أتيح لي في الأيام الماضية أن أقرأ رسالة علمية تم إصدارها في كتاب، وقد احتاطت دار النشر فأشارت إلى أن الكتاب في الأصل رسالة جامعية، وجعلت هذا الكتاب ضمن سلسلة للرسائل الجامعية، ويبدو لي أن الناشر كان مُحقاً في إلقاء المسؤولية على الجامعة فيما تضمّنه الكتاب من مُجافاة لكلّ أصول البحث العلمي رغم ما بذله صاحب الرسالة من جهد. سألجأ في هذه التدوينة إلى نوع من التمويه الكفيل بطمس اسم صاحب الكتاب والرسالة حتى لا أكون ظالماً له وهو مُجتهد، ولا قاسياً عليه وهو معذور، أو قد يكون في الغالب معذوراً، وسأصور للقارئ مدى ما يمكن للسياسة أن تُفسد به البحث العلمي سواء أكانت هي السياسة العامة أم السياسة التي يفرضها المشرفون أو المعهد العلمي.
يتحدث الكتاب ضمن ما يتحدث عن عَلم من الأعلام يُخصّص له فصلاً من الكتاب، ثم يضمن هذا الفصل تعريفا ببليوجرافيا بما كتبه الرجل وبما كُتب عن الرجل، فإذا به يتعمّد أن يُغفل عدداً مهما من الكتب التي كتبت عن الرجل وحده، وعدداً مهما آخر من الكتب التي خصّصت فصولاً للحديث عن هذا العلَم، بالطبع فإن إغفاله كتباً مشهورة كفيل له بالسقوط الحر المباشر أمام القراء الذين سيتساءلون كيف يكون هذا المؤلف مُتخصّصاً ولم يعرف ما عرفه المثقف العادي من كتب، وبخاصة أن ثلاثة من أبناء هذا العلَم كتبوا ما يُشبه المذكرات وأن اثنين منهما كتب كتباً حملت اسم أبيهما في عنوان الكتب؟
دعك من هذا التجاوز الذي لا يمكن تبريره، فقد قفز صاحب الرسالة على كل ما رواه هؤلاء مما يهم بحثه أو رسالته، لكن الرسالة نفسها أشارت في الببليوجرافيا التي قدمتها عن العلم إلى أحد التعقيبات نشره أحد الصحفيين حول فصل من كتاب لمؤلف آخر من غير الأبناء، وقد نشر هذا المؤلف الذي لا يمكن تجاهله أكثر من فصل في أكثر من كتاب عن هذا العلَم، وأصبحت بعض هذه الفصول جوهرية في التعريف بذلك العلم. هل يجوز لصاحب الرسالة أن يُشير إلى التعقيب ويثبته ولا ينسى حذفه على نحو ما حذف الإشارة إلى الفصل الأصلي الذي دار حوله التعقيب؟ هنا يظهر بكل وضوح أن سلطة ما (معنوية أو مادية) رأت أن تحذف كل ما يخص مؤلف معروف من فضل أو من إسهام في موضوع هذا الفصل، بل في موضع الرسالة، وبخاصة أن دراسة حياة العلَم الذي درسته الرسالة الجامعية لا يُمكن أن يكتمل من دون الإفادة مما أنجزه هذا المؤلف الذي تريد سلطة ما أن تحذف اسمه.
هنا نسأل أنفسنا لماذا لم يلجأ الباحث أو المشرفون إلى عبارة أحد الباحثين أو أحد الأساتذة أو أحد العلماء ليستروا بها ما فعلوه من حذف الفضل بدلا من إثباته لصاحب الفضل، أغلب الظن أن قرار الحذف جاء متأخراً، ومن ثم ظهرت آثار الفجوات من دون معالجة. أنتقل من هذا المثل البارز إلى مثل آخر يتعلّق بالملحق الذي أثبت فيه صاحب الرسالة تراجم لعدد من الشخصيات التي تناولها بحثه فإذا به يقع في نفس المحظور فهو يتجاهل ذكر اسم المصدر الوحيد الذي مكّنه من أن ينقل عنه بعض التراجم التي لم يُرَد لها ذكر إلا فيه! لماذا يضطر الباحث نفسه أو يضطرّه مُشرفوه إلى هذا الإنكار الذي يُذكرنا بما كان النظام الناصري يفعله في صورة الملك فاروق في الأفلام القديمة.. ربما فعل الباحث هذا ليُذكرنا بتلك الحقبة الكئيبة التي منعت نشر مؤلفات سيد قطب كما منعت نشر ديوان الجارم، وتقرير شعره في تاريخ الأدب والنصوص المقررة.
أنتقل نقلة ثالثة إلى ما يفعله الباحث في نصوص معروفة ومعروف كاتبها فإذا هو يثبتها لمن نقلها عن صاحبها و لا ينسبها لصاحبها الأصلي الذي كتبها! مع أن اثبات النص لا يضيف فضلاً إلى من نُسب إليه، ولا نفيه يُقلّل من شرف صاحب الرواية الأصلي.. لكن ذائقة الباحث استملحت ان تنسب بعض الأشياء إلى غير قائلها، لأنها فيما يبدو وجدت أن علاقتها بمن نقلها عن قائلها أوثق موضوعا بالناقل لا بالكاتب الأصلي، ومن ذلك على سبيل المثال أن أحد أبناء علم ممن شملتهم الدراسة روى قصة لأحد الصحفيين فذكرها الصحفي في مقال موسع فإذا بالباحث ينسب القصة إلى والد الراوي مباشرة مع أن الصحفي نفسه لم يقل بهذا.
أنتقل إلى ميدان رابع أكتفي فيه على سبيل المثال بإشارة مهذبة جدا إلى أن الرسالة /الكتاب لا تعرف الفرق بين الفيلسوف نيتشة ١٨٤٤- ١٩٠٠ والفيلسوف فيشتة ١٧٦٢- ١٨١٤ وربما سيفاجأ الدكتور صاحب الكتاب بهذه الحقيقة من هذه المدونة. أنتقل إلى ميدان خامس هو جوهر الكتاب الذي هو في الأصل رسالة، ذلك أن الباحث بعد أن بحث ودرس ونقل وأعاد النقل وكرّر النقل وصل إلى نتيجة يستطيع القارئ لرسالته (أو كتابه) أن يكتشفها، وهو أن الأثر الذي تحدث عنه كان مرتبطاً بشخص واحد، وشخص واحد فقط، وبدلاً من أن يعود إلى أساتذته فيقترح عليهم أو أن يطلب منهم تغيير موضوع الرسالة إلى الاكتشاف الذي اكتشفه فإنه آثر أن يمضي في طريق العموميات التي تُنكر فضل الفرد لتُنسب الأفضال إلى جماعة، وأغلب ظني أن هذا حدث حتى لا تضيع على الباحث المدة التي قضاها منذ التسجيل لرسالته ذلك أن تغيير العنوان الذي سُجّلت به الرسالة يقتضي البدء من جديد، وكأن التسجيل جديد إلا أن يستطيع الباحثون تقديم صياغة تُعدّل من العنوان أو تضيف عليه وتنص بموافقة مجلس الكلية على ألا يعتبر هذا تسجيلاً جديداً.
وفيما يبدو فإن المشرفين الاعلام كانوا في شغل بحياتهم ومهماتهم عن أن يكتبوا مثل هذه الورقة لتلميذهم وأن يُقدموها للمجالس الجامعية، أو ربما أنهم لا يعرفون هذه القاعدة من قواعد تغيير العنوان مع عدم فقدان الأقدمية المترتبة على تاريخ التسجيل الأول، وهكذا ظهرت الرسالة وظهر الكتاب من بعدها في صورة احتيال مكشوف يصمم على إنكار صاحب الفضل ويصمم على نسبة هذا الفضل إلى الكيان الذي أنشأه صاحب الفضل.. تماماً مثلما نقول عن الحفيد إنه ليس ابن الجد، ولكنه ابن ابنه.. وهنا قد يسأل السائل لماذا نفعل هذا في بعض الأحيان؟ تتعدّد الإجابات لكنها كلها تُعبّر عما يُسمّى في اللغة العامة بالعذر الذي هو أقبح من الذنب. والعياذ بالله.
لكل هذه الأسباب نظرت بعطف إلى صديقي الكبير والشهير الذي أغفلوا جهده وقلت له يا صديقي لا تحزن، فإنهم أيضا أنكروا فضل صاحب الفضل ونسبوا الفضل إلى ابنته.. كان قولي فيما بدا مفاجئاً لصديقي الواجم بيد أنه بعد دقائق تهدج.. فسألته عن سرّ تهدجه، فأجابني بأنه ارتاح من حيث لم يدر أن يكون هذا هو مصدر راحته.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا