى احترام العدالة، وتحقيق الحرية للشعب، والبعد عن الإجراءات الاستثنائية ، وبعد كل هذا الاستعراض والاستيعاب فإننا نري الأستاذ خالد محمد خالد في لحظة فارقه وهو يلخص موقف الرئيس جمال عبد الناصر التاريخي من الديمقراطية في فقرة واحدة قاسية تدلنا على أن الرئيس كان قد فارق التفكير في الديموقراطية إلى غير رجعة.
وقد أكد الأستاذ خالد محمد خالد على هذا المعني في فقرة أخري دلل فيها بالمنطق والحقيقة على أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه كان قد أصبح رغم زعامته وقوته أسيرا مأسورا لمراكز القوي وما تقدمه من معلومات وتوجهات. وعلى عادة المصريين في مناقشاتهم ورواياتهم السياسية فقد لجأ الأستاذ خالد محمد خالد إلى التدليل على صحة رؤيته ببعض الأمثلة الشائعة في ذلك الوقت.
محاولة تبرئة عبد الناصر مع الاعتراف بجرائم الناصرية
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الأستاذ خالد محمد خالد كان في كتاباته دائم العزف لهذا اللحن المعروف الضعيف أو الواهن الذي لم يعش طويلا والذي كان يحاول تبرئة عبد الناصر مع الاعتراف بالجرائم، وكأنما كان يري في ترديد مثل هذا اللحن جوهر مأساة النظام السياسي المصري في عهد الثورة، ويبدو أنه كان على صواب، حتى وإن بدا أنه كان لابد له من أن يعيد توزيع اللحن في كل المواقف التي تقتضي الحديث عن هذه الفكرة وعلاقتها بتطورات الحياة السياسية.
ومن الإنصاف أيضا أن نقول إن الأستاذ خالد محمد خالد في رواية ذكرياته عن التاريخ السياسي الذي عاشه وعايشه، وحاول التأثير فيه، كان ينظر إلى التاريخ من شرفة عالية تعيد فهمه وتبحث عن مكان جيله فيه، وقد كان الرجل بلا شك مولعا بمصر، كما كان بلا شك مولعا بتاريخها السياسي، كما كان حريصا كل الحرص على أن يشركنا معه في ولعه بالتاريخ السياسي لمصر، ولهذا فإنه كان يقدم هذا التاريخ بطريقة جذابة تكفل له أن يحتل جزءا من وجداننا وذاكرتنا، وأن يظل ملهما لحركتنا نحو التحرر والتقدم.
وقد كان الأستاذ خالد محمد خالد قادرا على أن يوظف كثيرا من التفصيلات الصغيرة لإبراز فكرته الكبيرة في وضوح وتأثير وإشراق، وانظر مثلا إلى هذا التصوير الشائق الذي يصور به الأستاذ خالد محمد خالد موقف شيخ الأزهر العظيم من رغبة الخديو عباس حلمي في أن يقاطع جنازة عدوه التقليدي الشيخ محمد عبده
روايته لمقاله وذكرياته عن حرب ١٩٦٧
لهذا كله فإننا نستطيع أن نقول بإخلاص وصدق وإنصاف إن الأستاذ خالد محمد خالد كان يتمتع بمرونة فكرية في فهمه للأحداث وتعاقبها حتي وإن أخطأ في فهم بعض مقدماتها، أو بعض نتائجها، وفي هذا الصدد فإننا نجد الأستاذ خالد محمد خالد يروي في صراحة وصدق، كيف أنه كان واحدا من الذين لم يحسنوا تقدير الأمور قبيل حرب 1967، حتي إنه كتب افتتاحية صحيفة «الجمهورية» يرجو فيها الرئيس عبد الناصر ألا نكون نحن البادئين بالحرب، وهو يعترف بعد فوات الأوان بالطبع بأنه كان مخطئا، وأن المشير عبد الحكيم عامر كان أقرب إلى الصواب، كما أنه يورد ضمن ما يرويه في عجالة إشارة إلى أمرين مهمين، الأول هو تأكيده علي صدق الرواية غير الشائعة التي تقول إن السفير السوفيتي هرع إلى عبد الناصر فجر يوم العدوان يرجوه وينصحه ألا يكون هو البادئ بالحرب، وينتهي الأستاذ خالد محمد خالد إلى القول أن السوفييت قد خُدعوا (!!) كما خدع عبد الناصر.
أما الأمر المهم الآخر فهو اعتقاد الأستاذ خالد محمد خالد في أن رالف بانش لعب في أزمة حرب 1967 دورا بالغ السوء على حد وصف خالد محمد خالد، ومَنْ كانوا يرون مثل رأيه من الذين كانوا يبحثون لمصر عن شماعات تعلق عليها بعض أسباب الفشل الذي أدي إلى الهزيمة الكبيرة والساحقة في 1967.
هكذا صور الأستاذ خالد محمد خالد مقدمات الحرب على نحو ما وصلته، وها هو يصور بصدق أنه وهو واحد من المثقفين المفكرين اندفع إلى تأييد الفكرة القاتلة القائلة بألا نكون نحن البادئين بالحرب.. ولا أظن من حق أحد أن يتهم الأستاذ خالد محمد خالد في ذكائه فقد كانت المعطيات المتاحة أمام الجماهير لا تقول بغير هذا الذي قال به وتصرف من وحيه في ظل سيطرة الدولة علي وسائل الاعلام:
وفي مقابل هذا الرأي الذي سار فيه الأستاذ خالد محمد خالد مع ما أتاحته وسائل الاعلام في عهد سطوتها الشديد فإننا في هذه المذكرات فقرة بليغة وموحية يبدو أن الأستاذ خالد محمد خالد قد رزق فيها توفيقا من عند الله سبحانه وتعالى حين لخص عهد الرئيس السابق حسني مبارك كله في فقرة واحدة، مع أنه توفي في منتصف عهد مبارك بالضبط
رحلته مع الإخوان المسلمين
تعود مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد مع الزمن لنتأمل فيما ترويه عن علاقاته بالقوي السياسة والاجتماعية التي انتمى إليها في مطلع شبابه، ومن حسن الحظ أن انتماءات هذا الرجل قد تعددت أو تعاقبت ما بين الهيئة السعدية، والجمعية الشرعية، والإخوان المسلمين.
ونحن نري الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته يتحدث عن معرفته بالأستاذ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين حديثا يخلو من العاطفة الجياشة، وإن لم يخل من العاطفة على إطلاقها، كذلك فإنه يتحدث عن الإخوان في صراحة ووضوح.. وهو يتحدث عنهم باحترام، لكنه يضع نفسه في موقع أعلي منهم، وهو موقع لم يدفع نفسه إليه، وإنما دفعته إليه سنوات عمره التي شهدت محنة الإخوان وتعذيبهم على مدي عهود طويلة قبل أن تعيد ثورة 25 يناير 2011 لهم اعتبارهم.
ونمضي مع الأستاذ خالد محمد خالد وهو يتحدث عن علاقته بالإمام حسن البنا، فنقرأ له ما كانت نظرته تنطوي عليه من إعجاب لا محدود بقدرات هذا الرجل غير المحدودة، وبكفايته منقطعة النظير، وبزعامته التي دانت لها الأفئدة ومنها فؤاد الأستاذ خالد محمد خالد نفسه، وإذا كان الأستاذ خالد محمد خالد ينتقد تجربة الإخوان من شرفة تاريخية فإنه يقر في الوقت ذاته بثراء التجربة وطليعيتها.
وعلي نحو ما يميل الأستاذ خالد محمد خالد إلى إنصاف الإخوان المسلمين، فإنه في المقابل يميل إلى إدانة النظام الخاص للإخوان المسلمين كما يميل إلى إلقاء كثير من الأوزار، بل كل الأوزار عليه، وليس هذا الموقف الذي وقفه الأستاذ خالد محمد خالد من الإخوان جديدا عليه، ولا علي أصحاب الأقلام والمؤرخين الذين كتبوا تاريخ الإخوان المسلمين، وربما تظهر الأيام القادمة أن هذا النظام الخاص قد حُمل بأكثر مما يطيق من الخطايا في ظل هروب رجاله عن أن يواجهوا مثل هذه الدعاوي، ذلك أن الانتماء للنظام كان قد أصبح مدعاة للشك والريبة والاتهام من كل الأطراف بما فيها النظام الخاص نفسه، وسبحان الله.
ومع هذا فإن المذكرات حافلة بالفقرات الصريحة التي يعبر بها الأستاذ خالد محمد خالد عن رأيه وما تحتويه من دلالات واضحة في عداوته واتهاماتها.
انفراده برواية مسؤولية الإخوان عن اغتيال احمد ماهر
حرص الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته علي أن يعيد رواية القصة التي انفرد هو نفسه بروايتها مبكرا، وهي قصة مسئولية الإخوان المسلمين عن اغتيال أحمد ماهر، وهو يروي هذه القصة علي نحو خاص ويصورها علي أنها كانت رد فعل علي إسقاط الشيخ حسن البنا (في دائرة الإسماعيلية) في الانتخابات البرلمانية التي دارت عام 1945.ومن الجدير بالذكر أن الأدبيات التاريخية لاتزال ترجح الراي المستند إلى ما هو ظاهر من أوراق التحقيق في ذلك الوقت من أن العيسوي قاتل أحمد ماهر قام بهذا العمل من جراء اقتناعه (كعضو في الحزب الوطني) بخطورة ما أقدم عليه أحمد ماهر من إعلان مصر الحرب علي المحور
حوار المرشد العام مع النحاس باشا
يقدم الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته نصا بديعا كتبه بأسلوبه الجميل الجامع بين الوعي بالتاريخ، والوعي بالسياسة، وسجل به ما يتصوره على أنه المحاورة التي دارت بين النحاس باشا وحسن البنا قبيل الانتخابات البرلمانية التي دارت في عام 1942، وهو يذهب بهذا النص إلى تفسير العلاقة الودية التي ربطت الوفد بالإخوان، والإخوان بالوفد تفسيرا مشرفا للطرفين، وإن كان هذا بالطبع لا يسعد أطرافا أخري خاصة من الذين يصورون أنفسهم وأقلامهم على أنها خلقت لمهمة واحدة هي إجهاض الإسلام السياسي ومنعه من أي نشاط!:
وفي فقرة جميلة لا نظن فيها أي قدر من الاصطناع يتحدث الأستاذ خالد محمد خالد عن شعوره المبكر بأن جماعة الإخوان المسلمين كانت مقدمة على كارثة محققة في ظل نجاحها الساحق في الوجود الكثيف في الشارع المصري، مع غياب قدرتها على التحكم في مشاعر أتباعها تجاه الأوضاع السياسية القائمة على سبيل المثال. وقد آثر الأستاذ خالد محمد خالد أن يقدم هذه الرؤية في غلاف ميتافيزيقي جميل، كان ولايزال يوحي بما تعجز الصفحات عن التعبير عنه من يقين واضح المعالم، وإن لم يكن واضح الأسباب.
حبه للشيخ المراغي والباقوري
وتحفل مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد بكثير من الأوصاف الجميلة للشخصيات التي عرفها وتعشق سلوكها، ومن هذا وصفه للشيخ محمد مصطفي المراغي الذي كان مثلا أعلي للأزهريين الشبان الذين دفعتهم الثقافة إلى إدراك جوانب الصراع السياسي والاجتماعي في المجتمع، وهو يجيد صياغة مشاعره تجاه ما كان يراه من سلوك هذه الشخصية الفذة. وتتضمن المذكرات وصف الأستاذ خالد محمد خالد الجميل للشيخ أحمد حسن الباقوري الذي ظل يستحوذ علي إعجابه طيلة حياته، علي الرغم من أنهما كانا رمزين من رموز الإسلام السياسي المعرضين بالطبع للاختلاف في توجهاتهما وسلوكهما، ومن الطريف أن الرجلين ظلا علي وفاقهما طيلة العمر علي الرغم من أن الباقوري لم يكن ليؤمن بمثل ما آمن به الأستاذ خالد محمد خالد من أفكار نظرية حول الديمقراطية، وعلي الرغم من أن خالد لم يكن من الحريصين علي التمثل بالماضي والتراث علي نحو ما كان الباقوري يفعل في كل خطوة بل في كل جملة، ولعل الفارق بين الرجلين يتمثل في أن المتقدم سنا كان أكثر تقدما في العلم، وأن اللاحق كان لاحقا في العلم أيضا، وهكذا أتيحت هذه العلاقة الجيدة، ولو أن الأمور اختلفت وكان الأكبر أكثر راديكالية، والأصغر أقل راديكالية ما تم للرجلين مثل هذا الصفاء في علاقتهما .
حبه للشيخ دراز والشيخ السبكي وانبهاره بالأستاذ محمد فريد وجدي
ومن الشخصيات التي يكرر الأستاذ خالد محمد خالد الثناء عليها أستاذه الثوري العظيم الشيخ محمد عبد اللطيف دراز الذي عرفه من خلال توثق علاقته بالنقراشي باشا، وهو يروي مواقف عديدة عرف فيها فضل هذا الرجل، وهو يفيض في وصف مناقبه، أما الشيخ أمين محمود خطاب السبكي فيحظى بمكانة القطب الأعظم في حياة خالد محمد خالد، كما يحظى بذكريات عزيزة علي نفس الأستاذ خالد محمد خالد.
ووسط حديثه عن نقد عدد كبير من أساتذة الأزهر وعلمائه رجال الجامعة لما ورد في كتابه الأول من أفكار راديكالية، ومنهم الشيخ شلتوت، والأستاذ أحمد الشايب، والشيخ حسنين مخلوف، والأستاذ صالح عشماوي، والشيخ عبد الرحيم فودة، فإن الأستاذ خالد محمد خالد يذكر بتقدير شديد ما كتبه الأستاذ محمد فريد وجدي في نقده معبرا عن انبهاره بخلق هذا الرجل العظيم وعلمه وتواضعه، وليس هذا الثناء المستحق بكثير على هذا الرجل العظيم الذي أجمعت الآراء على تقدير أخلاقه الرفيعة، وعطائه المتصل، وإخلاصه النادر.
المستشار حافظ سابق رئيس محكمة مصر
ومن بين رجال القضاء يشيد الأستاذ خالد محمد خالد بحافظ سابق رئيس محكمة مصر الذي حكم ببراءته مما نسب إليه في الدعاوي التي أقيمت ضد كتابه «من هنا نبدأ»، وقضي بالإفراج عن الكتاب وكتب في هذا المعني عبارات جميلة، اعتبرها خالد محمد خالد، ونعتبرها نحن، بمثابة وسام علي صدر هذا العالم المجتهد المستنير:
أما على مستوي رجال العمل السياسي فإن الأستاذ خالد محمد خالد يبدو نموذجا للنفس البشرية السوية التي تتأثر بحسن المعاشرة، وحسن اللقاء، وتجعل لهما في الذاكرة الأثر الأكبر في تحديد موقف صاحبها من القادة. ولعل موقفه من النقراشي باشا هو النموذج الأمثل لهذا الخلق الرفيع، فقد ظل معجبا بهذا الرجل بسبب لقائه الأول به وما حفل به هذا اللقاء من حنو، وكأنما كان مثل هذا اللقاء لو تم مع زعيم آخر غير النقراشي حفيا بأن يحظى هذا «الآخر» من الأستاذ خالد محمد خالد بما حظي به النقراشي باشا ، ويروي الأستاذ خالد محمد خالد كثيرا من مواقف الزعيم محمود فهمي النقراشي التي تدل علي عظمة نفسه، وطهارة معدنه، وفهمه الرفيع للأخلاق، ومن هذه القصة قصة موقف النقراشي في أحد المؤتمرات المنعقد لتأييده حين تطرق الشاعر محمد العزازي إلى التعريض بإحدى سيداتنا اللائي كان لهن في السياسة نصيب، فإذا بالنقراشي يفقد أعصابه ووعيه لمثل هذا الخطأ الذي لا يقبله خلقه الرفيع، حتي إنه يبادر بسب الشاعر الذي انحدر إلى هذا الخطأ، ويوقفه عن مواصلة إلقائه لشعره .
بل إن الأستاذ خالد محمد خالد يشير أيضا، ولا نقول يعترف، إلى أنه كان يتقاضى مكافأة شهرية من عبد السلام الشاذلي باشا محافظ القاهرة صرفت له بتوجيه من النقراشي باشا، وكيف كانت هذه المكافأة عوناً له علي حياة كريمة ساعدته على طلبه للعلم والثقافة، وهو يتحدث عن أوجه إنفاقها بطريقة غاية في الطرافة. يروي الأستاذ خالد محمد خالد أنه كان ذهب إلى النقراشي باشا وهو وزير كي يوسطه لشأن بسيط من شئون خاله، فرفض النقراشي باشا التدخل بأي صورة فيما كان الفتي يعتقد أنه رفع للظلم على رجل مظلوم هو خاله. ويروي الأستاذ خالد محمد خالد قصة من قصص مشاركاته بالخطابة في حفل سياسي أقيم لتأييد مرشح السعديين في مواجهة مكرم عبيد باشا الذي كان قد رشح نفسه في قنا وشبرا مرة واحدة. ومن الطريف أن القس سرجيوس الذي كان أحد رموز الوحدة الوطنية في ثورة 1919 كان هو و(الشيخ الشاب) الأستاذ خالد محمد خالد خطيبي الحفل في مواجهة مكرم عبيد الذي نعرف أنه كان قد انشق على النحاس باشا في تلك الفترة.
رأيه في الوفد
وعلى الرغم مما تحفل به مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد من تحامل متوقع على الوفد، وعلى زعيمه مصطفي النحاس في بعض الفقرات، فإن الأستاذ خالد محمد خالد يلخص رأيه في الوفد في عبارات إيجابية وجميلة ومختصرة تنم عن إدراك سياسي ذكي، وهو إدراك يغيب عن كثيرين في ظل تشبثهم اللانهائي بالخصومة السياسية، أو في ظل حقدهم علي صاحب الأغلبية، ويصل الأستاذ خالد محمد خالد في تقديره للنحاس والوفد إلى أكثر من حكم جميل يزين به فقرات كتابه.
ويتحدث الأستاذ خالد محمد خالد بإنصاف شديد عن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية في وزارة الوفد الأخيرة، وعن سعة صدره، وميله الصادق إلى الحرية وحمايتها مع المحافظة في الوقت ذاته على القانون والنظام.
أما الصحفي الكبير الأستاذ عبد الوارث دسوقي فيقدم الأستاذ خالد محمد خالد عنه صورة من أروع صور الحديث عن شخصيته الفلسفية الحكيمة:
ونأتي إلى بعض الطرائف في مذكرات خالد محمد خالد، فمن التجارب التربوية المهمة التي مر بها الأستاذ خالد محمد خالد ورواها في كتابه بثقة واطمئنان، قصة رسوبه في السنة الأولي من دراسته في معهد الزقازيق الأزهري بسبب مادة الحساب، وهو الرسوب الذي نجح في أن يتحرر منه سريعا حين جاءه الفرج بقرار الشيخ المراغي الذي أعفي طلاب المرحلة الثانوية من الحساب والرياضة.
عاش الثقافة والمناظرات
يروي الأستاذ خالد محمد خالد ما يذكره من تجربة شخصية ممتعة مع المناظرات الثقافية التي كانت تعقد في ذلك العصر، ومنها المناظرة التي عقدت في جامعة إيوارات في الجامعة الأمريكية، وهو يحدثنا في روايته لها عن ذكاء محمد صلاح الدين باشا (وزير الخارجية الوفدي فيما بعد)، وسعة صدره، واستماعه إليه في هذه المناظرة، كما يطلعنا على مدي ما كان المجتمع المصري يقدمه للنابغين من حفاوة وتقدير.
ويقدم الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه صورة شخصية دقيقة الملامح والأوصاف والتعريف بمفكر عربي سعودي هو الأستاذ عبد الله القصيمي الذي كان له تاريخ بارز في الإلحاد وتحدي الأديان، ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ خالد محمد خالد قد أشار في مذكراته إلى أن هذا المفكر كان هو صاحب الفضل في اختيار عنوان «من هنا نبدأ» لكتابه الأول، وليس معني هذا أن الأستاذ خالد محمد خالد كان امتدادا بصورة أو أخري لهذا الرجل، بل إننا نري الأستاذ خالد محمد خالد يدعو لهذا الرجل في نهاية حديثه بالهداية والعودة إلى الدين ، ومن عجائب القدر أن القصيمي توفي قبل الأستاذ خالد بشهرين .
ومن طرائف أسلوب الأستاذ خالد محمد خالد أنه كثيرا ما يريد الوصف الدقيق فيلجأ إلى استعراض ما حصله من ثقافات متعددة يتباهى بها ـ عن غير عمد ـ في كتاباته، فإذا به من حيث لا يدري يصعّب الأمر على القارئ الذي لم يحط علما لا بما يرويه الأستاذ خالد فحسب، وإنما بما يقصده الأستاذ خالد من هذا الذي يرويه، وانظر على سبيل المثال هذه الفقرة التي يصف فيها غرابة أطوار أحد أقاربه وهو الشيخ عبد الصمد حسن وكيل رواق الشراقوة في الأزهر الشريف.
ومن الوقائع الطريفة التي يرويها الأستاذ خالد محمد خالد (بذكاء) في مذكراته قصة لقائه بالشاعر الكبير محمد الأسمر الذي كان يشغل منصب الرقيب في فبراير 1950 حين ألف كتابه الأشهر «من هنا نبدأ»، وهو لقاء دسم حافل بالأخذ والرد، وذلك على الرغم من نتيجته التي لم تكن في صف صاحب المذكرات:
وفي مقابل هذا يروي الأستاذ خالد محمد خالد بامتنان بارز موقف الدكتور يحيي الخشاب من الموافقة علي نشر هذا الكتاب.
ويبدو الأستاذ خالد محمد خالد ـ شأنه شأن أبناء جيله ـ حريصا على الاعتراف بما وصل إليه عن طريق الواسطة التي كان لابد منها للحصول على استثناءات (غير ضارة) من قوانين محترمة ومنفذة ولها وجاهتها، وذلك من قبيل حصوله على الاستثناء من الوصول إلى الحد الأدنى لسن القبول للدراسة في الأزهر:
وتحفل مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد بكثير من اللقطات التصويرية البارعة التي عبر بها عما شاهده في حياته من مواقف سياسية آسرة، وحافلة بالذكاء والبديهة السريعة الذكية، ومن هذه المواقف نروي قصة حضوره دفاع أحمد حسين عن عز الدين عبد القادر الذي كان متهما رئيسا بمحاولة اغتيال الزعيم الكبير مصطفي النحاس باشا. وما تضمنه من التصوير الجميل الحافل بالمعاني السياسية والتاريخية. والواقع أن كتاب مذكرات الأستاذ خالد محمد خالد كان ولا يزال معرضا لمثل هذه اللوحات الجميلة التي تصور أكثر من حقبة عاشها هذا الرجل العظيم بخلق عظيم.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا