الرئيسية / المكتبة الصحفية / الإعجاز البياني في قوله سبحانه.. أساطير الأولين اكتتبها

الإعجاز البياني في قوله سبحانه.. أساطير الأولين اكتتبها

نبدأ هذه المدونة بما هو معروف لأغلب الناس وإن كان غير معروف لبعضهم وهما أمران مهمان أولهما أن الأسطورة تُطلق على شيء مسطور وليس على شيء شفاهي أي أن الأساطير نصوص مكتوبة، ذلك أن بعض نصوص المصريين المعاصرين تلجأ إلى تعبير الأسطورة للتدليل على الرواية غير المكتوبة، أما المعنى الثاني فهو أن الأسطورة تتحدث عن شيء حدث ولو في الخيال ذلك أن بعض نصوص المصريين المعاصرين تستعمل الكلمة للدلالة على ما هو مستحيل الحديث أو ما لم يحدث من قبل وذلك من قبيل القول بأن “اللاعب الصاعد” سيكون الأسطورة التي لم يشهدها العالم!

  

بعد هذين المعنيين اللذين أرجو أن يكونا قد باتا واضحين في الأذهان الآن كما هما واضحان في معاجم اللغة العربية ونصوصها الموروثة نسأل أنفسنا عن الفعل الذي استخدمه القرآن الكريم في التعبير الذي صدر عمن كانوا يُكذّبون النبي صلى الله عليه وسلم وهو فعل الاكتتاب. ومن الإنصاف أن نذكر أن أساتذتنا المفسرين لم يدخروا جهدهم في استخدام الدلالات المختلفة والألفاظ المتعددة في التدليل على المعنى المقصود بهذا الاكتتاب، وأشار تراث التفاسير المتاح في مكتباتنا الإسلامية إلى معاني كثيرة من قبيل النقل والإملاء والاستملاء والاستنساخ فلما تطور فهم النصوص الأدبية بما فعله الفن وما فعلته البلاغة فيها بدأ الحديث أيضاً عن معاني من قبيل الاستشهاد والتوظيف والتطعيم والاقتباس والتضمين والتمثيل.. الخ.

   

لكننا مع كل الاحترام لما رآه أساتذتنا المفسرين جميعا، في هذه الآراء العشرة التي تدل عليها الأفعال العشرة التي ذكرناها، نرى الفعل يُعبر عن معنى خاص أكبر من هذا كله وهو فعل الاكتتاب، الذي يدل على عملية عقلية معقدة اعترف الجاحدون بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه استطاع النجاح فيها فمكنته من القدرة على الاقناع وحيازة التصديق والإيمان بما كان في القرآن الذي كان يُحاججهم به ويُحاجج غيرهم به فيقتنع به المؤمنون بينما يجحدون هم لأنهم يعرفون السر حسب تصورهم وهو الاكتتاب، فما هو هذا الاكتتاب الذي شخص به الجاحدون الأقدمون من ذوي المعرفة باللغة والفكر ما كان في القرآن الكريم من قدرة لم تؤتها نصوص أساطير الأولين نفسها؟ بعبارة أخرى إذا كان الأمر أمر أساطير الأولين التي هي متاحة في بطون الكتب وفي الروايات فلماذا لا يستطيع الواحد منهم (وقد حاولوا محاولات جادة كما روى عن الحارث بن النضر) أن يحقق بنصوص أساطير الأولين ما حققه القرآن الكريم؟

أعتقد والله أعلم أن الاكتتاب الذي أشار إليه النص القرآني في حديثه عن نفسه أي عن القرآن نفسه هو قدرة القرآن الكريم على تحويل موضوع هذه الأساطير إلى جزء من نسيج كتاب ينتظمها وينتظم غيرها بالطبع من أجل غاية أرفع بكثير من الفن القصصي أو التاريخ المكتوب أو ما يستهدف الفن والتاريخ من فخر أو وعظ أو تعليم.

 

هذا “الاكتتاب” الذي مارسه النص القرآني هو الذي حوّل أساطير الأولين أو جوهر نصوص ما كان يُعتقد أنه أساطير الأولين تحويلاً ربانيا ارتقى بهذه الجواهر لتكون جزءاً من هذا الكتاب الأعظم الذي هو القرآن الكريم وذلك بعد تخليصها من الفعل البشري في صياغتها وروايتها واستقبالها، وبعد تخليصها كذلك من كل عنصر من عناصر الزمان والمكان والوصف والتسبيب والتسويغ والتبرير والتعليل والترتيب والتحليل والتركيب.

 

لا حاجة بنا مهما كانت ألفاظنا قاصرة (ومهما كانت ألفاظا قادرة أيضا) على أن ترسم حدود العلاقة بين الأسطورة على نحو ما هي موجودة في رواية القرآن الكريم وبين الأسطورة على نحو ما هي موجودة في أية رواية أخرى بما في ذلك ما هو موجود في كتب الأديان الأخرى كالتوراة ذلك أن هذه الفوارق مع ضخامتها وامتياز طبيعتها ليست محلاً لأمل في الوصول إلى مستوى آيات القرآن، ولا البناء على مستواها، إذ أنها تمثل ما يُطلق عليه القرآن نفسه “إعجاز القرآن”.

 

يتصل بهذا أن نفهم بكلّ وضوح معنى لا يقل أهمية عن المعنى الأول وهو أن وجود الأسطورة في القرآن الكريم لا يختلف عن وجود أي لفظ من الألفاظ أو حرف من الحروف العربية في القرآن الكريم، فكما أن حرف الباء موجود في اللغة العربية وفي القرآن وكما أن لفظ اسم موجود في اللغة العربية وفي القرآن الكريم وكما أن كلمة الله موجودة في اللغة العربية وفي القرآن الكريم وكذلك كلمة الرحمن وكلمة الرحيم.. ولكن اجتماع هذه الكلمات بالترتيب الذي يقول «بسم الله الرحمن الرحيم» يجعل منها جملة قرآنية، كذلك فإن هناك جملاً كثيرة وأشباه جمل كثيرة موجودة في اللغة العربية كتراكيب مستقلة لكنها توجد أيضا في القرآن الكريم.

  

وإذن فالأساطير التي تُسمّى بأساطير الأولين تمثل “مفردات” من “المفردات” التي يستخدمها القرآن الكريم ويكتتبها كما فعل في أسماء بعض الحيوانات وبعض النباتات وبعض الكائنات غير الحية وهذا الاستخدام هو الاكتتاب، والاكتتاب ليس هو التوظيف فالمعاني القرآنية أسمى وأنقى من أن تكون بحاجة إلى الأساطير لتوحي بها، والاكتتاب ليس هو الاستنساخ لأن الاستنساخ لا يغير من طبائع الشيء المستنسخ وليس هذا موقف القرآن من الأساطير التي يكاد القرآن أن يُجرّدها من كل عناصر الهوية، ولا يستبقي منها إلا بعض السمات الذاتية فحسب، والاكتتاب ثالثاً ليس هو الاستشهاد ذلك أن المعنى القرآني أجلّ من أن تكون الأساطير شاهداً عليه والاكتتاب رابعا ليس هو التمثيل، لأن المعنى القرآني أوسع من أن تقوم الأسطورة بتلخيصه أو تمثيله، والاكتتاب خامسا ليس هو الاستملاء وإن ظن الكافرون أن الاكتتاب يعتمد أساساً على الاستملاء أو الإملاء ذلك أن الاكتتاب عميلة معقّدة لا يكاد الإملاء يمثل فيها شيئاً مذكوراً بأكثر من أن يكون وسيلة نقل للمنتج بعد اكتمال إنتاجه… وهكذا .

  

بهذا المعنى القرآني الجميل والموحي والمعبر والفريد نستطيع أن نفهم قول الحق جلّ جلاله “أساطير الأولين اكتتبها”، فهما لم يتناوله أساتذتنا المفسرون من قبل، وهو فهم يريح عقليات من تصدّروا للدراسات القرآنية فأوقفتهم ثقافة متعجلة أو وافدة عند حدود تصورات هي أبعد ما تكون عن إعجاز القرآن من ناحية وعن قداسته من ناحية أخرى ثم أوقعت بعضهم في الجدل بعد أن أوقفتهم عند حدود من التصور، ومع هذا فمن الإنصاف للحقيقة أن نشيد هنابالاجتهاد الذي مارسته المدارس الأدبية والنقدية في القرن العشرين في محاولتها الجادة للفهم مهما كانت التجاوزات التي نشأت عن عجزها عن التصور، ذلك أن القضية بمقاييس عصرنا الحالي كانت أكبر بكثير من قُدرة العقول البشرية فيما مضى من الزمان.

 

 

 

 

 



تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com