نبدأ بالقول بأن صلاح سالم هو الدافق، وكمال الدين حسين هو الدافع، وحسين الشافعي هو الدافئ، وهم الثلاثة من أعضاء مجلس قيادة ثورة 1952 لكن تأثيرهم السياسي لا يبلغ مبلغ زملائهم الستة الذين خصصت لهم كتبا كاملة نشر بعضها منذ سنوات، ولايزال الباقي ينتظر أن يأذن الله له بالنشر، فلا هم تولوا الرئاسة كالرئيس جمال عبد الناصر وأنور السادات، ولا هم تولوا مسئولية الرجل الثاني أو النائب الأول الذي تولى الرئاسة بالنيابة لفترات قصيرة مثل جمال سالم وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين كما أنهم لم يخوضوا من تجارب الحكم ما يحمل لهم بصمة متكاملة أو مذهبا في السياسة على نحو ما كان لهؤلاء الستة الأوائل من أقرانهم، كما أنهم لم يبتعدوا بدرجة كبيرة عن السياسة الحكومية والتأثير البيروقراطي مثلما فعل زميلاهما حسن ابراهيم وخالد محيي الدين.
تباينت التكوينات النفسية لهؤلاء الثلاثة، ومن ثم فقد تباينت طبيعة الأدوار التي قاموا بها خلال فترة وجودهم في رأس السلطة فأكثرهم بقاء فيها وهو حسين الشافعي عمل نائبا للرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات وتمتع بوضع متميز طيلة ثلاثة وعشرين عاما (منذ 1952 وحتى 1975) وهو ما لم يحظ به غيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقد عرف على أنه لم يكن صاحب حماس جارف لمشروع ما ولم يكن صاحب بصمة ظاهرة في ميدان ما لكنه ظل رجلاً من رجال الصف الأول يؤدي المهام التي توكل إليه بقوة وانضباط على نحو يحفظ للثورة حقوقها في استمرار الاستيلاء على السلطة، ويحفظ لها مهابتها في أداء هذا الدور الممسك بالسلطة.
كان من الممكن لحسين الشافعي أن يظل في السلطة لفترة أطول لو أنه كان متعاونا على سبيل المثال في استدعاء الخصوم وتهدئتهم، وفي التعبير الحي عن الولاء للرئيس الممسك بالسلطة لكنه كان قد تصور نفسه أكبر مما هو فيه، مع رئيس كان انتصاره الحاسم الذكي قد جعله بالمنطق وبالفعل أيضا أكبر بكثير مما كان فيه، ولهذا كان من الطبيعي أن يتخطاه الرئيس أنور السادات إلى الجيل الذي يليهما وبخاصة أنه هو نفسه أكبر من الرئيس أنور السادات في السن بأكثر من عشرة شهور.
أما أول الثلاثة وهو الدافق صلاح سالم فقد كان منذ الأيام الأولى للثورة متدفقا بالحيوية والعمل والنشاط والكلام أيضاً، وكان محبا للظهور قادراً عليه، مواظبا على استنقاذ كل ما يمكن من الظهور وتألقه وتوهجه من بين دوامات الأحداث، وكان يتدفق بالهجوم على زملائه على نحو ما كان يتدفق بالتصريحات أمام مستمعيه، وكان يتدفق بالحركة في كلّ اتجاه على نحو ما كانت آراؤه تتدفق في كل الشخصيات، وكان من الطبيعي أن يثير حفيظة الرئيس جمال عبد الناصر وليس غيرته فحسب، وكان من الطبيعي أيضا أن يتم التخلص منه في أول فرصة تتاح له لكي يغضبه أو يغاضبه، وهو ما حدث بالفعل إذ أنه عندما أتى إلى المغاضبة والشكوى من زملائه تمكن هؤلاء الزملاء من تطوير مغاضبته إلى مفارقة أو مفاصلة أو مقاطعة وهكذا ترك مجلس قيادة الثورة في 195٥ قبل أن يصبح جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية بمفرده، ويتحول ببقية أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى وزراء ينتظمون في سلك الولاء وإن جاملهم بأن يكونوا متقدمين في ترتيبهم البروتوكولي على الوزراء الطبيعيين.
أما الثاني وهو الوسط بين الأول والثالث أي كمال الدين حسين فقد كان وسطا في كل صفاته فلا هو دافق ولا هو دافئ وإنما هو دافع منشط منجز لكنه مندفع بأكثر منه أن يكون هادئا ومتريثا، كان شعلة من النشاط والقدرة على العمل والتحمل لكنه في الوقت ذاته لم يكن قادراً على تصور ترتيب الأولويات على نحو ما كان الحاكم الفرد الرئيس جمال عبد الناصر يرتبها في مراحل العمل المختلفة، وكان مبدئيا في أفكاره ولم يكن براجماتنا فيها كما كان ملتزما ولم يكن قادراً على التأقلم ولا حتى على التطور المطلوب من شخص مثله في قيادة تملك السلطة وتفتقد الخبرة وتحاصر نفسها بالتحديات وتثقلها الأخطاء، وهكذا فإنه آثر ترك السياسة في 1964، ولو لم يفعل لتركته السياسة نفسها بإهانة أو قتل .
وهكذا نرى تاريخ ترك الثلاثة للسلطة في 1956 ثم في 1964 ثم في 1975 مع هذه الفترات أو الفجوات الكبيرة الكاشفة عن اختلافات ضخمة في التكوين الشخصي والنفسي لهؤلاء الزملاء الثلاثة. في تصويري وتحليلي وتقييمي لهذه الحيوات الثلاثة، في كتاب من كتبي التي حجبتها ظروفي القاسية عن النشر، كنت حريصا كل الحرص على إنصاف التاريخ قبل إنصاف الأشخاص، وعلى الانحياز للوطن قبل الانحياز للمشاعر الشخصية أو المبدئية، كما كنت حريصا على البحث عن أية طاقة من النور في السلوك أو الطريقة أو الرأي، كأنما كنت حريصا على التمجيد حتى لو لم تتوافر له الأسباب، ذلك أني وجدت أن هذا الأسلوب “المتعاطف” أكثر قدرة على الوصول إلى الحقيقة وعلى تصويرها كذلك.
ومع هذا فإن النصوص التي تحدث بها أصحابها كانت كفيلة في كثير من الأحيان بنسف كل محاولات التجميل والترميم التي بذلت فيها جهداً كبيراً وبخاصة مع أهدأ هؤلاء الثلاثة وهو حسين الشافعي الذي عاش ومات وهو يتصور أن “وضعيته الثورية” جعلته من طبقة غير البشر، وهو يعتبرها مفتاحا لفهم الفلسفة كما الوضعية المنطقية وإن كان لا يعرف شيئا عن الوضعية المنطقية، وقد وصل به الحال إلى أن يقول إنك إذا أردت أن تناقش هذا التميز فعليك أن تقوم بثورة قبل أن تناقش، ويبدو أن الرجلين الآخرين الدافق والدافع كانا يؤمنان أيضا بهذا الذي آمن به الدافئ، وإن كانت الظروف لم تُمكنهما من التهديد به على الرغم مما تميزت به شخصياتهما من النفوذ والقوة والتدفق والدافعية على نحو ما توحي الأسماء التي تحدثنا عنهم بها.