تناولتُ في مدونة سابقة ما كنت ولا أزال أعتقد في صوابه من فضل الأزهر على الحياة الحزبية والفكر الديموقراطي، وأرجعت السبب في هذا إلى تشبع الأزهر والأزهريين والمرتبطين بالأزهر والأزهريين بفكرة المدارس المتعددة، وبفكرة المذهبية، وممارستهم العلم من خلال هذا الأسلوب المتقدم والتقدمي الذي لا يمكن للعلم ولا للحزبية (مع اختلاف طبيعتهما) أن يُحرزا أيَّ تقدم في غيابه، كان من حسن حظي أنني وجدت بعض النصوص التي تصدى بها علماؤنا الأجلاء لتعميق الأصل الفلسفي لهذه الفكرة من خلال المناقشات التي استدعتها دعوة حديثة مبكرة إلى التخلي عن المذهبية باعتبارها مدعاة للتفرق والفرقة، ومن العجيب أن هذا المبرر نفسه هو مبرر الشمولية في دعوتها إلى التخلي عن الأحزاب باعتبارها مدعاة للتفرق والفرقة، ومن الطريف أن أقول أو أن أقرر إن بعض الدعوات الدينية المعاصرة التي رفعت أسماء توحي بالقدم لم تكن تقصد القدم في ذاته، وإنما كانت تهرب إليه من فكرة المذهبية أو بالأحرى من فكرة التعددية.
وعلى عادة العلماء فإن الشيخ يوسف الدجوي ناقش النص لذي يستندون إليه للأمام الشوكاني، مع أنه شكك في أن يكون هذا النص معبراً عن رأي الشوكاني الذي كانت له آراء مناقضة تماماً لهذا الرأي الذي لجأ إليه الذين أنكروا فكرة المذاهب والتقليد المذهبي، وقد نشر الشيخ يوسف الدجوي هذا الرأي ضمن مقالاته في مجلة (الأزهر)، وقد أورده إجابة لسؤال حول نص منسوب للشوكاني يذم فيه من يقلدون المذاهب، وقد جاء من ضمن السؤال نقل عن كلام الشوكاني جاء فيه: “ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله بهما وطلبه منهم للعمل بما دلاّ عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين.. فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي أقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم”.
و كان جواب الشيخ يوسف الدجوي المناقض لهذا الرأي المنسوب للشوكاني على درجة عالية من وضوح الفكرة والدفاع عنها وكان مما قاله الشيخ يوسف الدجوي: “…. هذا كلام لا يصدر إلا ممن غلظ فهمه وجمدت عواطفه وقسا قلبه وقل احتياطه، فاستهان بإجماع العلماء وكلام أئمة الهدى الذين لا يقولون في الدين بشيء إلا إذا كان لهم مستند من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، كما سنبينه. وذلك منه اغترارا بما زعمه لنفسه من زعامة كاذبة واجتهاد باطل، ولو احتاط في أمر الدماء وتحرج من خطر التكفير، أو احترم اتفاق المسلمين وكلام غيره من العلماء المبرزين، لم يجازف بإلقاء القول على عواهنه ضد أمة بأسرها، وفيها من العلماء والفضلاء والأولياء والمحدثين والمفسرين وعلماء التوحيد والفلسفة ما أدهش التاريخ وأنطق أعداء الإسلام بفضل الإسلام. و “إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا” .
وكان الشيخ يوسف الدجوي من الذكاء بحيث نبه مباشرة إلى الوجه الآخر للقضية، وهو الانشغال بتقديس النفس: ” وكل من قدّس نفسه واتبع هواه فلا بد أن يضل عن سبيل الله، وكل من امتلأ أنانية وكبرا فلا بد أن يحتقر المسلمين ولا يحترم العلماء السابقين (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير).
” هؤلاء إذا حللنا نفوسهم وجدناها مملوءة قسوة لا تقل عن قسوة قطاع الطريق، الذين يستهزأون بسفك الدماء وقتل الأبرياء، غير أن أولئك يسفكونه ليلا وهؤلاء يسفكونه نهارا لو قدروا، وأولئك يسفكونه خائفين وجلين، وهؤلاء يسفكونه فرحين متبجحين وأولئك لا يصفون بألسنتهم الكذب ولا يتقولون على الله، وربما رجعوا إليه نادمين مستغفرين، وهؤلاء يلصقون ذلك بدين الله مفترين على الله الكذب قائلين: هذا حلال وهذا حرام، هذا كفر وذاك إسلام.
” فجدير بهم أن يغلق باب التوبة في وجوههم، فإنهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكيف يتوبون أو يستغفرون (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
“هذه النَّزعة، نزعة تكفير المسلمين والاستهانة بدمائهم، هي نزعة الخوارج الذين هم شر الطوائف، حتى ذهب كثير من العلماء – وتشهد لهم الأحاديث الصحيحة – إلى تكفيرهم، وما نرى طائفة على نقيض ما جاء به الأنبياء من الشفقة والرحمة والمحبة والوئام وعدم الانقسام مثل هذه الطائفة.