في الآية 248 من سورة البقرة يحكي القرآن الكريم قصة حوار بين الملأ من بني إسرائيل (بلغة العصر: النخبة) وبين أحد أنبيائهم. تتضمّن صياغة الآية القرآنية لهذه القصة أسلوبا نادراً من الأساليب التي لم ترق إليها أساليب كتاب العربية حتى الآن على الرغم من كثرة احتذائنا لأساليب القرآن فيما نستهديه من البلاغة والبيان. المعنى الذي يعبر عنه هذا الأسلوب وتتناوله الآية يتضمن إشارة ذكية من النبي الذي يحاور النخبة إلى ما يتوقّعه من تخاذل النخبة ومعها شعبها عن القيام بواجبهم، لكنه حين يُعبّر عن هذا المعنى لا يُعبّر عنه على طريقة تنبؤية مباشرة، ولا على طريقة شرطية، ولا على طريقة تهديدية، أو حثية، أو تحتضيضية، أو تحريضية، ولا على طريقة ساخرة كذلك وإنما يلجأ في هذا التعبير إلى أسلوب يُسمّى “استفهام الشك” بأن تسأل محاورك هل هو ينوي ألا يفعل؟ بدلا من ان تسأله: هل هو حقاً سيفعل؟ أو هل هو حقا يريد أن يفعل؟ جدوى هذا الأسلوب البليغ أنه يضطر المحاور إلى إثبات القوة والإلحاحية في دوافعه الحقيقية لما ينتوي أن يفعله، على نحو ما حدثنا القرآن الكريم، ومع ما هو متوقع من أن تكون الدوافع جادة وملزمة فإن عنصر التخاذل البشري لا يزال وارداً أيضاً، ومن الجدير بالإشارة المباشرة والسريعة أن الآية الكريمة أثبتت صدق هذا التنبؤ، فقد أخلفت الأغلبية وعدها بالقتال في سبيل الله رغم دوافع هذا القتال وحتميته ولم تف بالوعد إلا الأقلية. بل إننا نعرف أيضا من الآيات التالية أن الله سبحانه وتعالى وضع هذه الأقلية التي وفت بالوعد أمام اختبار صعب تال، وهو اختبار الشرب من النهر، وكانت النتيجة مَرة أخرى مُرة أخرى وهي أن الأقلية (التي هي أقلية الأقلية) هي التي فازت، بينما فشلت في ذلك الاختبار الثاني الأغلبية (التي هي اغلبية الأقلية التي فازت في الاختبار الأول). نعود إلى الحكمة القرآنية في استخدام استفهام الشك لنفكر فيما هو متاح أمامنا في اللغة (أية لغة سواء العربية أم غيرها) من أساليب التعبير عن هذا المعنى فنجد الأسلوب الأول الذي نلجأ إليه في كتابتنا الصحفية وهو أسلوب شائع في التعبير عن هذا المعنى وهو يتكون من الجمع المتوالي بين أسلوبين أولهما هو أسلوب الاستفهام المتثبث من قبيل قولنا: وهل حقا تريدون القتال؟ وثانيهما هو إرداف هذا الاستفهام المتثبث بالتعبير عن الشك الناشئ عن الخبرة بالمخاطبين سواء في ذلك ان تصوغ هذا التعبير بأفعال معرفة الحالة السلبية كالقول/إنني أعرف أنكم لا تنتوون قتالا، أو بأسلوب الأفعال التي تنفي الامنيات” كالقول: إنني لا اعرف عنكم رغبة في القتال (أو لا اعرف لكم أو بكم).. ومن الجلىّ أن كل هذه المعاني التي تتطلب تعاقب أسلوبي الشك بعد أسلوب الاستفهام المتثبت لا تستطيع أن تؤدي هذا المعنى الذي أداه أسلوب الاستفهام بالشك باختصار شديد.
بيد أن بلاغة الأسلوب القرآني في هذه الآية لم تقف عنه هذا الحد، وإنما أضافت إليه ضمن ما أضافت استخدام فعل “عسى” وهو فعل عبقري في وصف حالة الإرادة الناشئة عن رغبة، وليس هناك فعل آخر في اللغة يستطيع أن يقوم مقامه في هذا التعبير الدقيق في وصف حالة الإرادة الناشئة عن رغبة، والشائع عند دارسي اللغة المتميزين أن عسى فعل ماض جامد من أخوات كاد وأنه يستعمل ثلاث استعمالات:
– الوجوب، وهو الاستعمال القرآني حين يجيء الفعل منسوبا إلى الذات الإلهية
– الترجي في الامر المحبوب
– الإشفاق في الأمر المكروه
لكنني مع استقرائي للاستعمال اللغوي أراه كما ذكرت قبلاً: فعلاً مُعبّراً عن إرادة ناشئة عن رغبة، وأقوى دليل (أو شاهد) على هذا المعنى الجوهري الذي يدل عليه هذا الفعل هو سياق هذه الآية والحوار الذي فيها، فقد كان القتال قد أصبح أمراً حتميا بعدما أصاب بني إسرائيل من الغم والظلم والمهانة بسبب إخراجهم من ديارهم وأبنائهم، وقد مكّنهم إيمانهم من أن يعرفوا ويدركوا أن قتالهم هذا مما يندرج تحت عنوان القتال في سبيل الله ، ومن ثم جرى حوارهم مع نبيهم على نحو ما صورته بلاغة القرآن الكريم. أقفز من بلاغة القرآن الكريم العالية إلى تعبيراتنا المعاصرة فلا أجد لنا قدرة على الوصول إلى هذه البلاغة، وإنما اقصى ما يمكن لنا أن نفعله هو أن نسأل عن الجدية في سعينا فحسب، أما السؤال بهذه الطريقة بالرغم من حاجتنا إليه فإننا لم نصل إلى مستوى مثل هذا التعبير عنه حتى الآن رغم ثراء لغتنا ولغات غيرنا. وتدلنا هذه الملاحظة على وجوه من إعجاز القرآن الكريم التي لم تُدرس بعد، وهي وجوه التعبير بأساليب نادرة تتضمن مراحل التفكير والشروع والتنفيذ، على نحو ما فهم الأقدمون من أفعال الشروع التي سمّوها كاد واخواتها. ومع أن معنى أفعال الشروع واضح في أذهان القراء، فإني لا أمنع نفسي من أن أذكر مثلاً بسيطاً يُبيّن عبقرية اللغة العربية (وبعض اللغات الأخرى) حين تعبر عن معنى المقاربة أو الاقتراب في الحكم القانوني أو المعنوي بأفعال من قبيل كاد، فإذا أردنا تحويل الأمر إلى لغة الرياضة التي تتعامل مع [الزمن] فإن هذا المعنى يُعبّر عن نفسه بفعل “أوشك”، وهو الفعل الذي يعبّر عن الاقتراب المكاني باعتبار أن [المكان] يتحدد بالزمان من خلال “المسافة” و”السرعة”، وهي معاني صاغتها اللغة بذكاء قبل أن تصوغها الرياضيات وتبني عليها نظريات من قبيل النسبية.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا