الرئيسية / المكتبة الصحفية / ثلاثة أسماء لعلوم مشتركة بين اللغة والاقتصاد: النقد والصرف والعروض

ثلاثة أسماء لعلوم مشتركة بين اللغة والاقتصاد: النقد والصرف والعروض

أول هذه الأسماء هو النقد، الذي يُطلق على النقد الأدبي وتطور استخدام اللفظ فيما بعد فشمل ميدان النقد الفني، وفي الاقتصاد فإن النقد علم كبير حتى إنه يُقال في كليات التجارة إن دراسة الاقتصاد تبدأ بدراسة النقود والبنوك، ومن المستحب أن نبدأ بالإشارة إلى أن النقود معروفة من قديم في الحضارات الإنسانية، ويعرف الاقتصاديون النقود بأنها أيّ شيء مقبول قبولاً عاما للدفع من أجل الحصول على السلع والخدمات الاقتصادية أو إعادة دفع الديون، وبهذا فإن هذا التعريف العلمي الواسع يشْمَل الشيكات كما يشْمل النقود التي نعرفها باسم العملات محلية كانت أو صعبة، بيد أن التاريخ الاقتصادي لا يزال حريصا على أن يعتز للنقود القديمة بوجودها المادي حين كانت هناك ليرة عثمانية وجنيه إنجليزي وكلاهما من الذهب، وروبية هندية وكانت من الفضة، ويسمى الاقتصاديون هذه النقود بالنقود الحقيقية، على حين أن الدولار بجلالة قدره، والاسترليني وكذلك اليورو ليسوا جميعاً إلا نقوداً تقديرية فما بالنا بما هو قادم من أشباع البكتوين. من الجدير بالذكر أن الدينار كان أول عملة إسلامية ثم إصدارها في عهد عبد الملك بن مروان (646 ــ 705) الذي هو خامس خلفاء بني أمية وعاشر خلفاء المسلمين.

في مقابل هذا فإن تعريف مصطلح النقد الأدبي المستقر عليه الآن هو أنه فن تفسير الأعمال الأدبية، وهو في أغلبه الآن علم، وإن لم يخل من الذائقة التي لا بد من قدر منها ممتزجاً مع هذا العلم، أو فلنقل إنه حسب التعريف البسيط الذي أقول به وإن لم يسبقني إليه أحد على هذا النحو من الصياغة المتواضعة أنه علم يمارسه رجل فن، وذلك على عكس الطب الذي هو فن يمارسه رجل علم. وبوسع القارئ أن يفهم المعاني المباشرة والكائنة والكامنة في هذا التعريف الجوادي المتواضع عن حق.


الاسم أو المصطلح المشترك الثاني هو الصرف، ونبدأ بصرف العملات وهي تجارة تقوم على استبدال العملات بعملات أخرى وذلك من خلال منافذ توجد أساساً في الموانئ والمطارات وقد يسمح بها في المدن في البنوك وحدها أو في شركات خاصة تُسمّى بشركات الصرافة. أما الصرف في اللغة العربية فهو بحكم التقليد ملازم للنحو حتى يُمكن القول بأنهما شقيقان وإن كان القول بأنهما أخوان أقرب للصواب، أما القول بأنهما توأمان فهو في رأيي تجاوز. وهو في التعريف اللغوي أو المعجمي علم تعرف به أحوال بنية الكلمة وصرفها على وجوه شتى لمعان مختلفة، ويدرس هذا العلم الكلمة من حيث وزنها الصرفي وعدد حروفها وحركاتها وترتيب الحروف وبقاء أوحذف هذه الحروف، ومن الطبيعي أن الصرف يتناول الأسماء المعربة أي الأسماء غير المبنية (أو بالوصف العصري الميكانيكي: المثبتة على حال دائم) والأفعال المتصرفة (أي غيرالجامدة) أما الحروف والأسماء فلا تدخل في علم الصرف إلا من أطرافه كالقول مثلا بأنها ممنوعة من الصرف، أو القول بأنها على وزن كذا من الكلمات المعروفة تقريبا لنطقها أو فهمها.

وليس من شك في أن علم الصرف هو المقابل اللغوي للعلوم التشريحية في الطب، ومع ما يبدو من أنه يقابل علم التشريح الظاهري فحسب فإن التعمق في أوزان المجرد والمزيد وتصريف الأفعال يدلنا على أنه مناظر أيضاً لعلم التشريح النسيجي، أي أنه لا يقف عند حدود التشريح القديم الذي يقابل المورفولوجيا. وفي بعض التعريفات “الثقافية” للصرف فإنه هو كل ما يتصل بالمتغيرات الصوتية التي تصيب بنية اللفظ العربي، على حين أن النحو يتصل بالمتغيرات التي تصيب نهاية الكلمة فحسب، وبهذا فإن الصرف أشمل من النحو على طريقة التربويين المغرمين ببناء تصوراتهم على الجزء والكل وعلاقات النسبية والسببية بين هذا أو ذاك.

لا ينبغي لنا أن نغادر هذه الكلمة أو المصطلح من دون أن نشير إلى الصرف المقابل للرى والذي هو في الماء كالأوردة والشرايين في الدم، وربما أحس القارئ أن التشبيه مقلوب، لكن المشبه أستاذ للقلب في الأساس، ولا ينبغي لنا أن نغادر هذه الكلمة أو المصطلح من دون أن نشير إلى الصرف الصحي الذي هو تخصص هندسي بأصول طيبة وفزيقية. ننتقل الآن إلى العلم الثالث وهو العروض وهو نوع واسع من الصرف إذا أردنا علاقات السببية والنسبية التي تحكم تعريفات التربويين والفلسفيين، وهو في التعريف المعجمي علم يُعرف به صحيح أوزان الشعر العربي أي الصحيح من الكسور وما يعتريها من الزحافات والعلل. ويقال من قديم إنه إذا كان النحو يميز المعرب من الملحون فإن العروض يميز الصحيح من المكسور.

والعروض يقتضي كتابة من نوع خاص هي الكتابة العروضية التي لا تعتمد الأحرف الثمانية والعشرين وإنما تعتمد ما نسميه تجاوزا حرفين فقط هما الحركة والسكون، وبهذا فإن العروض سابق على نظام العد الثنائي الذي تقوم عليه الحاسبات الالكترونية وكنت عندما أقول هذا المعنى أحظى بالابتسام من الذين يقدرون فيّ تأصيلي لكثير من الظواهر بأصولها العربية الحضارية، أما الآن وبعدما حدث من صحوة وثورة وإحباط وإحساس بالحرب والتحرش فإن الناس يظنونني قد قصرت في تنبيههم إلى أهمية حضارتهم.


والعروض هو الصلة الأولى بين علوم اللغة العربية وبين الموسيقى، ومع أن الماضي أهمل دراسة هذه الصلة فإن دخول الحاسوب إلى ميادين العروض والموسيقى سيطوّر (فيما أتوقع) ألحانا تلقائية للأوزان الشعرية على نحو لم يسبق للمؤلفين الموسيقيين أن وصلوا إليه، وسوف يساعدهم العروض على تحديد المقامات واختيار الآلات المسهمة في توزيع لحن الشعر وأدائه. والعروض ليس هو الموسيقى فالموسيقى خارجية وداخلية، والعروض قد يجيد التعبير عن الداخلية، وقد يفتقد العلاقة معها، أما الموسيقى الخارجية فليس للعروض علاقة ظاهرة بها إلا من ناحية القافية، وهي علاقة ليست بالبسيطة لكنك أيضا لا تستطيع تصور اوزانه من دون دندنة أو طبطبة. وبلغة معمارية فإن العروض هو قواعد تسليح الأعمدة بينما الموسيقة قواعد تنسيق البناء.

أما العروض في الاقتصاد فتعبير دقيق على عروض التجارة التي تجب فيها الزكاة، وهي الأموال التي تقلب (تّدور) لغرض الربح سواء كانت هذه الأموال عقارات (أي ثابتة) أو منقولة. والتعبير أدق من مصطلح رأس المال، لكن تعبير رأس المال أصبح أكثر انتشاراً بسبب النظرية الرأسمالية.

 

 

 

 

 


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com