لست أبالغ حين أقول إن أحداث الربيع العربي وما تلاها من تكثيف التآمر والتمويل اللذين مارستهما حكومات الثورة المضادة من أجل تفعيل جهودها في وأد هذا الربيع في 2012 خلقت حالة تناقض فكري غير مسبوقة في السياسة الدولية، وكانت هذه الحالة بحكم ظروفها قادرة على أن تولد حالة فلسفية جديدة، ومع أن التاريخ الإنساني عرف حالة شبيهة مع الثورة الفرنسية وموقف الممالك الأوروبية منها فإن الثورة العربية المضادة كانت ذات خصائص شاذة وغير مسبوقة، ولست أبالغ حين أقول إن أربعة من العوامل تضافرت لتخلق فلسفة كونية جديدة ومشوهة، وتمثلت هذه العوامل الأربعة في نزق أثرياء العرب، وهو نزق مفرط بقدر ما إن الثراء مفرط هو الآخر، وضعف علاقتهم بهويتهم الدينية، وتشبثهم الطفولي بأوضاعهم الاستثنائية، وهلعهم مما ينتظرهم من مصير في حالة انبعاث النهضة.
كان تضافر هذه العوامل الأربعة وتآزرها وما ترتب علي هذا التضافر والتآزر من تجليات سياسية وحيدة التوجه سبباً رئيساً في انبعاث حالة فلسفية كونية جديدة لم يتوقع أحد أن تكون نتائجها على نحو ما تحققت بوضوح مبين، فقد جاءت هذه الفلسفة لتُعلي من قدر الدين، وتدفع دفعاً إلى الإيمان بالدين، والتعويل عليه، بل تحكيمه والتحكم به أيضاً، وعلى خلاف ما حدث من نشأة للفلسفة الغربية الحديثة في محاولاتها لتخطّى الدين أو معاداته فإن الفلسفة الشرقية الصاعدة الآن والتي يُطبقها الغرب (بأكثر مما يتبناها الشرق) تستمد جذورها من الدين ومن الإسلام بالتحديد في المقام الأول، وتحاول أن تستعيد الانطلاق من قواعد إسلامية في التعامل ورد الفعل بعيداً عن تكرار القول بالإسلاموفوبيا وهو القول الذي لا يزال صداه يتردد مع أنه استهلك أدواته تماماً.
هكذا تقود السلفية المُستحدثة مجتمعاتها بالمسار العكسي أو بالطريق الموازي إلى صورة من صور الفلسفة الوجودية المبالغ فيها، فيصبح الإنسان في نظر هذه الفلسفة مسئولاً عن اللحظة التي هو فيها فحسب، غير معني بالمجد ولا بالشهادة
ربما أخطو خطوتين للوراء لأقص للقارئ ما أعتقد أنه كان السبب وراء بدايات فلسفة القوة التي تتحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وتمكنها من حكم العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ثم تجد نفسها مضطرة إلى أن تصرح بهذا على لسان كسنجر بعد صدمة الانتصار الإسلامي المفاجئ في ١٩٧٣ الذي بذلت جهدها طيلة خمسة عقود لتتلافى ما تركه من أثر في ثقتها بمنظومتها، ثم تستعيد الإحساس بالغطرسة بعد ثورات الربيع العربي. وأبدأ بالحديث عن أن نيتشه (1844 ــ 1900) كان بفلسفته (التي صارت نموذجا براجماتيا استهدته أمريكا منذ ذلك الحين وحتى الآن) يحاول أن يُنقذ المجتمع الألماني من أزمته الرومانتيكية من خلال طريق رآه فعالا وهو تخليص ذلك المجتمع من رجال الدين وسلطانهم، وبنى نيتشه نظريته وفلسفته على أن الدين هو الذي علّم الناس العبودية للبشر.
ومن العجيب الذي لم يلتفت إليه أحد أنه كان يقرن هذا الطرح بدعوة مباشرة إلى فعل إيجابي شبيه بما نعرفه في الإسلام على أنه الجهاد، وقد تجلى الفكر على المستوى الفردي الذي يفهمه الناس على أنه دعوة من الفيلسوف أو من الفلسفة للشباب (أو للبشر عموماً) إلى تحقيق أهدافهم من الحياة (بما في ذلك من أهداف اللذة نفسها واللهو والمتعة فضلاً بالطبع عن الأهداف الروحية السامية والأهداف العملية) من خلال إرادتهم وعملهم، وهنا تأتي الجملة التي ترتبط بهذا المعنى وينُصّ عليها صراحة أو لا ينُص، وهي الجملة التي تتحدث عن إرادة الإله، فأنت تستطيع أن تكمل جملة شوبنهور بالجملة المشهورة (في الأدبيات الفلسفية) في وصف فلسفته والقائلة “دون خوف أو ترقب لإرادة السموات”.
وبهذه الجملة وحدها تخرج بعقيدتك من طائفة إلى أخرى، وأنت تستطيع كذلك أن تصرف النظر عن هذه الجملة احتراما (على سبيل المثال) لمشاعر المؤمنين في بلاد لن تمنحك موافقتها بله إقرارها على أن تروج لمثل هذه الفلسفة كاملة على هذا النحو. أبتعد بك الآن عن المذاهب الفلسفية بعض الشيء وأدعوك أن تتصور ببساطة شديدة موقف من يمكن لك أن تُسميهم علماء الإسلام السياسي المعاصرين من مثل هذه القضية، فتجد جماعات أو فرقا من السلفية الذين يرون أن الصواب هو نقيض هذا كله، وانه لا إرادة للبشر، وهو منطق ينتهي بالطبع إلى إسقاط الجهاد كوسيلة وكفريضة أيضاً، وهذا هو سر الترحيب الغربي بتطوير السلفية السعودية على سبيل المثال في هذا الاتجاه المنافي للجهاد بدعوى طاعة الحاكم.
وهنا يبدو التكتيك السياسي الأمريكي الناجح والضامن للنجاح أبسط من البساطة، فيكفي أن تعتمد على حاكم إسلامي (تصنعه انت كقوة غربية) يؤمن بحرمة الجهاد وعبثيته بدلاً من مشروعيته وفرضيته، ويجبر هذا الحاكم محكوميه على هذا بمنطق القوة والردع (الذي يُمكن لك كقوة غربية أن تقويهما وتنمّيهما) وبمنطق المرجعية الدينية التي لا توافق على عصيان أوامر ولي الامر مهما كان الخطب..
وهكذا تقود السلفية المُستحدثة مجتمعاتها بالمسار العكسي أو بالطريق الموازي إلى صورة من صور الفلسفة الوجودية المبالغ فيها، فيصبح الإنسان في نظر هذه الفلسفة مسئولاً عن اللحظة التي هو فيها فحسب، غير معني بالمجد ولا بالشهادة، وغير معني بأسلافه ممن يستحقون تمجيد جهادهم، ويدعم هذا ما بدأت السلفية في ترديده (بخبث أو غفلة، والغالب أنه عن غفلة) عن تاريخ الحروب الإسلامية من الحديث عن ان الجهاد نفسه لا يصدق إلا بصدق النية، ولأنك بوسائلك البشرية لا تستطيع أن تجزم بمعرفة النية الصالحة.. فمن الطبيعي أن تتحول النظرة السلفية الراهنة إلى انتاج مسخ جديد من المسوخ الناشئة عن أفكار مناقضة فحسب لفلسفة شوبنهور الذي حاول بفلسفته أن يعوض الألمان عن هزيمتهم وان يبعثهم من جديد فإذا بهذه الأفكار المناقضة في حالة الالتزام بمنظومة طاعة ولي الأمر تتحول إلى انتحار بطيء نشهد الآن بعض مظاهره.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا