كانت حرب 1956 (ولا تزال بعد ٦٤ عاما من وقوعها ) نموذجا للحدث الكبير الذي غطى عليه أصحابه (أو المهملون فيه) بالحديث عما سبقه، وهكذا تتلخص حرب 1956 عندهم وفي كتبهم وفي أفلامهم، في أننا أممنا قناة السويس فعوقبنا، أما الحرب نفسها فإنها لا تحظى بواحد في المائة من أحاديث صحافتنا أو أدبياتنا عن معجزة التأميم التي تتضاءل بجوارها معجزات الزمان، حتى أننا نعطي أهمية قصوى للذكاء النادر في إتمام خطوة لم يعهد البشر لها مثيلًا (هكذا يصورون الأمر)، وهي خطوة تسلم مباني القناة من إدارتها الأجنبية، وكلمة السر التي تحرك بناء عليها المهندس محمود يونس وزملاؤه لتنفيذ التأميم.
أما ماذا حدث على الجبهة وفي الجبهة، وكيف تم الانسحاب، وما تقييمنا لهزيمتنا في هذه الحرب؟ فأمور تجاوزها التأريخ الناصري للأحداث تجاوزًا خبيثا عجز عنه دهاء التاريخ الإنساني كله.
ومن البديهي أنه لا يجوز لنا أن نكتب عن المشير عبد الحكيم عامر كقائد عسكري، من دون أن نتعرض بشيء من التفصيل المتأني (ومتعدد الزوايا) لدوره في الحروب الثلاثة التي خاضها أثناء توليه هذا المنصب: أي حرب 1956، ثم حرب اليمن، ثم حرب 1967 بالترتيب.
الناصريون ينسبون نصرا للسياسة وللجيش الهزيمة
فأما في حرب 1956، وهي موضوع حديثنا، فإن أكثر المصادر المتاحة في أدبيات السياسة المصرية والتاريخ المصري العربي، تكاد تجمع على أن أداء القائد العام للقوات المسلحة المشير عبد الحكيم عامر كان على أسوأ ما يكون، لولا بعض الاستثناءات المهمة والكتابات التي تهيم حبًا بعبد الحكيم. وسوف نتناول هذه الكتابات أو هذه الرؤى من دون إهمال.
ومن العجيب أن الناصرية ومن أيدها من القوى القومية أو من استثمرها من القوى السياسية كانوا يصورون حرب 1956 نصرًا، ثم يتحفظون ليقولوا الحقيقة مشوهة، وهي أنها كانت نصرًا سياسيًا وهزيمة عسكرية، ومعنى هذا بدهاء أنها كانت هزيمة تحولت بفضل معالجتهم إلى نصر سياسي. وكأنهم يعترفون أنهم لا يجيدون إلا الإخراج السينمائي.
وهكذا حكم التاريخ الناصري على المشير عبد الحكيم عامر منذ مرحلة مبكرة بالهزيمة: صريحة ومؤكدة في 1956، ولم يكن في وسع المشير عبد الحكيم أن يمد يده إلى كفاح الشعب في بورسعيد ليضعه في سلسلة انتصارات القوات المسلحة، على نحو ما وضعه الرئيس عبد الناصر في سلسلة انتصار ثورة 1952 أو زعامة الرئيس عبد الناصر.
لو أن المشير عبد الحكيم عامر فكر في حقيقة الأمر على هذا النحو مبكرًا ما بقي في قيادة القوات المسلحة بالطريقة التي بقي بها؛ حيث ينسب النصر إلى السياسة وتنسب الهزيمة إلى العسكرية.
وهذا هو الدرس الذي وعاه أعداء السادات فيما بعد، حين بنوا كل أمجادهم الكاذبة والمفبركة على فكرة مختلقة وهي أن السياسة أضاعت النصر العسكري، لأنهم كانوا قد تعودوا على التزوير السياسي دون أن يذكرهم أحد بالخير.
وبما أن الميدان لا يزال مفتوحا لكل قصيد يهجو المشير عبد الحكيم عامر وأداءه في هذه الحرب، فإن النصوص أصبحت مكررة.
أداء القائد
ومع أنه لا يمكن لأي منصف للوطن أن يجتاز الحديث عن الحرب بدون تقييم القائد، فإنا وقبل كل شيء لا بد أن نشير إلى الحقيقة المهمة وهي أن المشير عبد الحكيم عامر لم يعد نفسه لقيادة هذه الحرب، وأن عبد الناصر والدولة وزملائه والثورة لم يعدوه، ولم يكن يدور بخلدهم أن تدور الحرب على نحو ما دارت.
ومما لا شك فيه أن أداء المشير عبد الحكيم عامر في هذه الحرب لم يكن أبدًا على المستوى المنتظر من قائد شاب يتمتع بكل اللياقة البدنية والسنية ويدافع جيشه عن قضية عادلة هي قضية حياة أو موت ضد طغيان بين وعدوان غاشم.
وليس من شك أن مستوى أداء عبد الحكيم كقائد شاب لجيش شاب لم يكن أبدًا على المستوى المنطقي ولا الواقعي، ولم يكن هذا بسبب قصور في كفايته الشخصية أو العسكرية، أو بسبب تراخ منه، ولكن السبب الحقيقي أن موقع هذه القيادة كان أكبر منه ومن عبد الناصر ومن كل زملائهم على الإطلاق.
وكان الأمر شبيها إلى حد كبير بأن تطلب من طبيب الجراحة العامة الشاب الذي لم يتلق تدريبا إلا في مستشفيات صغيرة محدودة أن يجري عملية جراحية لتبديل شرايين القلب بينما هو لم يجرها على الإطلاق من قبل، ولم يشاهدها من قبل إلا على صفحات الكتب، صحيح أن من هم دونه في السن من نظرائه في المهنة (في ظروف أخرى أو في بلاد أخرى) قد ينجزون هذه الجراحة في سرعة بالغة وبمهارة تامة، ولكن هذا لم يتأت لهم بالطبع إلا بعد تدريب عليها يتلقونه في مراكز متخصصة تجري هذه الجراحات.
غياب التدريب والتوقع
لكننا للأسف الشديد حين نكتب تاريخنا (وحين نطالعه أيضًا) نتجاوز عن بعض عناصر التكوين، بل ونظن أنه بالإمكان تحقيق الإنجاز دون مقوماته أو تحقيق النجاح في وظيفة محددة تتطلب مهارات معينة دون أن يتلقى القائم بها التدريب عليها.
وحتى أزيد الأمر وضوحًا فإني أقول إن الأمر كان شبيها بأن تطلب من خريج هندسة شاب أن يتولى أمر تنفيذ الأعمال المدنية لمترو الأنفاق دون أن يكون قد رأى هذه الأعمال من قبل وهي تنجز تحت الأرض.
وللأسف الشديد مرة أخرى فإن كثيرًا من الذين يكتبون في التاريخ ومن الذين كتبوه لا يدركون في كتابتهم للوقائع مثل هذه الحقيقة البسيطة التي يدركها المهنيون جميعا.
ولهذا السبب وغيره فأنت ترى الكتابات التي تناولت هذه الفترة الحرجة من تاريخنا، وهي تكاد تكون تائهة في الحصول على الحقيقة، وتكون النتيجة كثرة الشماعات التي يعلق عليها الكتاب الخطأ بدءا من تحميل قائد الطيران الفريق صدقي محمود المسئولية، أو تحميل غيره، أو اللجوء إلى نظرية المؤامرة، أو نفي علم عبد الناصر بنية العدوان أو حجمه أو إثبات علمه.
ومن المؤكد أن هناك قدرًا للإلهام وللعبقرية والشجاعة ولغير كل هذه الصفات النبيلة من مواكبة الصدف السعيدة، ومن المؤكد أن هذا القدر قد يسهم بأكثر مما يتوقع له في صناعة النجاح أو تحقيق النصر ولكن من المؤكد أكثر من هذا أن الجزء الأكبر في الحروب وفي غيرها من المهام الكبرى يبقى محجوزًا ومخصصًا للخبرة والمران والتدريب وللممارسة.
ومع هذا فإننا ما نزال نتصور المعارك الحربية بسيطة ومبسطة كأنها تلك التي كانت تجري فيما قبل التاريخ، ونكاد ننسى مثلا أن أحمس مثلًا قد اعتمد في تحقيق النصر على سلاح جديد لم يكن عند أعدائه من قبل، وأنه كان صاحب تخطيط وتكتيك.. وهكذا.
ندرة المتاح عن العمليات في حرب ١٩٥٦
من الإنصاف لأنفسنا أن نكرر ما ذكرناه بكل وضوح من أن الأدبيات المتاحة عن مجريات حرب 1956 شحيحة، فقد تعمد الناصريون أن يغطوا عليها بالأداء التمثيلي في مسرحية التأميم وكلمة السر.
ونبدأ بأن نورد بالتفصيل رأي صلاح نصر في موقف المشير عبد الحكيم عامر في حرب 1956 وسنخرج من قراءة ما يرويه صلاح نصر بانطباع مؤكد أن عبد الحكيم لم يكن ينظر إلى الحرب من حيث هي حرب ولكنه كان بحكم وطنيته (وهذا يحسب له) ينظر إلى مصلحة مصر في المستقبل، وهذه حماقة.. أما من حيث هو مسئول عن إدارة الحرب فقد كان عاجزًا تمامًا عن أن يجد الوسيلة المثلى لإدارة المعركة بما يتفق مع هدفه النبيل هذا.. وهذا ما (يحسب عليه) بكل تأكيد.
لكن النتيجة النهائية أن ما (على) المشير عبد الحكيم عامر كان يفوق ما (له) أضعافًا مضاعفة.
ولنقرأ عبارات صلاح نصر بتعمق وتدقيق حيث يقول:
«.. وبعد أن بدا لعبد الناصر أن اشتراك فرنسا وإنجلترا في الحرب أمر مؤكد، برز التساؤل: هل نستمر في الحرب مهما كانت التضحيات، أم نجنب البلاد ويلات الحرب بالاستسلام وبدء عمليات المقاومة الشعبية؟».
«كان من رأي عبد الناصر الاستمرار في القتال. وقال: إننا لو لم نقاتل اليوم فلن نقاتل أبدًا.. لا بد لنا من القتال حتى لو أجبرنا على الانسحاب إلى الوجه القبلي واللجوء إلى حرب العصابات».
«أما المشير عبد الحكيم عامر فقد ذكّر عبد الناصر بتحذيره له من مواجهة دولتين كبيرتين، وقال لعبد الناصر إن القوات المسلحة ليست في وضع استعداد لمواجهة غزو كبير، وأن معنى ذلك انتحار القوات المسلحة وتخريب اقتصاد مصر».
«واستطرد عبد الحكيم يقول: إن ضرب مصر يؤخرها ألف سنة على الأقل، وإن ضميره لن يسمح له أن يتحمل الشعب المصري هذه المجزرة».
عامر وصلاح سالم يخشيان تدمير الحرب لمصر
ومن الواضح أن المشير عبد الحكيم عامر حسب هذه الرواية كان يمثل ضمير الشاب الذي لم يتلوث بعد بعبادة الذات، على نحو ما حدث لعبد الناصر، لهذا فإننا نجد صلاح سالم هو الآخر يؤيد رأي المشير عبد الحكيم عامر:
«وقد قام صلاح سالم بتأييد المشير عبد الحكيم عامر في رأيه، وذهب صلاح سالم إلى عبد الناصر واقترح عليه أن تستسلم الحكومة القائمة، وتأتي حكومة جديدة تتفاوض مع الغزاة».
«قال صلاح سالم لعبد الناصر: إننا لم نقم بثورة كي نعرض البلاد للخراب.. إن وطنيتنا كمجلس ثورة تحتم علينا أن نترك الحكم، ونسلم أنفسنا للسفير البريطاني، وبذلك ننقذ مصر من الخراب.. وهنا انفجر عبد الناصر في وجه صلاح سالم ونعته بالجبن، وقال له إنه داعية استسلام، مما أثار حفيظة صلاح سالم».
«كان عبد الناصر في حالة أشبه بالهستيريا، ويبدو أنه تذكر نهاية هتلر وبعض أعوانه، فاقترح على أعضاء مجلس الثورة الانتحار كبديل للاستسلام.. وبالفعل كلف عبد الناصر زكريا محيي الدين كي يعد كمية من عبوات سيانيد البوتاسيوم تكفي أعضاء مجلس الثورة، لاستخدامها لو لزم الأمر».
التناقض الظاهر في مواقف المشير
بعد أن استوعبنا الفكرة التي أراد صلاح نصر أن يصورها في الفقرة السابقة، ننتقل أى فكرة أخرى نعبر عنها باطمئنان وهي أن صلاح نصر يكاد من حيث لا يدري أن يدلنا على موقفين متناقضين للمشير عبد الحكيم عامر.
فقد كان عبد الحكيم في حرب 1956 متخوفًا على بلاده وحريصًا عليها ومستعدًا للتضحية من أجلها بروح وأرواح زملائه..
ولكن عبد الحكيم نفسه في 1967 أصبح مستعدًا لأن يغامر تمامًا بكل شيء، لأنه كان قد اكتسب خبرة (وإن تكن غير سليمة) بأن المغامرة قد تقود إلى النجاح، كما حدث لعبد الناصر الذي أصبح بطلًا شعبيًا بعد 1956.
وسوف نناقش هذه الفكرة بالتفصيل في حديثنا عن 1967، لكننا لا بد أن نعقد المقارنة هنا حتى لا يقع قارئ في الخلط بين موقفين متناقضين أو أن ينقل موضع هذا الرأي إلى الموضع الآخر.
رواية البغدادي عن سير المعركة
وقد تحدث عبد اللطيف البغدادي في حواره لمجلة نصف الدنيا عن سوء إدارة المشير عبد الحكيم عامر لمعركة 1956، بعد أربعين عامًا من وقوع هذه المعركة بشيء من التفصيل الواعي حيث قال:
«كان عامر يدفع بقوات كثيرة إلى أرض المعركة دون مبرر، وقد لاحظت ذلك عندما ذهبت يوم 30 أكتوبر 1956 إلى مبنى القيادة العسكرية ولمست سوء إدارة عامر للمعركة، فقد أصدر أوامره بضرورة رجوع القادة إليه في كل صغيرة وكبيرة، في الوقت الذي كان يجب فيه أن يتفرغ للأمور الهامة، وقد تحدثت في اليوم التالي مع عبد الناصر عندما ذهبت للمبيت معه في منزله وأخبرته بحالة عامر العصبية والتي انعكست على أسلوبه في إدارة المعركة».
تصويرات محمد جلال كشك
وننتقل مباشرة لقراءة رؤية صحفية تتأمل الأحداث بعد سنوات من وقوعها، وتتمثل هذه الرؤية في هذه الفقرات التي كتبها الأستاذ محمد جلال كشك، وهو واحد من أشد الناس تحاملا على عبد الناصر وعلى المشير عبد الحكيم عامر وعلى موقفهما في 1956.
ويروعنا أن نرى أن الأستاذ محمد جلال كشك نفسه يتصور أنه كان بإمكان المشير عبد الحكيم عامر أن ينتصر في 1956 بنفس الأسلوب الذي انتصر به في معركته مع سلاح الفرسان في 1954.
ومع أن المشير عبد الحكيم عامر لم يفكر بهذه الطريقة لأسباب أخرى يعرفها القارئ، إلا أن العجيب في الأمر أن يظن محمد جلال كشك وهو صحفي بارز ورجل مثقف أن مثل هذا التفكير أو الأسلوب كان كفيلًا بتحقيق نتيجة تذكر في حرب كحرب 1956.
وسنقرأ ما كتبه الأستاذ محمد جلال كشك بما فيه من انتقاده لما كتبه أحمد حمروش، وسنجد أنفسنا ندرك بمنتهى السهولة أن المشير عبد الحكيم عامر نفسه لم يكن نشازًا عن طلائع المثقفين المصريين في سوء تقديره لمسئوليته في الحرب، وسنجد أنفسنا نقول إنه لو كان المشير عبد الحكيم عامر نفسه لا زال على قيد الحياة ما كان قد استوعب حتى الآن ما حدث في 1956.
وفي كتابه «كلمتي للمغفلين» يأخذ الأستاذ محمد جلال كشك من كتاب الأستاذ أحمد حمروش فقرة عن المشير عبد الحكيم عامر فيستنتج منها أخطر الدلالات التي يدين بها الثورة والضباط، ومن الإنصاف أن نذكر أن كثيرًا من الحقائق المغيبة تظهر لنا من خلال قراءة هذا النص الذي ننقله من كتاب محمد جلال كشك، الذي يبدأ بإثبات نص حمروش ثم التعقيب عليه.. يقول أحمد حمروش:
“كان المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة غير مؤهل في شخصيته لتولي هذا المنصب الخطير، ولكن جمال عبد الناصر عينه فيه خلال أزمة التناقض مع محمد نجيب ليضمن السيطرة على الجيش لثقته من ولاء عبد الحكيم له باعتباره صديق عمره والذي كان يسكن معه في سكن واحد قبل الزواج”.
“ولذا فإن مواجهة المشير عبد الحكيم عامر للعدوان لم تكن إيجابية ولا ديناميكية.. وشخصيته الطيبة المحبوبة لم تكن ذات تأثير نافذ في ظروف المعركة، كما أن تحريكه للقوات وإعداده للخطط، رغم استعانته حتى ذلك الوقت في مكتبه بعدد من خيرة الضباط أركان الحرب، لم يكونا متناسبين مع خطورة الموقف، فأصدروا أمرا لمحمد رياض محافظ بورسعيد بتولي قيادة القوات المسلحة في بورسعيد وهو مدني متخرج من كلية الحقوق،”.
“كما أن مساعده قائد القوات الجوية الفريق محمد صدقي محمود ترك طائراته فريسة للهجوم وهي رابضة على الممرات الجوية دون تحليق. مما أدي إلى تحطيمها فعلا في يوم واحد، رغم أن خطة المعتدين قد قررت لذلك يومين”.
تصرفات قيادتنا كانت تعجل بالهزيمة
عند هذا الحد يعلق الأستاذ محمد جلال كشك تعليقًا موضوعيًا ذكيًا يكشف التناقض الواضح في رؤية رجال الثورة للحرب والقيادة على حد سواء، فالمعتدون قرروا تدمير طائراتنا في يومين، لكن قيادتنا مكنت المعتدين من تدميرها في يوم واحد، وذلك بناء على أمر عبد الناصر الصريح وخطة مدروسة.
ومن الغريب أن الأستاذ محمد جلال كشك مات قبل أن يتصور صحة الحقيقة الدامغة فيما اكتشفه من هذا التناقض الواضح:
«حمروش هنا غير منصف لصدقي محمود، فحسب رواية الأمين على التاريخ (أي هيكل) كان ترك الطائرات على الأرض بأمر صريح من الرئيس عبد الناصر وخطة مدروسة!! وبالطبع العدو قدر يومين على أساس الاشتباك، ولكن تحطيم طائرات أوز رابض على الأرض مقصوص الجناح لا يحتاج إلا إلى ساعة واحدة».
ونمضي مع هذا التأمل البعدي أو التحليل البعدي الذي قدمه كاتب يملك ناصية الفكر والواقعية والسخرية، وقد اكتشف الخديعة التي عاشها طوال سنوات مضت من عمره، يقول الأستاذ محمد جلال كشك:
«ولكن ليس هذا أخطر ما في شهادة حمروش.. فهو يشهد أن:
1 ـ المشير عبد الحكيم عامر غير مؤهل لمنصب القائد العام.
2 ـ عبد الناصر اختاره لعلاقته الشخصية به وسكناه معه في شقة واحدة قبل الزواج لكي يضمن سيطرته على الجيش من خلاله».
يتساءل الأستاذ محمد جلال كشك بعد أن يورد هذه الحقائق:
«هل هذه هي المؤهلات التي تعين بها «الثورات» قادة الجيوش؟! هل هكذا تحمى الأوطان؟!».
….. ….. ….. …..
لكن الأستاذ محمد جلال كشك فيما يبدو لم يكن يتصور أن هذا الاختيار مقصود، وأن الهدف من وراء هذا الاختيار كان أصعب مما يتصوره أو يتخيله، لكن مرور الزمان جعلنا نفهم ما لم يكن أحد يتصور حدوثه.
وهو يستطرد متسائلا:
«وإذا كانت الرواية الشائعة هي نصيحة صلاح سالم بالتسليم، فإن البغدادي يقسم هذه النصيحة مناصفة بين عبد الحكيم وصلاح سالم، بل ويجعل عامرًا هو السباق إليها فيقول إن عامر اختلى بجمال عبد الناصر وعرض عليه التسليم أو طلب وقف القتال. وإن عبد الناصر استدعى البغدادي إلى مكتبه وطلب من عبد الحكيم أن يتحدث معه وزكريا «في الموضوع الذي سبق وذكره له، أي لجمال. وقال عبد الحكيم إنه يفضل طلب إيقاف القتال».
«أما حكاية صلاح سالم فهي أطرف في رواية هيكل.. إذ قال لجمال عبد الناصر:
«أديت لمصر خدمات عظيمة وأنت اليوم مطالب بخدمة أخرى سوف تذكرها لك، وهي أن تذهب إلى السفارة البريطانية وتسلم نفسك».
لماذا اختلف أداء المشير في ١٩٥٦ عن ١٩٥٤
يواصل الأستاذ محمد جلال كشك تحليله لأداء المشير عبد الحكيم عامر في حرب 1956 مقارنًا هذا الأداء بما كان من نفس الشخص في 1954، دون أن يحسب حساب العامل المضاف في 1956، وهو أن عبد الناصر كان له توجهان: توجه ظاهر يعرفه الناس جميعًا، وتوجه باطن مركب لا يمانع في أن يثبت فيه فشل المشير عبد الحكيم عامر أو أي أحد آخر لأن الأمر كان عنده أوسع من معركة أو حرب:
«نعود إلى اهتمامات القيادة في مارس 1954: وقام سلاح الطيران المؤيد لجمال عبد الناصر بالتحليق الإرهابي فوق سلاح الفرسان المؤيد لمحمد نجيب وخالد محيي الدين، وأعلن المشير عبد الحكيم عامر أنه غير ملتزم بقرار مجلس الثورة وأنه سيدك سلاح الفرسان إن لم يخضع لأوامره وعلى المجلس أن يحاكمه بعد الانتهاء من المعركة!».
«والمعركة المقصودة هي ضد سلاح الفرسان المصري! ولو أن عامر اتخذ القرار الشجاع مرة واحدة في 1956 أو 1967.. أعني دك إسرائيل على مسئوليته وليحاكموه بعد المعركة.. لتغير التاريخ.. ولكن هيهات!!».
«وماذا كان بوسع المشير عبد الحكيم عامر أن يفعل ليسيء إلى البلاد (أكثر مما فعل؟!) لو شنقه عبد الناصر وقتها لتضاعفت شعبية عبد الناصر.. فلم يحدث أن كان المصريون بمثل هذه النقمة على جيشهم، كما كانوا في تلك الأيام، وبالذات على قائد الجيش».
«كان الموقف لم يتضح فيه نصر بعد. ولكن الشعب كله كان ملتفا حول عبد الناصر، وفي نفس الوقت كانت البلد كلها تعرف وتتحدث عن هزيمة الجيش «وفرار» الضباط كما قيل أو ظنوا، فلم تكن قد نظّرت بعد فتوى الانسحاب العبقري! وكان الجيش والشعب يحملان المسئولية للمشير عبد الحكيم عامر، أو المواوي كما أطلقوا عليه».
ونواصل قراءة هذه الأسئلة الكاشفة والدالة على مدى ما وصل إليه الانكسار والفشل في قيادة القوات المسلحة لحرب 1956:
يقول الأستاذ محمد جلال كشك:
«ولما أقنع الإعلام الشعب بالانتصار! ظلت الجماهير مقتنعة أن عامر والجيش هزما مصر، وناصر والشعب خلصاها من هذا المأزق.. فماذا كان بوسع عامر أن يفعل؟»
«ويقول البغدادي إنه أبلغ المشير عبد الحكيم عامر «بما كنت ألمسه وأسمعه من ضباط القوات الجوية، ومن أنهم فقدوا الثقة في قياداتهم نتيجة الأخطاء التي حدثت، وأن هذا يستلزم اتخاذ بعض الإجراءات بالنسبة لهؤلاء القادة حتى تعود الثقة بين القادة ومرؤوسيهم، وعليه أن يجري تحقيقًا مع القادة الذين تسببوا بإهمالهم في هذه الأخطاء والعمل على نقلهم إلى جهات أخرى. وتدخل عبد الناصر مؤيدا ذلك واقترح نقل صدقي محمود إلى منصب وكيل وزارة الحربية لشئون الطيران».
وعند هذا الحد يعلق محمد جلال كشك على هذه النقطة بالذات تعليقًا في غاية الأهمية، مع أنه قد يتناقض مع ما استقر في عقيدة مواطني عهد الثورة، من أن الفريق محمد صدقي محمود هو المسئول عن الهزيمة العسكرية في 1956، ذلك أن محمد جلال كشك يمحص المسألة وينتهي إلى حقيقة مخالفة لهذا القول المرسل الذي أصبح من المسلمات:
«نريد إن نعرف ما هي الأخطاء إذا كانت الخطة العبقرية هي بنص حروف قارئ الوثائق وفاتح الخزائن (يقصد هيكل): «على الطيران المصري ألا يشتبك مع العدو لأن المعركة غير متكافئة»! وماذا كان بوسع قائد الطيران أن يفعل لتنفيذ هذا الأمر أكثر مما فعل.. أمر الطيارين بالتوجه فورًا إلى منازلهم وترك الطائرات للتغرير بالعدو فيضربها ويخسر قنابله على الفاضي، فالطيار طار.. بدون طائرة!».
«إما إن هذا اتهام غير مفهوم وتجني على صدقي محمود وعامر بعدما وقعت البقرة وكثرت السكاكين.. وإما أن رواية هيكل كاذبة، ملفقة لستر الهزيمة، على طريق العمدة».
صلاح نصر يحاول إنقاذ سمعة المشير
لا أظن أنني تحاملت على المشير عبد الحكيم عامر بنقل كل هذه الفقرات من حديث الأستاذ محمد جلال كشك في كتابه «كلمتي للمغفلين»، والذي ضمنه أقوال البغدادي والأستاذ أحمد حمروش والأستاذ محمد حسنين هيكل!! لا أظن أنني قد تحاملت، ولكني مع هذا ميال إلى أن أجد من ينصف المشير عبد الحكيم ولكن يبدو أن أماني لا تلقى ما يدعمها في الأدبيات السياسية والتاريخية المتاحة، وإذا أردنا أن ننصف المشير عبد الحكيم عامر برواية أحد أصدقائه عن دوره في 1956 فلن نجد في البداية إلا العودة إلى رواية صلاح نصر.
ومع هذا فإن رواية صلاح نصر التي بدأنا بالنقل عنها «وهي تمثل رواية مهمة وطريفة جدًّا» لا تكاد تنصف عبد الحكيم إلا من أن يكون قد حاول تحكيم العقل بناء على نصيحة صلاح سالم، وهذا هو صلاح نصر في مذكراته يقول:
«وقام الإنجليز صباح السبت 3 من نوفمبر بغارة جوية شديدة على مطار ألماظة والثكنات العسكرية القائمة بها، وسببت خسائر في المعدات وبعض الأرواح، وضربت خزينة ألماظة العسكرية وانتثرت الأموال التي كانت بها.. وأحس عبد الناصر بمدي الخطر الذي تتعرض له البلاد وبالتالي نظامه لو قامت القوات الفرنسية والبريطانية بغزو بلاده، فهو ليس مهددا من الخارج فحسب بل من الداخل أيضًا.. وكان عبد الناصر يكن الكره لصلاح سالم، ويظن أنه هو الذي يحث المشير عبد الحكيم عامر على فكرة تجنب ويلات الحرب.. وبدت في الأفق بداية لتدهور العلاقات بين صديقي العمر جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر إذ بدأ جمال يشكو لكل من يقابله من المشير عبد الحكيم عامر، قائلا إن عبد الحكيم عزله عن القيادة العسكرية، وإنه لا يضعه في الصورة عما يجري من أمور الحرب، بالرغم من أنه المسئول الأول عن حماية البلاد وأمنها».
تجني الرئيس عبد الناصر وتصدع العلاقة
ثم إن صلاح نصر يصف سلوك الرئيس عبد الناصر بالتجني فيما أصدره من حكم على أداء المشير عبد الحكيم عامر في حرب 1956، وهو يقدم أسانيد قوية تجعل حكمه أكثر إنصافًا للتاريخ:
«والواقع أن هذه الشكوى تجني كبير، فعبد الناصر كان موجودا دائمًا منذ بداية عدوان إسرائيل في القيادة العامة، وهو الذي ابتعد بعد ذلك عن القيادة بعد أن تبين خطورة الموقف».
«أحسست أن تصدعا في العلاقة بين جمال وعبد الحكيم وشيك الحدوث».
«في ظهر يوم 3 من نوفمبر اتصل جمال عبد الناصر هاتفيا بالمشير عبد الحكيم عامر في مبنى القيادة بكوبري القبة، حيث كانت القيادة العامة قد تركت مركزها في الزمالك وعادت إلى مبنى كوبري القبة.. ولاحظت أن المشير عبد الحكيم عامر يعض على نواجذه.. وبعد انتهاء المحادثة طلب المشير عبد الحكيم عامر من صلاح سالم الذي كان موجودا بالمكتب أن يسافر إلى السويس ويتولى مسئولية الدفاع عنها».
حقيقة موقف صلاح سالم من الحرب
يفعل صلاح نصر الشيء نفسه مع صلاح سالم، مقدمًا أفضل دفاع يمكن لصلاح سالم أن يقدمه عن نفسه:
«وخرجت مع صلاح سالم لأودعه وكان يبدو على وجهه سمة من حزن وحسرة.. وعلى درجات مبنى القيادة قال لي صلاح سالم وأنا أودعه: «بقي جمال عبد الناصر بيقول على جبان علشان كنت عاوز أنقذ مصر من ويلات الحرب.. أنا رايح السويس وهحارب.. ودي مش أول مرة أحارب فيها.. أنا كان غرضي أن أحمي مصر من الخراب.. واستقل صلاح سالم سيارته وسافر إلى السويس ليشرف على العمليات العسكرية بها».
مشادة المشير مع الرئيس
ويستمر صلاح نصر في سرد روايته، مستأنفًا الحديث بعناية ودقة عن تأثر علاقة عبد الناصر بعبد الحكيم، وكأن المعركة نفسها كانت شيئًا ثانويًا بالنسبة للعلاقة بين الرجلين، فيقول:
«على أن ما أريد أن أبينه هو أن العلاقة بين عبد الناصر وعامر بدأت تتأثر منذ حرب السويس.. فقد اتهم عبد الناصر المشير عبد الحكيم عامر بأنه واقع تحت تأثير صلاح سالم، وبأن عبد الحكيم لا يضعه في الصورة عما يجري في القوات المسلحة..
«وحدثت مشادة بين الرجلين.
«وطلب المشير عبد الحكيم عامر من جمال عبد الناصر أن يتولى القيادة العسكرية بدلا منه، وأبدى عبد الحكيم استعداده للعمل تحت قيادته.. وقد ثار المشير عبد الحكيم عامر على جمال عبد الناصر، حينما قال الثاني للأول إنه واقع تحت تأثير صلاح سالم.. رد عليه عبد الحكيم بقوله: «أنت عارف أن لي شخصيتي المستقلة، ولا يمكن أن يؤثر على صلاح سالم أو غيره».
ثم يسجل صلاح نصر في مذكراته ملخص انطباعه المبكر عن بدايات خلافات الرجلين بسبب هذا الموقف فيقول:
«لقد شعرت منذ هذه الأيام أن علاقة المشير عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر قد شابتها الحساسية والتصدع، وربما كانت هذه الأيام بداية لتوتر العلاقات بينهما، التي ازدادت على مر الأيام حتى تمت مأساة عام 1967».
و على هذا النحو كان صلاح نصر مدير المخابرات العامة، الذي هو كاتب عسكري أيضًا (وإن لم يشتهر عنه هذا) يرى الأمور بوضوح شديد يتناقض مع كل السياسات التي فرضت نفسها بعد ذلك وعلى مدى أكثر من عشر سنوات كانت كافية لإحداث هزيمة 1967، حتى بدون اندلاع حرب 5 يونيو.
وعي المشير بالفشل الذي أحرزه ومحاولته الاستقالة
في جميع الأحوال فإن مما ينصف المشير عبد الحكيم عامر أن يكون هو نفسه واعيًا لفشله في إدارة معركة 1956، ويبدو أن هذا الوعي قد حدث بالفعل، وهذا هو ما يقوله البغدادي في حديثه لمجلة نصف الدنيا (1996):
«في 25 ديسمبر 1956 أرسل المشير عبد الحكيم عامر باستقالته مع زكريا محيي الدين لشعوره بأن مهمته قد انتهت، وقد تقابلت مع عبد الناصر وسألته عن استقالة عامر فطلب مني أن يظل هذا الموضوع سرا بيننا، وأخبرني بأنه يريده أن يفكر ويشعر بالخطأ الذي ارتكبه، وقد فهمت أن عبد الناصر لا يريدني أن أتدخل وأفاتح عبد الحكيم في هذا الموضوع، وفي اليوم التالي أخبرني عبد الناصر بأن مسألة استقالة عامر قد سويت».
الصورة التي تقدمها مذكرات برلنتي
ومن حسن حظ الجدل المصري العظيم في أمور السياسة والحرب في عهد 1952، أن الذي تولى كتابة مذكرات برلنتي عبد الحميد قد وضع لأحداث حرب (1956) سيناريو كفيلا بتقديم صورة للمشير عبد الحكيم عامر مختلفة عن تلك الصور التي استقرت في أذهان المصريين، ولأننا حريصون على إتاحة الفرصة لوجهات النظر المختلفة أمام أعين القراء فسوف ننقل لهم رواية مذكرات برلنتي التي لم تحضر هذه الوقائع ولكنها تصورتها ثم صورتها بطريقة تبدو شبيهة بنموذج آراء مارشالات الحروب الذين كثر عددهم إلى حد بعيد بعد حرب 1956 وذلك حيث تقول:
«… كان عامر منصرفا بذهنه كله إلى المعركة، دون أن يلقي بالًا إلى الآراء التي تتخبط من حوله، وهذا ما جعله يستنتج اشتراك قوات إنجليزية وفرنسية مع قوة الطيران الإسرائيلي، لأن أعداد الطائرات كانت أكثر بكثير من قوة الطيران الإسرائيلي، وعلى هذا اقترح عامر على جمال سحب القوات من سيناء لأن ما يحدث هو كماشة لوضع الجيش المصري في مصيدة، واعترض على هذا القرار من الموجودين، عبد الناصر، والبغدادي، وزكريا محيي الدين. وأصر عامر على الانسحاب خوفا من هلاك الجيش، وحينما أصروا على رفض الانسحاب، ثار عامر في وجه عبد الناصر وطلب عامر تنحيته عن المعركة ليقودها ناصر بنفسه، ولكن عبد الناصر تراجع ووافق على الانسحاب، وكان الانسحاب منظما وتم الحفاظ على معظم قوة الجيش».
«وكان هذا أول خلاف بينهما بعد الثورة، أثر في علاقتهما وجعل بينهما حساسية دائمة، حتى إن جمال كان لا يفتأ فيما تلا ذلك من سنوات يعاتبه بين حين والحين بقوله: «لا أستطيع أن أنسى أنك ثرت في وجهي وخاطبتني بصورة غير حسنة أمام البغدادي وزكريا!».
تشكيك مذكرات برلنتي في السوفييت
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن مذكرات برلنتي تصور علاقة الروس بالمشير إلى أقصى ما وصل إليه أي واحد من كل الذين يمكن وصفهم بأنهم يتبنون نظرية المؤامرة، وهي حريصة على أن تؤصل هذا المعنى وتمتد به في الماضي البعيد ليصل إلى 1967 بدلًا من أن تقف به عند حدود 1956 أو ما قبلها بقليل، ومع أن الأدلة تعوز رواية برلنتي إلا أنها تصور جانبا من الوجدان الشعبي الذي شكل آراء جماعات كثيرة من الجيل الجديد حول هذه القضية، ومع أن المبالغة واضحة جدًّا في العبارات التي تضمنتها مذكرات برلنتي إلا أنها بحاجة إلى القراءة وهي تقول:
«في عام 1956، وبالتحديد في أواخر أكتوبر، كان المشير في زيارة لسوريا حين وقع العدوان الثلاثي على مصر، فقطع المشير زيارته ـ وكان ذلك في الحادي والثلاثين من الشهر ذاته ـ وقرر العودة إلى مصر، بعد أن تم الاتفاق على تشكيل قيادة القوات المسلحة، على أن يكون مقرها القاهرة.. وترصدت قوى الأعداء تحركات عبد الحكيم، يحدوها الأمل في التخلص منه بإسقاط طائرته، ولكن القدر تدخل، فحدث أن تأخرت طائرة المشير، وكانت هناك طائرة أخرى تحمل مرافقيه، فأقلعت قبل طائرة المشير، فظن الأعداء أنها طائرة المشير فأسقطوها، ولا يعرف حتى الآن مصير هذه الطائرة المنكوبة ولا مصير من فيها».
رؤية الدكتور عبد العظيم رمضان في أن الحرب كشفت سلبية الجيش
أما الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه «تحطيم الآلهة» فيرى أن حرب 1956 أبرزت «القيمة السلبية» للجيش وللمشير عبد الحكيم عامر:
«وجاءت حرب السويس في 29 أكتوبر 1956 لتبرز دور الجيش، ودور المشير عبد الحكيم عامر بالذات. ومن الغريب أن ذلك لم يحدث بسبب أداء الجيش مهامه على الوجه الأكمل، بل بسبب الأخطاء التي ارتكبتها قياداته أثناء المعركة، والتي كان مفروضًا أن يحاسب عليها المشير عبد الحكيم عامر عسكريا».
ولنقرأ هذا النص الآخر الذي يقدم تبريرات مهمة لما حدث على نحو ما حدث:
«ولذا قرر سحب قوات الجيش إلى منطقة القناة لتقف مع الشعب في دفاعه عن حريته وقناته، بدلا من دفعها إلى سيناء وهي 1/8 مساحة مصر كلها، (ربما نقف هنا لنقول إنها نصف الثُمن أو 1/16)، والقوات المتيسرة ليست كافية للدفاع عنها في ظروف تفرض الصحراء فيها متاعب إدارية وفنية كبيرة.
«ولم يدرك المشير عبد الحكيم عامر للوهلة الأولى فكرة عبد الناصر من الانسحاب، وظل في مناقشة عاصفة معه طوال الليل مما أخر سحب الدبابات قليلا. وصعب أن يضع الكاتب نفسه في مقعد القاضي، ولكنه أمر معروف في كل الجيوش أن القائد المهزوم لا يجوز له أن يواصل القيادة في موقعه».
«كان استثناء المشير عبد الحكيم عامر من المحاسبة والإبقاء على قادة القوات الثلاثة، راجعا إلى الطبيعة الخاصة في علاقات جمال عبد الناصر بزميل عمره وموضع ثقته..
«وراجعًا أيضًا إلى أن الظروف التي وضع من أجلها المشير عبد الحكيم عامر قائدا عامًا للقوات المسلحة وهو غير مؤهل لذلك ما زالت قائمة.. الرغبة في السيطرة على القوات المسلحة بكل تفاصيلها عن طريق أشد زملائه إخلاصا له».
محمد حافظ إسماعيل يحاول الدفاع عن المشير والجيش
وفي مقابل هذه الرؤى الشائعة القائلة بأن عبد الحكيم عامر أساء إدارة المعركة وأن الجيش المصري قد تسبب لمصر في هزيمة كبيرة فقد حاول اللواء محمد حافظ إسماعيل (الذي كان مديرا للمكتب الفني للمشير في ذلك الوقت) في حديثه عن حرب 1956 أن ينصف عبد الحكيم عامر والجيش المصري، ونحن نجد اللواء محمد حافظ إسماعيل فيما يرويه يتمتع بالمنطقية الجزئية دون أن يعني بالمنطقية الكلية إن جاز هذا التعبير، ولنبدأ بما يرويه قبل أن نصل إلى رأيّه.
ومن الجدير بالذكر أن اللواء محمد حافظ إسماعيل لم يكن في مصر حين وقعت الحرب وإنما عاد من بيروت إلى دمشق إلى السعودي ومنها بالطيران الحربي إلى أسوان ومنها بالقطار إلى القاهرة:
“………… في الساعات الأولي من صباح 7 نوفمبر 1956 بلغت القيادة العامة في كوبري القبة، عائدا من دمشق عن طريق المملكة العربية السعودية، حيث واصلت رحلتي على متن طائرات سلاح الطيران المصري إلي أسوان، ثم أكملتها بالقطار إلى القاهرة. وكان يصحبني عدد من المسئولين المصريين الذين كانوا قد احتجزوا في بيروت عندما نشبت الحرب “.
” وعندما اجتمعت بالمشير عامر، كان واضحاً قدر ما يعانيه نتيجة ما انتهت إليه الحرب. فقد فقدت مصر سيناء وبورسعيد، كما دمرت قواتها الجوية بصورة تكاد تكون تامة، علاوة على ما تحملته الوحدات البرية من خسائر خلال انسحابها من شمال سيناء، واستسلام بعض العناصر العاملة والحرس الوطني المرابطة في شرم الشيخ وغزة”.
موقف القيادة العامة
يلخص اللواء محمد حافظ إسماعيل الموقف والآراء التي تبلورت في القيادة العامة للقوات المسلحة حيث كان هو نفسه مدير مكتب القائد العام للشئون الفنية:
“وكان المتداول في القيادة العامة، خلاف الرئيس عبد الناصر والمشير عامر حول إدارة المعركة. وأكد ذلك ما أفضي به الرئيس لرفيقه عبد اللطيف البغدادي ليلة 4/5 نوفمبر، وهما في طريقهما إلى الإسماعيلية، حيث شاهد قصف القوات الجوية البريطانية لقواتنا المنسحبة من شرق سيناء. ولم يملك الرئيس عندئذ إلا أن يعبر عن إحباطه بقوله: “إن جيشي قد هزمني!”.
” وفي 10 نوفمبر عرض المشير استقالته من منصبه فور تحقيق انسحاب القوات البريطانية والفرنسية، إلا أن الرئيس عبد الناصر استطاع أن يتجاوز أزمة الثقة وأن يسوي الخلاف بينهما. وعلى هذا، فمنذ أوائل يناير أصبح من الممكن تركيز الجهد من أجل تقييم المعركة العسكرية واحتياجات إعادة البناء”.
………………
هذا إذن هو مجمل رأي اللواء محمد حافظ إسماعيل :
• كان المشير عامر يعاني..
• عرض المشير استقالته..
• عبد الناصر استطاع تجاوز الأزمة
رأيه أن القوات المسلحة لم تنتصر لكنها لم تخسر المعركة
أما رأي اللواء محمد حافظ إسماعيل في موقف القوات المسلحة المصرية في حرب 1956 فهو أيضا مختلف تماماً عن آراء كل المسئولين الآخرين وعن الآراء السائدة ومع أنه يعترف بأن القوات المسلحة المصرية لم تنتصر فهو يضيف إلي ذلك أنها لم تخسر المعركة .. وهو بيدي أسباباً يعلل بها هذا الرأي حيث يقول بكل وضوح:
“وعندما يجري تقييم أداء أدوات الصراع في المعركة، قد لا يملك الكثيرون سوي الادعاء بأن القوات المسلحة قد تلقت ضربة عنيفة خلال عشرة أيام من القتال. وبكل المقاييس العسكرية، فمن الضروري أن نعترف بأن قواتنا المسلحة لم تكسب المعركة العسكرية التي خاضتها. لكن من الإنصاف أيضاً أن نقول إنها لم تخسرها. ودون ادعاء مبالغ فيه، نستطيع أن نسجل حقيقة أن “جيش عبد الناصر” لم يهزمه، وأن أداءه قبل وخلال معركة سيناء ـ السويس كان عاملاً هاماً في تحقيق القيادة السياسية لأهدافها الوطنية “.
“ففي مرحلة الاقتراب من الحرب، استطاعت قيادة القوات المسلحة أن تحسن تقدير الموقف وأن تطور تقييمها مع تتابع الأحداث ـ غير المنظورة ـ على الجانب الآخر، حتى كانت مراحل تخطيطها للدفاع تتوافق يوماً بيوم مع مراحل تخطيط قيادة العدوان الثلاثي.
“ولقد وضعت القيادة العامة وهيئات أركان الحرب بناء على ذلك خطط المواجهة، ورتبت أوضاع القوات على جبهتي القتال في سيناء والقناة/ الدلتا، وأجرت تحركات واسعة النطاق للقوات المقاتلة. واستجابت التشكيلات المقاتلة لمطالب التخطيط، وساعدت كفاءة عناصرها الفنية والإدارية على التغلب على مشكلات تعديل مناطق الحشد والانتشار.”
” ولقد فرض هذا الأداء على قيادة الحلفاء إبطاء عجلة الحرب، والحد من اندفاعها نحو شن عملية حربية خاطفة “.
” وعندما نشبت الحرب، قررت القيادة السياسية تبني تقديرها باستبعاد احتمال هجوم أنجلو ـ فرنسي.. وتركيز التصدي في اتجاه إسرائيل، ونقل مركز الثقل الاستراتيجي لقواتنا إلي سيناء.
” وفي تقديرنا أن هذا القرار كان سابقاً لأوانه. ففي مثل الظروف التي كانت تواجهنا، لم يكن هناك ما يبرر في مساء 29 أكتوبر ـ وبخاصة بعد الإنذار البريطاني/ الفرنسي في مساء 30 أكتوبر ـ استبعاد التدخل الغربي. وطالما بقيت القوات الأنجلوـ فرنسية عبر الشاطئ الشمالي.. فقد كان من الحكمة أن نمنح أنفسنا فسحة من الوقت نتبين خلالها نواياها قبل أن نلقي بثقلنا في اتجاه أو آخر. وحتى يحين الوقت المناسب، كان علينا أن نتخذ القدر المحدود من الإجراءات لدعم دفاعاتنا ولمنع الموقف من الانفلات “.
المناورات الاستراتيجية التي قامت بها مصر
يؤكد محمد حافظ إسماعيل على هذا المعنى بعبارات أخرى تعتمد على لغة عسكرية فنية دقيقة حيث يقول:
” استطاعت القيادات العسكرية وتشكيلاتها المقاتلة ـ استجابة إلى تقديرات القيادة السياسية ـ أن تقوم بمناورات هامة في فترات زمنية صغيرة، لكي تتلاءم وما تتطلبه المواقف الاستراتيجية الجديدة. ففي خلال 48 ساعة استدارت قواتنا شرقاً للتدخل في سيناء، ثم قامت بالانسحاب غرباً إلى منطقة القناة، رغم ظروف السيادة الجوية للقوي المعتدية.
” ولقد ساعد ذلك على إبطاء عمليات قوات العدوان. فقد استطاعت قواتنا أن تكسب للقيادة السياسية أياماً، بل ساعات ثمينة، سمحت بتعبئة وإقحام تأييد دولي ضخم للقضية المصرية. ولم تكن هذه القوي السياسية التي ألقت بثقلها في المعركة إلى جانب مصر، لتقبل عليها لولا ثقتها في أنها تخطو فوق أرض صلبة يمثلها إصرار القيادة العليا للبلاد وفعالية قواتها المسلحة وتصميم شعبها على مواصلة القتال “.
“ومن الضروري أن نعيد تأكيد مواقف قواتنا على الجبهة الشرقية، إذ لا يمكن الادعاء بهزيمتها أمام “الهجوم” الإسرائيلي خلال معركة سيناء. ففي المرحلة الافتتاحية للعمليات، اكتفت القوات الإسرائيلية بتنفيذ عملية محدودة توفر المبرر لبريطانيا وفرنسا لإصدار إنذارهما مساء 30 أكتوبر. أما القوة الإسرائيلية الرئيسية فقد انتشرت أمام مواقعنا في شمال شرق سيناء في انتظار سحب قوات المظلات من ممر متلا خشية تدميرها، لولا تدخل موشي ديان الذي أقنع رئيس الوزراء الإسرائيلي باستبقائها في مراكزها على أن تلتزم بالدفاع المرن.
” وعلى إثر تدخل سلاح الطيران البريطاني ـ الفرنسي، بادرت قواتنا في شرق سيناء بالتخلي عن مواقعها الدفاعية. وفوجئ الإسرائيليون في اليوم التالي بالمواقع وقد أخليت أثناء الليل. ولم تحاول القوات الإسرائيلية الاتصال بقواتنا المنسحبة والضغط عليها.. تاركة هذه المهمة للقوة الجوية البريطانية ـ الفرنسية “.
“وعندما توقفت العمليات في فجر 7 نوفمبر، كانت قيادات قواتنا البرية في مراكزها تمارس مسئولياتها، وعلى استعداد لإقحام تشكيلات أساسية حول الإسماعيلية وفي داخل الدلتا، فيما لو استمر القتال. وكان بمقدورها بذلك أن تكسب للقيادة السياسية بضعة أيام أخري ثمينة. ومع ذلك، فلم تكد المدافع تصمت على الجبهة، حتى كانت القيادة العامة وهيئات الأركان قد بدأت في مراجعة نتائج المعركة التي خاضتها، تمهيدا لتنفيذ قرار بإعادة بناء القوات المسلحة”.
دفاع كمال حسن على عن بعض مظاهر القصور في حرب في ١٩٥٦
يشترك الفريق أول كمال حسن على مع اللواء محمد حافظ إسماعيل في محاولة حفظ ماء وجه القوات المسلحة المصرية، و من الجدير بالذكر أن كلا من الرجلين تولى قيادة المخابرات العامة بالإضافة إلى ما تولياه من مسئوليات متقدمة . وقد أجاد الفريق أول كمال حسن على في كتابه مشاوير العمر الدفاع عما شاب انسحاب قواتنا في١٩٥٦ من بعض القصور فيقول:
“ولقد سقت مثل أبو عويجلة ومتلا كما وصفهما ديان، لأثبت كيف كانت القوات تصمد في محلاتها الدفاعية في سيناء وتقاتل لآخر طلقة ولآخر رجل، وأنها لم تترك مواقعها بالمرة حتي جاءها الأمر الرسمي بالانسحاب”.
“أما إذا قد حدث أحيانا أن أتخذ الانسحاب في بعض اللحظات شكلا غير منتظم، فإني لا أجد ردا أدافع به عن موقف هذه القوات المنسحبة في ظروف مثل ظروف صحراء سيناء الجرداء المكشوفة للطيران المعادي، إلا ما قاله أرسكين تشايلدرز مؤلف كتاب “الطريق إلى السويس” ردا على الدعاية التي تباهت بها إسرائيل في كتبها بقصد الحط من شأن الجندي المصري في تخطيط مدروس من حربها النفسية لدق إسفين بين المواطن المصري وجيشه”.
“يقول أرسكين: “إن الظروف الصعبة التي كان الجيش المصري يعانيها أثناء انسحابه للخلف فوق طرق الصحراء المكشوفة، وهو يتعرض لضرب متواصل من ثلاث دول تواطأت عليه، لهي ظروف بالغة القسوة، لو وُضع فيها أي جيش من أقوي جيوش العالم لما تصرف بشكل أفضل أو أشجع منه”! وأنا لا أعرف كيف يكون موقف الجيش الإسرائيلي لو وجد نفسه في موقف عكسي، أقصد لو وجد نفسه يوما ما في موضع هجوم من بريطانيا وفرنسا وقد تواطأتا مع مصر ضده؟! ألا ينقلب الحال تماما رأسا على عقب وتنقلب معه الأوضاع والنتائج بالقدر نفسه؟!”.
ويردف الفريق أول كمال حسن على هذا كله بقوله:
“نقطة أخيرة أحب أن أضيفها على هذا التعليق هي أننا وإن كنا انهزمنا عسكريا في 1956ما كنا استطعنا أن ننتصر سياسيا! وأفضل دليل مؤسف أسوقه للبرهنة على ذلك ما حدث في 1967، فقد انهزمنا سياسيا في 1967 لأننا أساسا قد انهزمنا عسكريا”.
على هذا النحو تحدث الفريق أول كمال حسن على عن حرب ١٩٥٦ بإنصاف لم نعرفه في كتابة أحد قبله، وتسود كتابته روح من العقلانية الشديدة ولكنه مع ذلك كان حريصا على أن يحاول جاهدا أن يُنصف جيشه وقومه ووطنه، وهو يكاد يعترف بفلسفة واضحة تقول إن المنتصر في ١٩٥٦ كان أمريكا، وفي١٩٦٧ كان هو روسيا، وهو يكاد يتبني وجهة النظر القائلة بهذا الرأي، ولكنه مع ذلك لا يدع هذه الفرصة المتاحة له كي يثبت لنا أن الجيش المصري قد انتصر في هذه المعركة فيقول:
“… والحقيقة أن أمامي طريقين للرد ولتفنيد هذا الرأي الخاطئ. فهناك الطريق السهل وأقصد به طريق المهاجمة حيث في إمكاني أن أرد قائلا إن الذين يثيرون مثل هذه القضايا إنما يثيرونها وهم جالسون في صالونات منازلهم أو شرفاتها يستمتعون بلذة الجدل والنقد وهم يتناولون المشروبات المثلجة.. هذا إذا كانوا بريئي القصد والطوية، أما إذا كانوا غير ذلك فلا يدري إلا الله ما في نفوسهم من محاولة لإحداث شرخ بين الجهازين السياسي والعسكري أو النيل من قدرات جيشهم الوطني الذي يحتمي كل من يعيش تحت سماء هذا الوطن بدرعه”.
“أما الطريق الثاني وهو الطريق الصعب فهو طريق الحجة والبرهان. وفي هذا أقول أن الأداء العسكري لم يعبه شيء سواء على المستوي التخطيطي للقيادات أو على المستوي التنفيذي للوحدات والجنود، فلقد بدأ انسحاب الوحدات من سيناء إلى الخلف بأمر انسحاب سليم مدروس، أنقذ ٩٠٪ من القوات المسلحة من الشرك الذي نصبته لها الدول الثلاث، ولو كانت هذه القوات قد بقيت في مكانها في مصيدة سيناء لانهارت القوات المسلحة في الجبهتين معا: جبهة سيناء المواجهة لهجوم إسرائيل وجبهة القناة المواجهة لهجوم بريطانيا وفرنسا معا”.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا