لا يتمثل الإعجاز القرآني في هذه الجملة وحدها وإنما يتمثل الإعجاز في الحوار الذي شمل هذه الجملة التي تصورها بعض أساتذتنا المفسرين المتأثرين بالفهم النحوي للبناء اللغوي على انها جملة اعتراضية، وهم بالطبع مُحقّون فيما فهموه لكن المسألة أكبر من هذا الفهم بكثير.
أبدأ في تصوير الأمر بدايات بعيدة تكفل لنا ان نقترب من رحاب التفسير بعد أن نكون قد تهيّأنا بالعلم من خلال علوم الاتصال الحديثة، وقد بدأت علوم الاتصال الحديثة بما نعرفه الآن على أنه الإعلام وبدأ الإعلام بما نعرفه الآن على أنه الصحافة المكتوبة، وفي تدرسي الصحافة أخذ العالم كله عن الأسلوب الأمريكي في العناية بالخبر قولاً صادما وفاصلاً للأمريكيين الأكاديميين في كتبهم وجامعاتهم، وقد كان أول من استوعب هذا القول ونقله إلا دارسي الصحافة في مصر هو الأستاذ مصطفى أمين وكان ذلك القول ذو القصة المعروفة الآن هو: «إن عض الكلب لإنسان ليس هو الخبر وإنما الخبر أن يعض إنسان كلبا»، والمعنى واضح وهو أن الأمر المعتاد ليس خبراً، وإنما الخبر يأتي من الخروج عن المألوف.
كنت أستعير هذا القول لأنقله إلى جلساتنا في مجلس قسم طب القلب والمجالس المشابهة للقول بأن البحث العلمي الذي يُتوقع له أن يصل إلى النتائج المعهودة ليس هو البحث العلمي الذي يستأهل أن نسجله للدكتوراه وأن بحوث الاستقصاء (أو المسح الجموعي) في هذه الحالة أفضل من البحوث التي يُتوقع لها أن تنتهي إلى تأييد ما هو موجود من قبل من نتائج.
أنتقل نقلة ثالثة لأقول إن جوهر الدراما في قصة السيدة والدة السيدة مريم يبدأ من أنها نذرت ما في بطنها محرراً وهو تعبير يدل بلغة ذلك العصر على أن يكون النذر المنذور طفلاً لا طفلة فلمّا جاء ما في بطنها على خلاف ما توقعته ونذرته، وجدت في نفسها شعورا بسعادة من نوع خاص، وجعلتها هذه السعادة تتمنى أن تنذر ابنتها لله كما كانت ستنذر ابنها، وهنا يأتي الحوار النفسي الجميل والمعجز الذي عبّرت عنه آيات القرآن بعيداً عن حيرة المفسرين بين الجمل الاعتراضية، وعلى نسبة الأقوال لقائليها؟ وعن محاولتهم الاعتماد على الاختلاف في القراءات القرآنية بين وضعتُ بضم التاء وبين وضعتْ بسكون التاء، وهو ما يرتب عليه المفسرون ما إذا كانت الجملة اعتراضية من القرآن الكريم، أو كانت على لسان السيدة مريم.
لكن سياق الحوار على النحو الذي وصلت إليه العقول البشرية الآن في عصور الاتصال والحوار والدراما لا يحتاج إلى كلّ هذه التفسيرات والتأويلات والتخريجات النحوية ولا البلاغية فالنص القرآني يُخبرنا بكل وضوح من خلال ظلال المعاني الواردة في ألفاظه أن الوالدة وجدت مولودها أنثى فحدّثت نفسها بمدى قبول نذرها وما يجب عليها في هذه الحالة؟ فألقى الله جلّ جلاله في روعها أن الذكر الذي كنت قد تمنيته لا يصل في قدره إلى هذه الأنثى التي رزقتك بها فهداها إيمانها لتوها أن تُسمّي ابنتها بالعابدة (وهذا هو معنى الاسم مريم) وأن تصبح هذه الابنة عابدة لله تقوم بما كان سيقوم به الابن المُتمنّى من وفاء للنذر، وأن تتمنى لها النجاة من الشيطان الرجيم لا هي وحدها وإنما هي وذريتها….. التي قد يكون منها ولد.
فهذا هو الحوار الذي تفهمه من النص القرآني في سلاسته وتدفقه وهو ليس في حاجة إلى التفسير بوجود جملة اعتراضية ولا جملتين اعتراضيتين، وليس في حاجة إلى الحديث عن تأويل المقصود بالذكر والأنثى في الآية وهل هما الجنسان المعروفان في كلّ البشر، ذلك أن المفاجأة الإلهية الكبرى والمعجزة الربانية الكبرى تتمثل في أن (هذه) الأنثى تفوق (هذا) الذكر وتفوق أيضاً كل أنثى غيرها، وهو المعنى الذي جاء في قول الحق جلّ جلاله عن السيدة مريم.
نقف عند هذا الحد من الفهم لنبدأ في سؤال أنفسنا ما يسمى في العلم بالسؤال البديل، ونتصور الآية لو أنها جاءت بصيغة «وليست الأنثى كالذكر» كيف كان من الممكن أن تكون جملة كهذه من جمل القرآن المعجز أولاً، وثانيا وهو الأهم كيف يكمن لجملة مثل هذه أن تُقال في حق السيدة مريم التي اصطفاها الله وفضلها على نساء العالمين، وكيف يسمح النص القرآني بأن توصف بأنها أقل من الذكر بينما الله سبحانه وتعالى قرّر في اللوح المحفوظ انها مريم العذراء التي ستكون حياتها معجزة من معجزات الله.. هل يليق بنا أن نتصور النص القرآني يقول عن هذه السيدة التي يعلم أمرها إنها ليست كالذكر؟
إذا استطعنا أن نفهم هذا العنصر من عناصر التصديق الفني (وليس الصدق الفني فحسب، والمعنى الذي أقصده بهذا المصطلح الجوادي هو تدفق الصدق في النص كلّه بحيث يُصدّق بعضه بعضا) الذي لا يترك في تصوير الأحداث السابقة في زمنها في النسيج الدرامي ما يتناقض مع ما تئول إليه تطورات القصة (الدراما) وذلك من دون تعارض مع عناصر التشويق والعقدة والحبكة وما إلى ذلك! هذا المعنى ذاته هو نفسه الذي عرف عني أنني أحتج به على أن الذبيح لا يمكن أن يكون سيدنا إسحاق لسبب حاسم جاء في النص القرآني حين بُشّرت به والدته فبُشّرت به وبذرية له ومعنى هذا بكلّ وضوح أن دراما الذبح لم تكن لتتحقق مع من هو معروف منذ التبشير به انه سيكون له ذرية.. ولا أظن أن هناك دليلاً يفوق هذا الدليل فيما تفهمه العقلية المعاصرة التي بلغت معرفتها بالعلوم الاتصالية سيحاسبنا الله عليه باعتبار أن عقليات السلف السابق لم تبلغه. هذا والله جلّ جلاله أعلى وأعلم.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا