الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / الشاعر #أحمد_الكاشف الذي ظل عثمانيا طيلة حياته

الشاعر #أحمد_الكاشف الذي ظل عثمانيا طيلة حياته

 

الشاعر أحمد الكاشف (1878 – 1948) واحد من أعلام الشعراء العرب في العصر الحديث حقق في شعره كثيرا من السبق والتفوق والتجويد، وكان على الدوام صاحب رؤية سياسية ورأي سياسي، كان ميالا للإنصاف في أغلب شعره حتى إنه يعد في نظري أفضل من أنصفوا الزعيم أحمد عرابي باشا وبخاصة بعد عودته من المنفى لكنه بحكم التأثر بالمعاصرة لم يكن متمكنا من القدر ذاته من الإنصاف في أحكامه على زعماء الحقبة الليبرالية.
قبل أن نبدأ في حديثنا عن الشاعر أحمد الكاشف نحب إثبات الفضل لأستاذنا الدكتور محمد إبراهيم الجيوشي في إحياء ذكرى ذلك الشاعر الفذ و دراسة حياته و شاعريته وشعره وتحقيق ديوانه  أيضا ، ومما أتشرف به أنني كنت حريصا على إعادة نشر هذا الديوان في الهيئة المصرية العامة للكتاب مع دواوين حافظ إبراهيم و محمود أبو الوفا وغيرهم من أعلام الشعراء،  ومن قبل الدكتور الجيوشي فقد كان للشاعر محمود غنيم فضل الكتابة المبكرة المفصلة عن الشاعر احمد الكاشف  ويري الأستاذ محمود غنيم أن جزأي الديوان علي جودتهما لا يكافئان الشهرة الكبيرة التي نالها الشاعر، ولعل السبب هو أن شعر الكاتب فيما بعد عام 1914 يشكل الشطر الأعظم من نتاجه، ولايزال هذا الشعر وكذلك كل نثره الفني و مقالاته الأدبية والاجتماعية والسياسية  في بطون الصحف والمجلات ينتظر مَنْ يتولى تحقيقه ونشره .
و نبدأ مبكرا بمجموعة من الشهادات المقدرة للشاعر وشاعريته، كان الشاعر حافظ إبراهيم يقول إن  الشاعر أحمد الكاشف  شاعر مستقل في بيانه ومبدئه ووجدانه كما كتب هذا الشاعر العظيم إليه يقول: تلوت تائيتك (أي القصيدة ذات القافية التائية) علي الإمام محمد عبده فقال : إنه لشاعر. وكان الشاعر إسماعيل باشا صبري يقول: إن من شعر الشاعر أحمد الكاشف ما يستحق أن يقف له القارئ إعجابا وإجلالا. و كان مصطفي لطفي المنفلوطي يقول: إن أحمد الكاشف هو الشاعر الوحيد الذي عرفت وعرف الناس من أمره أنه إذا نطق فإنما ينطق بلغة نفسه، وإذا حدث فإنما يحدث عن حسه، و وبالإضافة إلى كل هذا فقد كان أحمد شوقي أمير الشعراء يقول: إن الشاعر أحمد الكاشف أتقن تقليده في القصص الشعري الذي أجراه علي ألسنة الطيور وأنواع الحيوان. وقد ذكر الشاعر محمود غنيم دليلا رآه من الشاعر أحمد الكاشف علي صفاء نفسه، هو ما علق به الشاعر أحمد الكاشف نفسه في ديوانه علي قصيدته العينية في مديح الخديو عباس حلمي و التي مطلعها: ” فيك الرجاء مسلما ومودعا “حيث أثبت الشاعر الكاشف في الهامش ما نصه : «وقد أعجب الشعراء بهذه القصيدة،  حتي نسبوها لشاعر عراقي، وحتي اضطر شوقي إلي معارضتها بقصيدته العينية التي مطلعها : زد في الدلال سجية وتصنعا     ، فنسي القوم بقصيدته قصيدتي».
أما المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي فكتب إليه قائلا: أما إعجابك بطبائع الاستبداد فأجرك عليه إعجابي بقصيدتك التي تعاتب فيها قومك الترك، ولو أبصرت ما أبصرته في أسفاري لرأي الناس من شعرك في هذا الموضوع ما لم أروه في كتابي ، وبعث السيد  محمد رشيد رضا إليه قائلا : إن في شعرك روح التأثير، وأحب أن يكون للمنار حظ كبير منه، فحارب به البدع والخرافات والعادات السيئات، وقرأ أحد وزراء المعارف قصيدته (اختيار الزوجة) فبعث إليه يوصيه بالحرص علي هذا الأسلوب.


علاقته بالنسبين الجركسي الرومي 


نبدأ الحديث عن اسمه ونسبه بتلخيص لا بد منه ، ولابد معه من أن نحرر القول في هذا التاريخ الطريف فنقول إن جده «عمر» كان قوقازيا احتضنه ذو الفقار الكاشف  فأخذ لقبه كما ورث ثروته التي أوصى له بها ، ورد جد الشاعر الجميل لمن احتضنه بأن سمي ابنه «والد الشاعر» باسم من احتضنه  !
وعلى هذا يكون اسم الشاعر بطريقة التسلسل : أحمد بن ذي الفقار بن عمر الكاشف ، وإذا فلم يكن لقب الكاشف لقبا للشاعر أو لأبيه أو جده، وإنما هو لقب أطلقه علي جده عمر ولي نعمته ذو الفقار، وقد كان ذو الفقار هذا من أكبر أعوان محمد علي باشا الكبير، ويبدو فيما يرويه الشاعر محمود غنيم أنه كان عقيما فتبني جد الشاعر، وقام علي تربيته وكان هذا الجد قوقازي الأصل، وفد من بلاد القوقاز وهو في السابعة من عمره ولم يكتف ذو الفقار بتربيته وتعليمه، بل أوصى له بثروته بعد وفاته، وما كان من عمر الكاشف  إلا أن سمي ابنه علي اسم ولي نعمته ذو الفقار الكاشف.
ونعود إلى قصة حياة جد الشاعر، فإنه لم يتمتع بالثراء الذي هبط عليه، إذ أن الوالي عباس الأول صادر هذه الثروة الطائلة، وقد دفعته أحواله إلي أن يتطوع لنصرة الدولة العثمانية في حرب القرم، وهناك أظهر بطولة خارقة، وغامر بنفسه، حتي أصابته رصاصة في فخذه كادت تقضي عليه، وقد ردت إليه أملاكه في عهد  الوالي محمد سعيد باشا ،  ولم يكتف هذا الوالي برد أملاكه إليه، بل قربه منه، و ولاه إمارة الحج مرتين، كما ناط به نظارة أوقاف الجامع الأزهر، وقد توفي هذا البطل عن ستين عاما.
أما والدة الشاعر فرومية الأصل، كان إبراهيم باشا قد استحضر أباها سليمان و أختا له من جزيرة كريت، ورباهما في قصره، فلما شب سليمان (جد الشاعر لأمه) زوجه إبراهيم باشا بجارية شركسية، فولدت أم الشاعر، أما أخته التي هي عمة والدة الشاعر فزوجها من ضابط مقدوني من حاشيته، وكان فظا صعب المراس، وكانت هي حازمة رقيقة القلب فحدت من جماحه، ولهذه العمة كبير فضل علي الشاعر، فهي التي تولت حضانته ونشأته علي مكارم الأخلاق.
هكذا فإن الشاعر أحمد الكاشف شركسي الأصل من جهة جده لأبيه، ومن جهة جدته لأمه، ورومي الأصل من جهة جده لأمه.


نشأته ومرضه المبكر وثقافته 


ولد الشاعر أحمد الكاشف  في قرية القرشية التابعة لمحافظة الغربية سنة 1878، وظل وفيا لموطنه الأول هذا طيلة حياته، وفيه قضي عهدي طفولته وصباه، ومعظم عهود شبابه وكهولته وشيخوخته، ومع أنه كان محبا للريف وللفلاحين على ما سوف نرى ، فإنه لم يكن علي علاقة طيبة لا بأقرانه، ولا بزملائه في المدرسة، حتي إنه انقطع عن الدراسة عندما أخفق في الحصول علي الابتدائية، ولعل أطول فترة قضاها بعيدا عن مسقط رأسه هي الفترة التي قضاها موظفا رسميا بوزارة الأوقاف لعدة سنوات تعد علي أصابع اليد الواحدة ، وذلك في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين.
في الخامسة من حياته أصيب الشاعر أحمد الكاشف باضطراب عصبي، وفي العام السادس من حياته أصيب برمد في عينيه، ترك شبه عاهة مستديمة، وفي العام الثاني عشر أصيب بمرض ذات الرئة، وعند  الخامسة والعشرين نتيجة للإجهاد، وطول السهر بدأ يحس مضاعفات الاضطراب العصبي، وقد عولج بالكهرباء فكتب عنها أبياتا متوسطة القيمة سنشير إليها ، ومن حق بعض النقاد أن يقولوا إن هذه الأبيات علي جودتها  ليست في مستوي شعره ، ولعل عذره أنه كان.
لم يلتحق الشاعر أحمد الكاشف  بالتعليم النظامي إلا بعد أن ناهز الثامنة من عمره في مكتب القرية، ولم يكن مرتاحا إلى شيخ الكتاب ، وتلويحه بعصاه لكل من خانته حافظته أو ذاكرته، وقد أتقن مبادئ القراءة والكتابة حتي جعل من جدران منزله ما يشبه المتحف ، وأضاف فن العزف علي الموسيقي، وقد ظلت هذه الهواية ملازمة له طول حياته.

وفي الثالثة عشرة من عمره افتتحت مدرسة نظامية في القرشية فأتيح له أن يتلقى فيها مبادئ اللغة الفرنسية، والتاريخ وتقويم البلدان، والحساب، والهندسة، والنحو، والفقه الإسلامي، واستهواه علم التاريخ بصفة خاصة، فأخذ يتتبع سير النابغين من أبطال الرجال، ولم يكتف بتتبع سيرهم بل أخذ في تقليدهم، حتى نشأ عنده ما قد يسمي بجنون العظمة.

وفي السادسة عشرة بدأت موهبته الشعرية في البزوغ بعد أن نال حظا من علوم اللغة، وكان له خال يجيد النظم فكان يبعث بإنتاجه إليه لينقده له، والتحق بمدرسة الأقباط الكبرى بطنطا، وكانت من المدارس العريقة، فدخلها وهو كبير، وكان وهو تلميذ بتلك المدرسة ذا شخصية مرموقة، حتى إنه كان يجادل ناظرها، وكان وهو في السابعة عشرة من عمره يدبج المقالات في صحيفتي «العمدة» و«الأهالي».
كان الشاعر أحمد الكاشف يسافر إلي القاهرة لفترات قصيرة لإنجاز بعض أعماله ثم يعود إلي مسقط رأسه، وفي القاهرة نشأت صلته بكبار الساسة والمفكرين والأدباء في القاهرة، ثم التحق بوظيفة حكومية صغيرة ،  لكنه لم يمكث فيها إلا فترة قصيرة.
كان الشاعر أحمد الكاشف يتمتع بأخلاق رفيعة، وصفاء نفسي وعقلي، ترك شعرا فيه الأصالة، وصفاء الديباجة، وعمق النظرة. 


شعره السياسي 


على سبيل التحديد غير المتعسف وبلا مبالغة فقد كان الشاعر أحمد الكاشف شاعرا مبرزا بين شعراء السياسة والوطنية ، وكانت جريدة الأهرام تتخذ لما تنشره من شعر الشاعر أحمد الكاشف عنوانا ثابتا هو «الشعر السياسي»، وقد تجلت صولات شعره السياسي  في عدة محاور متصلة وإن تعارض بعضها في الظاهر. 
ففي الصعيد الأول كان الشاعر أحمد الكاشف محبا للعثمانيين حتي وصف بأن روحه تحوم تحويم الطيور علي مياه البوسفور، وكان الأستاذ محمود غنيم حسبما روى عن نفسه يعتقد أن الشاعر أحمد الكاشف  في عثمانياته التي يشيد فيها بالترك ما وسعته الإشادة  يقلد شوقي الذي يعتبره مثله الأعلى، لكنه اكتشف أن الشاعر أحمد الكاشف  كان أكثر تعصبا للعثمانيين من شوقي ، بل أكثر تعصبا لآل عثمان من آل عثمان أنفسهم . و علي الرغم من مشاركة الشاعر أحمد الكاشف وشوقي في توجههما العثماني، فقد كانا يشتركان في التوجه الوطني أيضا  ، لكن الفارق بينهما يأتي في بعض المواقف التي تمثل خلافات تقليدية ، وعلي سبيل المثال فقد غلبت الشماتة الشاعر أحمد شوقي في موقفه من عرابي باشا عند عودته من منفاه، لكن الشاعر أحمد الكاشف نظر لعرابي باشا نظرة إيجابية بررت بعض توجهاته .
قصيدته في الزعيم أحمد عرابي 

وصف  الشاعر أحمد الكاشف الزعيم عرابي بالثائر في قصيدة طويلة ، وهي التي عرفت بالقصيدة العرابية  وتنوعت قافيتها إلى  ثلاث قواف و فيها يقول:

         يا ثائرا رام إصلاح البلاد بما  / أقام من فتن فيها وإفساد
           وغره نفر أبدوا رغائبهم/  في دفع كل مغير جائر عاد
           فصاح في الناس يدعوهم ويجبرهم  /على الجهاد إلي أن أزعج الوادي
           وقام بالأمر لم يحكم وسائله/  ولا استعان بتدبير وإرشاد
           وسار يحسب أن الفوز متصل   / لجنده باتصال الماء والزاد
           وما دري أن أقوي الطامحين إلي/غصب البلاد له باتوا بمرصاد
           وكان ما كان مما ليس يجهله / لا حاضر يقظ الذكرى ولا باد
           وقائع شاب منها الدهر وامتلأت /رعبا بها الأرض من غور وأنجاد
           لو يعلم القوم عقباها وغايتها /  ما هنئت قبلها أم بأولاد
           ما أنس لا أنس يوم ارتد فيلقهم /عن الحصون ارتداد الهائم الصادي
           مغادرين جموعا عند غالبهم /مستسلمين بأرواح وأجساد
           فما مضي يومهم إلا وقادتهم /مثقلون بأغلال وأصفاد
           وتم للإنجليز النصر واتخذوا /منهم لهم خير أنصار ورواد
           واعتاد حزبك ضيم المعتدي فغدا /لشر ما كنت تخشي شر معتاد
           قد كنت تخشي علي الأوطان حين تري /من الأجانب فيها بعض أفراد
           واليوم ضاقت بحشد كالرمال فلا   / يحصيه في ألف عام ألف عداد
           بتنا أساري خطوب لا مفر لنا /من أسرها وعدمنا المنقذ الفادي
           إذا بكينا ليشفي الدمع غلتنا /هاج الأعادي بإنذار وإيعاد
           فنحبس الدمع بل نبدي الخضوع لهم /وفي الجوانح نخفي نار أحقاد
           هذي معيشة قوم رمت رفعتهم/يوما فأسقطتهم من فوق منطاد


رثاء الزعيم  مصطفي كامل 


وللشاعر أحمد الكاشف قصيدة رائعة حافلة بالعواطف المشبوبة الصادقة في رثاء الزعيم مصطفي كامل باشا ١٨٧٤- ١٩٠٨:
          لهفي عليك وقد رحلت اليوم لم             تدرك لغرسك في البلاد ثمارا
          تسقيه ماء النيل عذبا باردا               واليوم تسقيه الدموع غزارا
          لو كان عمرك بعض ما نرجو وما       تسعي لمصر استوعب الأعمارا
          يا ليتها يفديك من وزرائها                من لم يضع عن أهلها الأوزارا
          يا قائد الأبطال هذا جيشك الجرا               فانظر جيشك الجرارا
          أعلامهم معكوسة فكأنه                   أسراب طير ضلت الأوكارا
          فلئن بكوك فكم بكيتهم وهم               غرباء في أوطانهم وأساري
          لولاك لم تبد الحوادث مخلصا               لبلاده منا ولا غدار


أرجوزته الوطنية الشهيرة 


كانت وطنيات الشاعر أحمد الكاشف صادقة الحس، وجيدة التعبير عن المعاني الوطنية العميقة، ومنها هذه الأرجوزة الرائعة التي تم العبث فيها في عهد ثورة 1952 بحذف بعض ما يشتمل على كلمات تشير إلى الولاء لدولة السلطان والغازي :
يا ليتني كنت حساماً ماضيا    أو مدفعاً بالمهلكات راميا
أو معقلاً عالي البناء نائيا    أو كنت طراداً أشم حاميا
أو عسكرياً مستعداً غازيا    أذود عن قومي وعن سلطانيا
وأضرب الخصم العنيد العاديا    حتى أرى دمي النفيس الغاليا
على الثرى بين الصفوف جاريا    تمضى مذاكيهم على أشلائيا
فيتلاشى جسدي تلاشيا    أو أحرز النصر على أعدائيا
فأنثني مكبراً مباهيا    وقد أظل أرضهم لوائيا
وقام بالذل عليهم قاضيا    فاعتز بين أمتي مقاميا
ونلت حسن الذكر والمعاليا    أولى من العجز الذي أبكانيا
حتى خسرت في الجوى شبابيا    لا هم لي غير امتلاء باليا
بكل أمر لا يعيد ماضيا    أشكو العدى وأنشد القوافيا
وما أجاب أحد ندائيا    ولا رثى لي من رأى شقائيا
خليفةَ اللّه بقيت ناجيا    من الخطوب في الجهاد ساعيا
ودام خير الأنبياء راضيا    عنك وعيش المسلمين صافيا


إيمانه العميق بالشعر ودوره السياسي 


على صعيد مواز للوطنية والانتماء الوطني، فقد كان الشاعر أحمد الكاشف مؤمنا إيمانا عميقا بدور الشعر في السياسة والحضارة وبناء الأمة، وكان يعتقد أن الشعر أكثر أهمية للأمة من القانون والحكام، وألزم للفرد من الشراب والطعام، وقد ظهر هذا في مقدمة ديوانه التي أتبعها بمعجم لأسماء شعراء العصر، مرتب علي حسب الحروف الأبجدية، غير مقتصر على مختلف الشعوب العربية، وإنما ذاكرا شعراء الترك والفرس.
وكان الشاعر أحمد الكاشف يعبر في شعره بقوة واقتدار عن إيمانه الصادق والمخلص بالدور الطليعي للشاعر:
          وأحق بالتفضيل شاعر أمة           ما زال فيها داعيا ومجيبا
          موف إذا ترك البلاد أنيسها           ملأ البلاد تذكرا ونحيبا
          ويفيض في أعيادها فرحا فلم           يترك بها متوجعا منكوبا
بل إن للشاعر أحمد الكاشف قصيدة وجهها إلى الخديو عباس حلمي الثاني عاتبه فيها عتابا مرا على إغفال الشعراء، ووصف  جهده فيها بأنه وجه إليه من النصائح ما لا يوجهه أستاذ إلي تلاميذه أو أب إلي بنيه، على حين لم تكن سنه تسمح له بأن ينزل نفسه هذه المنزلة من الخديوي.


مديح السلطان عبد الحميد


على صعيد مواز فقد كان الشاعر أحمد حريصا علي أن يخاطب الخلفاء والولاة، في قصائد مديحه لهم ، وكان يري في هذا الشعر المتنفس الحقيقي لتحقيق آماله في عزة أمته. ولعل أشهر من مدحهم الشاعر أحمد الكاشف هو السلطان العثماني عبد الحميد الثاني خليفة المسلمين، ولهذا سبب تاريخي يضاف إلى الأسباب الوجدانية والوطنية فقد استمرت فترة خلافته من ١٨٧٦ وحتى ١٩٠٩ أي ان عهده كان بمثابة العهد الذي نشأ فيه الشاعر أحمد الكاشف وظهرت موهبته، وقد نشرنا من قبل أشهر مدائحه للسلطان عبدالحميد، وهي تلك القصيدة التي يهنئ بها الخليفة العثماني في مهرجانه السادس والعشرين١٩٠٢ والتي مطلعها  :
          لك الولاء الذي لم يخفه أحد               ولا خلت أمة منه ولا بلدٌ
          قد قمت بالحكم عدلا لا يميل بك               الهوى ولا يتخطى رأيك الرشد
          وسرت بالملك مأمون المذاهب               ميمون المساعي على القرآن تعتمد
 وفيها  يقول :
          يا صاحب الباقيات الصالحات ويا           رب الأيادي التي لم يحصها عدد
          أقبلت والقوم في أهوائهم شيع               شتي طرائقهم من غيهم قدد
          فاستسلموا لك لما قمت ترشدهم               واستمسكوا بعري الميثاق واتحدوا


قصيدة أخرى من مدائحه للسلطان عبد الحميد 


و هذه قصيدة أخرى مشهورة أيضا من مدائح الشاعر أحمد الكاشف للسلطان عبد الحميد الثاني تتميز بموسيقاها الداخلية المعبرة عن الحالة الاحتفالية، و تتضمن أبياتا جميلة رائعة ومشهورة في مديح ذلك السلطان، وإن كانت قد عانت من العبث فيها في عهد ثورة 1952 بحذف  بعض ما يشتمل على الكلمات التي تشير إلى تدين السلطان عبد الحميد  الشديد و ولائه المخلص  للإسلام  :
وفيها يقول الشاعر أحمد الكاشف:
قسماً بعزة تاجه ولوائه    وبجيشه المنصور في هيجائه
وبعرشه السامي وبأس حسامه    وسداده في حكمه وقضائه
وزمانه وأمانه وحنانه    فينا وحكمة رأيه ومضائه
وصلاته وزكاته وصيامه    ويقينه وأناته وذكائه
وجياده وعماده وحصونه    وسفينه وقلاعه وبنائه
وخليجه ومضيقه وجباله    ومجاله وبحاره وعطائه
وذمامه ومرامه وجهاده    وجلاله وبنيه بل نجبائه
والمطلع الميمون حيث الموكب ال    مشهور قام يموج في أضوائه
وغياضه ورياضه وحياضه    وذماره ومناره وعلائه
وقيامه سهران يرعى وحده    أقوامه وغناه عن وزرائه
ودفاعه عنا الخطوب وكشفه    ظلم الكروب وعفوه وإبائه
لهو الإمام المجتبى من ربه    لحماية الإسلام من أعدائه
ألقى إليه مقالد الدنيا وأع    لى قدره في أرضه وسمائه
ودعاه عون المؤمنين فكانت ال    أيام والأقدار من أسمائه
والرسل والأملاك في بشرائه    والنصر والتأييد من حلفائه
ولقد أتى والسيف في عنق الحمى    وبنوه غرقى في عباب دمائه
فأقال عثرته وجمَّع شمله    وشفاه من آلامه وشقائه
وسطا على الأعداء سطوة قادر    لا يستطيع الخصم هول لقائه
فنجا به الملك الكبير من الأذى    وتهلل الإسلام بعد بكائه
وأقامه جذلان مشتّد القوى    متبلج الأنوار بعد خفائه
وأعاد هذا الدهر بعد جماحه ال    قاسي إلى إقباله ووفائه
وأراح بيت اللّه مما راعه    وكساه حلة مجده وبهائه
فطريقه مأمونة ميمونة    محروسة بجنوده وسنائه
فله الجزاء من النبي عن المقا    م وزائريه وساكني بطحائه
عبد الحميد اليوم نذكر بدء حك    مك في مواطن هُنِّئَتْ ببقائه
يوم رأى فيه الرعية رحمة ال    باري تجلت في جميل فضائه
يوم تآبه في الزمان فكان بال    سلطان مفتخراً على أبنائه
بل صانه التاريخ معتدّاً بما    يمتد في الأكوان من أنبائه
عيد به احتفل البرية واحتفوا    وبدا له الإسلام في خيلائه
فالأرض عاطرة الجوانب نضرة    والأفق في إشراقه وصفائه
والشرق مبتسم الثغور ينافس ال    غرب البغيض بخصبه ورخائه
ويخيفه من أن يميل عروشه    ويعيد فيه ما مضى من دائه
ويريه أن خضوعه ووداده    أولى له من حقده وعدائه
مهلاً عداة الدين إن رجاءكم    سُدَّتْ مسالكه بطود رجائه
وترفقوا بنفوسكم فضلالكم    ساع إلى تدميركم ببلائه
وبصارم الملك اهتدوا فلطالما    وضح السبيل به لعين التائه
مولاي هذي مدحة من ناشئٍ    يبدي أدلَّة حبه وولائه
ويرى المعيشة في حماك رغيدة    خضراء ضامنة دوام هنائه
متشيع لك مغرم بك هائم    تتوقد الأشواق في أحشائه
غنى بذكرك مطرباً فاهتزت ال    دنيا مرددةً جميل ثنائه
غناؤه لدار الخلافة العثمانية بعد إقرار الدستور 

ومن قصائد الشاعر أحمد الكاشف المشهورة ذات القيمة الفنية والتاريخية العالية هذه القصيدة التي نظمها مع افتتاح قصر الخلافة العثمانية الجديد الذي أقيم على مياه البحر بالقرب من مضيق البسفور، وقد سما الشاعر أحمد الكاشف هذا القصر بدار الخلافة وأخذ يخاطبه بشعر حافل بالود والفخر :

دار الخلافة حاطك البسفورُ    وأجل قدرك في الورى الدستورُ
هذي مواكب عيده اللاتي بها    ماجت ميادين الحمى والدور
ذكرى أغر محجل ضمن المني    تبديله الحدثان والتغيير
الحكم عدل والرعية حرة    والملك بينهما أعز فخور
وخليفة الرحمن مطرد الندى    والبر موفور الجلال وقور
مصدوقةٌ شوراهُ عالٍ رأيُهُ    والأمن تحت لوائه والنور
يدري بأن التاج ليس بمخلص    للفرد حتى يخلص الجمهور
يرعى ويسترعي الشعوب أمورها    ملك له التدبير والتخيير
حسب العباد من النظام وأهله    أن لا يدل على الوضيع وزير
جمع الشوارد حول حوض واستوى    في ظله مستأجر وأجير
ما اختص أحمد بالخلافة أمة    علماً بأن الدائرات تدور
أولى بها من صانها من بعد ما    عبثت مقاديرٌ بها وعصور
وجلا السماء السيف وهي دجىً كما    ملأ السرير الأرض وهي تمور
شقيت بما تتوهم الأعداء من    هذا التراث وإنه لعسير
لك كل يوم يا رشادُ شفاعةٌ    في القوم عند اللّه وهو غفور
يممتَ حصنَ الخارجين فأذعنوا    وأسا الجراحَ الدامياتِ خبير
وعلا مكان السيف بعد صليله    في الهدنة التسبيح والتكبير
وأقمت بنيهم الصلاة فسلموا    إلا فريقاً ما يزال يثور
عافوا شهيَّ العدل والإحسان أم    غصوا بهذا الماء وهو نمير
أولى بمن زاد النهار ضلاله    أن لا يفارق عينَه الديجور
وليبق أعزلَ كلُّ من يبغي على    حراسِّه والراصدون كثير
إن أكبر الغيران بأسك حولهم    ففسادهم لو يمهلون كبير
ما كان قتلهمُ انتقاماً منهمُ    لكنه لذنوبهم تكفير
فهم وقود ضرامهم حيناً ومن    دمهم لإطفاء الضرام بحور
لو طهر الدم آثماً من رجسه    لم يبق مأثوم ولا مأزور
حورانُ مزدجرٌ ومقدونية    ثكلى وقد راع العراقَ نذير
وتنصلت صنعاءُ من فجارها    وأبى على المتطاولين عسير
لن يخلوَ البلقان من شر وإن    ملأت ثراه جماجمٌ ونحور
من لم يطعك موفقاً مستغفراً    فليبق وهو المرغم المقهور
في القلزم المجتاز مأذون فإن    غوضبت فهو محرم محظور
قد قام يجمع شاطئيه أبر في    مصرٍ وآخرُ في الحجاز قدير
مد الشريف إلى العزيز يمينه    وسعى نصير يصطفيه نصير
هو حجة النسب الزكي على الأولى    أشقاهمُ التحريضُ والتنفير
لولا وسيلته إليهم لم يطع    عاص ولم يحقن دم مهدور
يا زائراً في كل يوم أمةً    يا ليت مصر تعودها وتزور
جاء الحجاز بشيرها بمحمد    بعد الشآم فهل لمصرَ بشير
إن صفق النيل السعيد فإنما    تصفيقه عن حبها تعبير
وإذا علت أهرامها وتطلعت    فسلام مسترعٍ إليك يشير
المسلمون على اختلاف بقاعهم    في الأرض ما لهم سواك مصير
بيني وبينك زاخران وإنما    سببي إليك إذا أردت قصير
لولا مضاعفةُ القيود لكان لي    في كل أرض موطن وعشير
من لي بأجنحة الحمام فأغتدي    بين المعاقل حولهن السور
وأرى السواحل دونهن سلاسلٌ    وأرى السفائن فوقهن نسور
وكأنها شم الجبال مواخراً    يدوي حديدٌ تحتها مصهور
لو كان لي أجر الوفاء لكان لي    فوق الخليج خورنق وسدير
حسبي مطاف بالرياض وزهرة    ولكل طير روضة وغدير
وتحية من سانحات مثلما    مرت بأبرار الملائك حور

ثم يصل الشاعر أحمد الكاشف بعد هذا الاستعراض التاريخي الجميل إلى أبياته المشهورة في مديح العثمانيين وحبهم الصادق

يا آل عثمان السلام عليكم    ما هز أعطاف الوفيِّ شعور

    
أهواكمُ وأود لو سَلِمَتْ لكم    في العالمين مدائن وثغور
وأود لو عاشوا وليس عليهم    إلا أمير المؤمنين أمير
إن الذي فتح الممالك محسناً    بخلود هذا الملك لهو جدير
لولاكم في الشرق غال حصينه    في الغرب ممدود الشباك مغير
هل بعد ما شهدت لكم آثاركم    بالعدل يعبث بالعيان نكير
يا لابسين من الحديد سوابغاً    وكأنما هو سندس وحرير
ومظلَّلين من اللوافح بالقنا    في البيد إذ أذكى الرمالَ هجير
ومغربين عن الديارِ وذكرُها    لكم أنيسٌ في النوى وسمير
لا فارقت سيما النعيم وجوهَكم    يوماً ولا غابت هناك بدور
قسماً بمكة لن يراع مسالم    أمَّنتموه وسيفكم مشهور
لا خافكم إلا عدوكم ولا    عَدَتِ الأحبةَ غبطةٌ وسرور
لكم العزائم والثبات وللعدى    حض الخوارج والخنا والزور
إن أيقظوا في كل واد فتنة    فبكل واد جحفل منصور
خشعت جبالهم لكم رهباً كما    لانت جنادلُ قبلها وصخور
وقلوب أهل البغي باقية كما    خلقت تفيض ضغائناً وتفور
هل تلتقي حول العرين صغارهم    من بعد ما هال الكبار زئير
سارت جنودكمُ لكل عظيمة    يا ليتني بين الجنود أسير
أهدي إليهم خير ما صنعت يد    وحكى فمٌ عذبٌ وصان ضمير
إني لأدلي بالمواثيق التي    أسوان ترعاها لكم والطور
وأمانةٌ مرعيَّةٌ ووديعةٌ    محميِّةٌ بهما ينوء ثبير
إن كنت شاعرَكم بمصرَ فإنني    لكمُ غداً في الخافقين سفير
إني صبرت على الجهاد وطالما    بلغ المدى بعد الجهاد صبور


مدائحه للخديوي عباس حلمي الثاني 


 عاصر الشاعر أحمد الكاشف كل عهد الخديو عباس حلمي الذي حكم مصر ما بين ١٨٩٢ و١٩١٤ ومدحه في قصائد طويلة معبرة عن التاريخ الاجتماعي والعقلي لذلك العصر فضلا عن مقارباتها السياسية لكل القضايا الشائكة باقتدار و ذكاء و وضوح ،  و من هذه القصائد العباسية للشاعر أحمد الكاشف  قصيدته العينية الجميلة المشهورة والتي ذكر أن أمير الشعراء شوقي عارضها بقصيدة اشتهرت بأكثر من قصيدته وفي هذه القصيدة يقول الشاعر أحمد الكاشف:  
فيك الرجاء مسلماً ومودعا    متمهلاً فيما تروم ومسرعا
حسب المواطن من صفاتك أنها    وجدتك مشتد العزيمة أروعا
تسعى إلى خير المقاصد مفرداً    فتنال منها ما نأى وتمنعا
حتى أعدت من المناقب والعلى    ما أفقد الدهر العنيد وضيعا
وجمعت بين الأمتين موفَّقاً    للخير بالسبب الذي لن يقطعا
وكفيت شعبك أن يراع بحادث    ويخاف بأساً للعداة ومطمعا
وملأت عصرك بالفتوحات التي    ما غادرت حصناً أشم وموقعا
بكتائب أظللتها بخوافق    كالسحب إلا أنها لن تقشعا
ورميت خصم الملك بالحرب التي    فيها نصرت على الحسام المدفعا
ما ثار محتدماً وأرسل مارجاً    حتى هوت شمُّ الرواسي رُكَّما
وسطت جنودك في البلاد فزلزلت    رهباً وضيقت الفضاء الموسعا
ما زال بأسك في القبائل سائراً    ملء الجوانح بالأعادي موقعا
حتى جرى دمهم فروى غلة    لم يروها النيل المبارك مترعا
وأتاك محتفلاً بحكمك راضيا    من كان يأبى أن يذل ويخضعا
فغفرت ذنب التائبين تكرماً    وحبوتهم صفو الحياة تبرعا
أتمم عليهم هذه النعمى ولا    تحرمهم من نور وجهك مطلعا
وارفق بهم فلقد تكاد قلوبهم    شوقاً إلى ملقاك أن تتصدعا
زرهم زيارة جدك الأعلى الذي    لم تخل من ذكرى نداه موضعا
واستعرض الجند الرهيب ممثلاً    لك كيف ساق إلى العصاة المصرعا
عظة لمن أبقيت لا متشفيا    بالهالكين ولا لهم متوجعا
حيناً وحينا فِضْ ببرِّك فيهم    حتى ترى الصحراء روضاً ممرعا
ويدوم مضموناً نعيم حياتهم    ما دمت للنيلين أوسع منبعا
لهم الهناء فقد جرى في أرضهم    نهر من النهرين أحلى مشرعا
لو كان بشّرهم بعهدك ناصح    ما صدَّقوا مهديَّهم فيما ادَّعى
ولما أقاموا دون جندك معقلاً    ولما رأوا إلا إليك المفزعا
ستراهمُ إذ تلتقيك وفودُهم    كالبحر ماج عبابُه فتدفعا
وتكاد من فرط السرور وجوههم    تبيضُّ حتى تجتليها لُمَّعا
لو يعلم الماضون ما أوليته ال    باقين لاختاروا إليك المرجعا
ولو استغاثوا قبل ذاك من الردى    وجدوا شفيعاً من رضاك مشفعا
عباس للإيمان والسلطان وال    أوطان ما أصبحت فينا مزمعا
ما زال وعد اللّه بين عباده    حتى رأوك وفاءه المتوقعا
فادع الشعوب إلى الخليفة جامعاً    في اللّه بين الدين والدنيا معا
واجعل لها في كل قطرٍ مُبعَدٍ    عنها مناراً أو طريقاً مهيعا
لا زلت ميمون التنقُّل محيياً    لمقامك المصطاف والمتربعا
ورعاك من أعطاك حكماً عادلاً    وهُدىً تسوس به ممالك أربعا
و في قصيدة اخري يمدح الشاعر أحمد الكاشف  الخديو عباس حلمي  فيقول :
          إيه عباس إن سعيك للإس               لام سعي مبارك وجهاد
          وتماديك في مواصلة السل               طان أغلي ما المسلمون استفادوا
          كلما استحكم اتحاد كما في الد               ين أودت بخصمه الأحقاد
          هذه سنة النبي ومأمو                   ل الرعايا، بل النهي والسداد
          وسلاح يصد كل مغير                   ومنار للشرق واستعداد
          دام عباس لي بملكك جاه                   ورجاء ونعمة واعتداد
          فانصرافي إليك أفضل ما أك               سبنيه اليقين والاعتقاد


هجاؤه لأحمد فتحي زغلول الذي نسب إلى أمير الشعراء 


ومن ناحية رابعة فقد ذهب الشاعر محمود غنيم في دراسة عنه إلي أن يثبت له حق ملكيته الفكرية لذلك الشعر اللاذع الذي هجا به أحمد فتحي زغلول عندما أقيمت في فندق شبرد حفلة لتكريمه بمناسبة توليه منصب وكالة وزارة الحقانية، ومعلوم أن أحمد فتحي زغلول باشا كان عضو المحكمة التي حاكمت المتهمين في حادثة دنشواي، وفي الأبيات يقول الشاعر احمد الكاشف :
           إذا ما جمعتم أمركم وهممتمو               بإهداء شيء للوكيل ثمين
           خذوا حبل مشنوق بغير جريرة           وسروال مجلود وقيد سجين
           ولا تكتبوا شيئا إليه فحسبه               من الكتب حكم خطه بيمين
           ولا تقرءوه في (شبرد) بل اقرءو           على ملأ في دنشواي حزين

ومع أن الشائع حتى الآن أن هذه الأبيات من شعر شوقي، فإن الشاعر محمود غنيم روي أن أحد زملائه الأدباء من تلاميذ الكاشف الذين ينتمون إلى قريته القرشية أكد له نسبتها إلى الكاشف كما أشار الشاعر غنيم إلى أنه لم ير هذه الأبيات في ديوان شوقي، و إذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن من الجدير بالذكر أن ديوان شوقي يتضمن تلك المرثية الخالدة في أحمد فتحي زغلول باشا:

         يا أحمدُ القانون بعدك غامضٌ           قلق البنود مجلل بسواد
           والأمر أعوجُ والشئون سقيمة           مختلة الإصدار والإيراد
           والقول مختلط الفصيح بضده           تبكي جواهره على النقاد


حماسه وتأييده لليبيا في الحرب الإيطالية 


و هذه أبيات يشيد فيها الشاعر أحمد الكاشف بشجاعة ثوار ليبيا في الدفاع عن وطنهم وقد تضمنتها قصيدة عنوانها: “الحرب العثمانية الإيطالية) :
          وأبت على العادي طرابلس وما           اتخذت سوى مهج الأباة حصونا
          عربية زهراء يحمي خدرها               عرب كما تحمي الليوث عرينا
          صيد يدبر أمرهم ويسوسهم               صيد من الأتراك قوامونا
          يا أخت مصر وفي حشاها جمرة           لبيك حتى يكتفي الداعونا
          بعثت إليك بزادها وتود لو               بعثت إليك الجند مبتدرينا


قصيدته في لوم إمبراطور المانيا على التخاذل في دعم الدولة العثمانية 


وهذه قصيدة فريدة في بابها نظمها الشاعر أحمد الكاشف   مخاطبا بها الامبراطور الألماني بكل ما يمكنه من اللوم والعتاب لهذا الامبراطور الذي لم يكن وفيا كما ينبغي بعهوده مع الدولة العثمانية، وكان من نتائج نكثه لعهده على سبيل المثال ضياع جزيرة كريت من الدولة العثمانية وهو ما حدث كما نعرف في ١٩١٣ قبيل بداية الحرب العالمية الأولى التي تحالفت فيها الدولة العثمانية مع ألمانيا والنمسا : 
أهلاً بودِّك قيصر الألمانِ    لو أن ودك نافع السلطانِ
ومباركاً إحسانه بك ظنَّه    لو تستحق حلاوة الإحسان
ألهيته زمناً بقولك خادعاً    في ذمتي هذا الحمى وضماني
وعلى أن أحمي بصولة أمتي    شرف الهلال وأمة القرآن
ولبثت ترتاد البلاد ملاقياً    حباً وتكريماً بكل مكان
حتى اطلعت على موارد رزقه    وعلمت نائي ملكه والداني
وسواك يرقب حاسداً متلهفاً    لحظات عينك شاكيَ الحرمان
ما فارق الأوطان ركبك راجعاً    حتى سمعت نوادب الأوطان
يا قيصر الألمان أدركنا فقد    آلت كريد إلى الفتى اليوناني
أنسيت عهداً للإمام وموثقاً    ما كان هذا الخطب في الحسبان
واحسرتاه على كنوز أنفقت    في زورتيك منيعة الأركان
تكفي لميرة عسكر وذخيرة    عامين والأعداء في الميدان
ما سرَّت الأتراك منك رواية    هزلية الأشكال والألوان
حتى ختمت بدور جد محزن    هذي الرواية في المساء الثاني
فارجع إلى كرسيك العالي وقل    هذا نصيبي من بني عثمان
إني أنال برقتي وفصاحتي    ما لم أنل بالسيف والنيران
لو يبلغ السلطان نصحي لم تطأ    يوماً لمثلك أرضه قدمان


تقمصه لدور قيصر روسيا في حربه مع اليابان 


في صعيد متصل فقد كان الشاعر أحمد الكاشف من الشعراء المثقفين الموسوعيين ذوي الرأي و التوجهات الواضحة و الذين كانوا قادرين على أن يكونوا في طليعة من يتجاوبون بشعرهم مع الأحداث السياسية ودلالتها المتعددة، ومن ذلك أن شاعرنا أحمد الكاشف نظم أرجوزة طويلة عنوانها: الحرب الروسية اليابانية ، كانت قريبة على الشعر المسرحي ، وقد بدأها بالحديث على لسان قيصر روسيا حيث يقول :  
          مملكتي تملأ سدس الأرض               بسطي فيها مطلق وقبضي
          فيها من الشعوب كل كابر               ومن رجال الحرب كل قاهر
          لكنها قليلةُ الثغور                   بعيدة البر عن البحور
          لم يغني مالي في البلطيك(البلطيق)           عن مورد في غيره وشيك
          وما انتفاعي بعباب الأسود               ما دام محصورا بجيش الأسد؟
          فلست فيه سالكا طريقا                   ما ملك الأتراك ذا المضيقا
          على أدني المشرقين استعصى               فلأمضين همتي في الأقصي
          ولا أري لشعبي السمين                   أكثر خصبا من بلاد الصين
          إن دان لي مغولها والتتر                   أتيت ما لم يأته الإسكندر
          فأفتح الدنيا إذنْ وأقهر                    كما أشتهي بطرس جدي الأكبر
          حسبي من القوقاز والقوزاق               نهما نطاق ملكي الراقي
          لكنني أحذر كيد الدول                   إن لم أضللها بأقوي الحيل


قصة اتهامه السياسي ونجاته منه 


يتصل بالسياسة في شعره ما قد يبدو متناقضا مع توجهه العثماني، وذلك أنه اتهم وهو في الرابعة والعشرين من عمره بتهمة الدعوة إلي تأسيس خلافة إسلامية في مصر، بسبب أبيات وردت في قصيدة له يودع بها الخديو عباس حلمي عند سفره إلي السودان، وحددت إقامة الشاعر في قريته، فكان لا يسافر إلي القاهرة إلا خلسة، حتي تمكن بعد لأي من التغلب علي هذه الدسيسة، وورد إليه كتاب من المعية يبشره بالرضا السامي، ويدعوه إلي المثول بين يدي الخديو، وقد فعل.
أما الأبيات التي أسيء تأويلها في القصيدة المشار إليها فمنها قوله يخاطب الخديوي:
          فادع الشعوب إلى الخلافة جامعا           في الله بين الدين والدنيا معا
          واجعل لها في كل قطر مبعد           عنها منارا أو طريقا مهيعا 
          يرعاك من أعطاك حكما عادلا           وهدى تسوس به ممالك أربعا
أما الأبيات التي يشير فيها إلي رضا الخديو عنه ففيها يقول:
          للعرش ما أنا كاتب وكفي بما           أرضي الإمارة عزة للكاتب
          ولئن ملأت من الولاء سرائري            فلقد ملأت من النوال حقائبي


شعره الإسلامي 

 

كان للشاعر أحمد الكاشف  شعر ديني علي أعلي الدرجات من التجويد، وسلامة القصيدة، وهو يعبر عن اقتناعه القلبي والعقلي بالإسلام بأبيات جميلة يقول فيها:

        من يكن قام بالعقيدة تقليدا               فإني استقمت بالبرهان
          مسلما عشت لا لإسلام أمي               وأبي والأمير والسلطان
          أنا لو كنت ناشئا ومقيما                   بين قوم من عابدي الأوثان
          لم أجد غير دين أحمد أولي               باتباع من سائر الأديان

كما يدعو إلي الاعتصام بأخلاق الدين الإسلامي في قصيدة طويلة عنوانها: “ذكري الماضي وشكوي الحاضر” :

        بني الشرق أدعوكم إلي خير منهج           يعيد إليكم نضرة العيش ثانيا
          فجاروا بني الغرب الذين تشبهوا               بأجدادكم حتى تنالوا المعاليا
          وأنتم بتقليد الجدود أحق من                عدا سلبوكم مظهرا كان زاهيا
          أسركمو أن المحارم تستبي               ولم تلق فيكم عن حماها محاميا ؟
          وإن لكم سيفا من الدين ماضيا               يفل إذا جردتموه المواضيا
          فأحيوا به نهج النبي وجددوا               مقاما لدين الله أصبح باليا

وقد أفاض الشاعر أحمد الكاشف  في هذا المعني من الدعوة إلي الإصلاح الاجتماعي والسياسي المستند إلي الدين حتي في موشحاته علي نسق الموشحات نقتطف منه ما يلي:

        يا بني الدين اسمعوا ما أنشد           إنني فيكم أبر المنشدين
          لم هذا النوم عن حفظ الحمي           وهو يدعوكم ويشكو الألما ؟
          ما رأي منكم مجيبا مقدما           فارتمي يصرخ مما يجد
                           موجعا في زفرات وأنين
          ما أتي الدين بما أنتم عليه        من ضلال كلما ملتم إليه
          صرتمو من ضعفكم طوع يديه         تفقد الأنفس فيما تفقد
                     عنده كنز الهدي الغالي الثمين


 حبه للعدالة الاجتماعية والاشتراكية

 

ويرتبط بهذا ما  عبر به الشاعر أحمد الكاشف  عن ميل مبكر وصريح  للعدالة الاجتماعية والاشتراكية:

        للاشتراكية العقبي إذا شملت               شتي الشعوب وجاراها المجارونا
          فلا الكثيرون ملك للأقلينا                   ولا الأقلون ملك للكثيرينا
          ولا تري واحدا ملآي خزائنه               بالمغنيات وآلافا يجوعونا
          ولا تري درة في رأس محتكم               تهفو إليها قلوب المستظلينا
         

ومن اجتماعيات الشاعر أحمد الكاشف تلك القصيدة التي يصور بها الوظيفة الاجتماعية للمال:

        لو أن أموال (روكفلر) التي               نفني فعلت لمصر ما لا يفعل
          وبنيت للسلطان خمس بوارج               يختال في نعمي عليها الجحفل
          ونشرت ألوية البحار بمكة               يدنو بها ناء ويغلو مهمل
          ومددت دجلة والفرات ليرويا               ذاك الثري الصادي ويعشب ممحل
          وشريت في السودان أرضا خصبة           أحيي بها المسترزقين وأشغل
          وأسابق الشركات في غاياتها               حتى يكون لنا المقام الأول
          وبنيت مستشفي ومدرسة وبستانا           بقريتي التي هي أفضل
          وجعلت للشعراء رزقا طيبا               يحمي أرق الناس أن يتذللوا
          وإذا أتي ذو كدية مستقرضا               أقرضته والحمد ربحي الأجزل
          بر كفي أجرا عليه أن أري               متنعما مرحا به يتمثل

ويري الشاعر محمود غنيم أن الشاعر أحمد الكاشف كان يدرك الحقائق الاجتماعية وإن لم يوافق علي مضمونها وقيمتها.

                 لا تسيغ البلاد شعري إذا لم    أمتلك في البلاد بيتا وحقلا

  فرحته بإقامة خزان أسوان 
وهذه أبيات للشاعر أحمد الكاشف من قصيدة عنوانها (الخزان) تدلنا على أنه كان من الحريصين علي الابتهاج بمظاهر الإصلاح العمراني والاقتصادي:
          أي فخر يا أيها الهرمان             لكما بعد ذلك الخزان؟
          قمتما تخبران عن سالف الظلم          وأهواله بغير لسان
          وتروعان كل قلب بذكري               دولة أضعفت بني الإنسان
          أنتما مثله علوا وكبرا                   أثر دائم دوام الزمان
          غير أن الخزان دل على الرفق               وأهدي الغني إلى الأوطان
          شاده القوم طائعين ومسرورين               حبا في الأجر والإحسان
وهو يصل إلى بيت من الأبيات الطريفة في تعبيرها عن الفرحة باستنقاذ ماء النيل من الذوبان في البحر الأجاج :
نحن أولي من الأجاج بعذب               كان ينساب فيه قبل الآن
          وهناء لمصر أن ينفق النيل               عليها بالقسط والميزان
          لن ترى أهلها الكرام يصابون               بجدب يوما ولا طوفان
امتنانه لعلاجه بالكهرباء 
وهذه هي الأبيات التي أثنى فيها على الكهرباء وقد كتبها حين كان لايزال حديث عهد بالمرض: 
إن للكهرباء فضلا على النا /س كبيرا ونعمة غراء
سخّرت من طبيعة الكون للحا  / ضر ما كان أعجز القدماء
ولها في العلاج آية عيسى/ حينما بدل الفناء بقاء
اعتزاله حياة المدينة 

كان الشاعر يجد في خضرة الريف وسذاجة أهله ما يغنيه عن تعقد الحياة في المدينة والتواء أهلها ، فضلا عن ضيق ذات يده من ناحية، وقلة متطلباته في الحياة من ناحية أخري، وقد عبر عن هذه المعاني في قوله:

        جمعت في العيد حولي سائر الآل               وملتقي الآل حولي كل آمالي
          أبا دعوني ومالي فيهمو ولد              ولست للقوم غير العم والخال
          أقمت في الريف لا أشفي بطاغية           من الرجال ولا لاه وختال
          وعشت بالرطب من بقل وفاكهة               مما ملكت وماء فيه سلسال
          أطلت فيه اعتزال العالمين ولي               بكل ناحية همي وأشغالي
          لقيت في عِشرة الجهال عاطفة               لم ألقها من رجال غير جهال

وقد عبر الشاعر أحمد الكاشف عن حبه الشديد للفلاحين المصريين الذين آثر أن يعيش بينهم تاركا معيشة القاهرة والمدن الكبرى:

        إذا استبقيت في الدنيا حبيبا               فخير أحبتي فلاح مصرا
          كريم يملأ الوادي ثراء                   ولا يلقي سوي الإجحاف أجرا
          فقير ما أراه شكا افتقارا                   ولو يجزي على تعب لأثري
          وكان معيشة الأسري قنوعا               فكيف وقد غدا في الناس حرا
          فمحراث يشق الأرض عندي               ويخرج من ثراها الخصب تبرا
          كسيف في يد الجندي لاقي               به جيشا وحصنا مشمخرا
          فلو عرف الصواب الترك قومي               لما احتقروا له عملا وقدرا
          فأعلوه وارضوه وضنوا                   به فأنالهم مجدا ونصرا


وجدانياته 


 صاح استمع خبرا يبدي لك العبرا               أمسي حديث بني الأشواق والسيرا
          فتي من الترك في وادي دمشق رأي           بين الرياض فتاة تخجل القمرا
          أحبها وأحبته فما لبثا                   أن أحدث الحب في قلبيهما شررا
          تواعدا بالتلاقي فوق منعرج               عن الوري كان بالأشجار مستترا
          وكان في الحي واش من عداتهما           فظ غليظ يحب الشر والضررا
          دري الشقي بسر الوعد بينهما               وليته ألهم الإرشاد حين دري
          فبات في الموعد المضروب مرتقبا           لقياهما ثائرا الأحقاد منتظرا
          حتى إذا سادت الظلماء لاح له               ظل يسير الهويني مقبلا حذرا
          فصاح من ذلك الساري؟ فروعها           لما بدا من تعديه وما ظهرا
          فأدبرت نحو دار الصب باحثة           عنه فما علمت من أمره خبرا


هجرانه للشعر 


تحدث الشاعر أحمد الكاشف في ديوانه الثاني عن هجرانه للشعر حيث قال:
حال دائي بين القوافي وبيني    فبكت عينها اشتياقا وعيني
لبلادي عليّ دين وما في        قدرتي اليوم أن أوفي ديني
وبها من حوادث الدهر رزء    بات عجزي عن رده رُزءين
إن يوما لا أنظم الشعر فيه     لبغيض إليّ بني القطرين
شعره المجامل المنتقد 

هذه أبيات من قصيدة عنوانها: (زلزال في دار الخلافة) بناها الشاعر أحمد الكاشف علي ما يسميه علماء البديع (حسن تعليل) :

        قالوا لي الأرض في دار الخلافة قد        أصابها يوم عيد النحر زلزال
          فقلت مبتسما لا تهرعوا فزعا               فعندي السر إن صح الذي قالوا
          ملك أحاطت بسامي عرشه فتن               كم هددته بما يخشى وأهوال
          وكاد يسقط من خوف فأدركه               خليفة عادل للخير فعال
          حتى استقرت رواسي العرش واتحدت     لملك عثمان أعصاب وأوصال
          فكيف في العيد لا يهتز من طرب           ولا يتيه على الدنيا ويختال
          مال الرعايا لدي استقباله فرحا               به فمال سرورا مثلما مالوا

وأخيرا فقد بلغ حدودا غير محمودة في الانحياز السياسي لمحمد محمود باشا عند توليه الوزارة خلفا للنحاس باشا في 1928 حيث قال أسوأ أبياته وأسوأ بيت في الشعر السياسي وهو قوله السخيف:

         قالوا عليها سليمانية ظهرت           هل يطهر الرجس إلا بالسليماني


ديوانه

 
أصدر الشاعر أحمد الكاشف ديوانه في جزأين صغيري الحجم، صدر أولهما عام 1904 [علي غلاف الجزء الأول ما يشير إلي أنه طبع سنة 1320 هجرية] وقد صدر الجزء الأول بمقدمة ترجم فيها لحياته و روي انه التمس الرزق في الوظيفة فاستعصي عليه فشكا أمره إلي أحمد زكي باشا فأشار عليه بطبع ديوانه قائلا: إنه سيعوضك عما فاتك، ويدر عليك الربح الكثير، وصدر الجزء الثاني عام 1914 [علي غلاف الجزء الثاني ما يشير إلي أنه طبع سنة 1331 هجرية] وقد قدر ما يضمه الديوان في جزأيه بما يقرب من أربعة آلاف بيت،. كما ضم ديوانه مسرحية (معارك الحياة). 
 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com