كان الرئيس هواري بومدين (1932 ـ 1978) أقرب الساسة العرب المعاصرين إلى فكرة البحث عن الأسطورة في زمن الواقعية، ذلك أنه كان طموحا إلى أقصى حد إلى إعادة مجد قادة الإسلام الأوائل الذين يلتزمون الأخلاق الرفيعة من الشرف والكرامة والعدل والمساواة والأمانة والتجرد والفداء والولاء والتواضع والعمل الدؤوب من دون أن يدرك أن العصر الحاضر يتطلب أخلاقا أخرى بالإضافة إلى هذه الأخلاق، وهكذا فإننا من دون التعالي على هذه الشخصية العظيمة نستطيع أن نقول إنه لم يخطئ فيما فعل لكنه أخطأ فيما لم يفعل.
وبهذه الجملة البسيطة يُمكن لنا إدراك كثير من الحقائق في مسيرة السنوات الثلاث عشرة التي حكم هواري بومدين الجزائر فيها ما بين يونيو 1965 وديسمبر 1978.
الداعم الحقيقي الأول للشعب الفلسطيني
نبدأ بأمجاد الرئيس هواري بومدين التي لم تأخذ حقها من التكريم، فنذكر على سبيل التمجيد والاعتراف والإنصاف للحقيقة أن الرئيس هواري بومدين كان الداعم الحقيقي الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية وكفاح الشعب الفلسطيني، وربما يتعجب القارئ لهذا الحكم القاطع لكنه الحقيقة، فالرئيس هواري بومدين هو من احتضن الكفاح الفلسطيني المسلح قبل بدايته وعند بدايته وبعد بدايته وحتى وفاته، ولم يبخل الرئيس هواري بومدين بأي دعم على الثوار الفلسطينيين.. بيد أن هواري بومدين بحكم السمة والخبرة وآفاق المعرفة السياسية لم يكن يُدرك حقيقة ما كان يجب عليه أن يفعله لهؤلاء الثوار الفلسطينيين وهي أن يُنقذهم من الآخرين الذين كان قد بدأ يحس (ولا نقول يعلم) أنهم هم الجحيم المُستتر.
ولو أن الرئيس هواري بومدين فهم حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، فهما حقيقيا بعيدا عن الشعارات الرنانة والتفاهمات الخفية التي لم يكن من الصعب عليه أن يُدركها ببذل مزيد من الجُهد في قراءة الأحداث، لتغيرت وجهة هذا الصراع ، وتحررت فلسطين كلها قبل نهاية الستينيات..
لكن الرئيس هواري بومدين (المولود 1932) كان يعيش العصر الذي يرى فيه حجم المكانة المُتقدمة التي أحرزها الرئيس جمال عبد الناصر (المولود 1918 والموجود في السلطة منذ 1952) ولم يكن يتصور أنه هو نفسه أصدق نية من الرئيس عبد الناصر وأكثر قُدرة.. وعلى هذا النحو كان الرئيس هواري بومدين شبيها إلى حد كبير بالطبيب الكفء الماهر القادر على أفضل إنجاز جراحي لكنه بحكم التراتبية يترك القيادة في حجرة العمليات للطبيب الأقدم منه دون أن يُدرك أنه بموقفه هذا الملتزم بالأصول يُؤذي المريض ويُضيّع حياته.
كان الرئيس هواري بومدين يُقدم الدعم الصادق لفلسطين ويتأخر عن الدور المتقدم في توجيه الثورة الفلسطينية، وهكذا فإن الدور الجزائري في الثورة الفلسطينية لم يُؤت من الثمار ما يتناسب مع حجمه الكبير الذي لم تصل إليه أية دولة عربية.
والواقع أن الرئيس هواري بومدين عاش ومات دون أن تُتاح له فرصة التأمل العميق في الواقع العربي والإسلامي الذي وجد نفسه يعيش فيه مع كل ما في هذا الواقع من تناقضات لم يستطع الرئيس هواري بومدين أن يستوعبها بحكم قلة الوقت أو قصر الوقت الذي أُتيح له في معالجة ومتابعة هذه القضايا.
فإذا نحن أضفنا إلى هذا حقيقة أخرى ، وهي أن الرئيس بومدين عاش في بداية حياته السياسية مرحلة واضحة الرؤية في العداوات والصداقة جعلته لا يُدرك أن هناك أعداء متعددين وإنما هو عدو واحد وواحد فقط و هو الاستعمار، أقصد أن أشير إلى أنه لم ينشأ كالمصريين أو السوريين في مجتمعات تشهد اختلاف الأحزاب واختلاف رؤيتها وتناقض مواقفها وتبدل تحالفاتها، وتشهد أيضا دلائل متعددة لمعارك الانحياز والتعصب والتخوين والتسفيه.. لهذا السبب فقد كان الرئيس هواري بومدين يُعالج الحياة الدائرية بخطوط مُستقيمة لا تستطيع بحكم استقامتها أن تمارس الدوران مع المُحيط، وإنما هي قادرة فقط على تحقيق نجاحات خطية ، وتعجز بحكم براءة الأفق السياسي نوعا ما عن أن تجعل صاحبها يُدرك جوهر النجاح المطلوب للعصر الذي هو فيه.
موقفه في مرحلة وفاة الرئيس عبد الناصر
ربما كان من الواجب أن نتجه الآن بالحديث عن إنجاز الرئيس هواري بومدين في الاتجاه العروبي ، لنذكر مثلا سريعا عن قُدرته السياسية التي لم تتجاوز آفاق الأخلاق الكريمة والممارسات البسيطة ، وسوف نبدأ بأن نضرب مثلا سريعا للمقارنة يكشف عما كان يُمكن للرئيس هواري بومدين أن يحققه، وما لم ينتبه إلى تحقيقه.
نحن نعلم أن الرئيس عبد الناصر توفي في نهاية مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في مواجهة أحداث سبتمبر 1970 حين اندلع الاختلاف واندفع الصراع بين الحكومة الأردنية والقوات الفلسطينية التي كانت تصور على أنها بطبعها متجهزة لتحرير فلسطين.. ونحن نعرف أيضا أن الموقف في ذلك النزاع كان ملتبسا تماما أو بعبارة أخرى فقد كان باطنه غيرُ ظاهره، نحن نعرف الآن ما لم يكن الرئيس هواري بومدين نفسُه يعرفه في ذلك الوقت من التواطؤ العربي ضد الكفاح الفلسطيني ، والذي تكرسّ في نهاية ذلك المؤتمر (الذي شهد نهاية عبد الناصر) بأن خرجت المقاومة الفلسطينية من الأردن ، أي من جبهة مواجهة مباشرة مع الكيان الصهيوني عبر ما يسمى بجبهة الأردن.. وهو ما لم يكن يخدم أحدا إلا الكيان الإسرائيلي.. وفي الوقت نفسه فإن القيادة العسكرية السورية (التي نسب إليها التواطؤ في هذه المعركة بأن تأخرت عن نجدة الفلسطينيين رغم القرار السياسي السوري بنجدتهم) سرعان ما أتمت توجهها أو تخاذلها بأن استولت على السلطة في سوريا وأبعدت الراديكاليين.. حدثت كل هذه المآسي أمام عيني الرئيس هواري بومدين دون أن يتجاوز دوره المهذب إلى دور فاعل ، وكأنه ليس الثوري الحقيقي المنتصر وسط كل هؤلاء الرؤساء والملوك وكأنه ليس الرئيس الذي يحكم (منذ خمس سنوات كاملة) أقوى دولة عربية في ذلك الوقت.. صحيح أن هواري بومدين كان متجردا لكن الموقف كان يتطلب منه أن يكون متدخلا لا متجردا.. كان الموقف يتطلب منه أن يجرد سلاحه الاستراتيجي (حربا وسلاما وتفاوضا وفرضا) لا أن يتجرد من قوته البازغة.
مقارنته بالرئيس جعفر النميري
قارن هذا الموقف المتجرد للرئيس هواري بومدين بموقف رئيس حديث في الرئاسة لم يتجاوز عمره فيها 16 شهرا وفي بلد يُعاني من مشكلات التمويل والاقتصاد وهو الرئيس جعفر النميري تجد الرئيس جعفر لنميري حريصا على أن يلعب أدوارا أكبر مما كانت ظروفه تتيح فرصتها أو تبيحها أو تفرضها، لكنه مع هذا أخذ الموقف الذي يقول ويتحرك ويتوسط ويعد ويضمن.. الخ
بل إن الأمر وصل في حدود فرض الذات إلى حد أن الرئيس جعفر النميري عاد من السودان إلى القاهرة بعد وفاة عبد الناصر للمشاركة في تشييع جنازته ، فلما رأى وميض النار تحت الرماد فيما يتعلق بمستقبل الرئاسة في مصر ، أعلن للمصريين أنه لن يُغادر مصر إلا إذا أصبح لها رئيس مُنتخب، رئيس واحد وليس قيادة جماعية أو ما شابه ذلك من الحلول القاتلة التي تُمهد لحركات الانقلاب والانقلاب المُضاد والصراع الكفيل بضياع كل شيء.
إذا ما نظرت إلى التاريخ من هذه الشرفة المعاصرة التي تتأمل في الأدوار المختلفة وتتأمل في اختيار أبطال المسرحية لأدوارهم وتتأمل في السيناريوهات المختلفة أو النصوص المتعددة التي يُمكن أن تفرض نفسها على الواقع، فإنك تستطيع أن تدرك المساحة التي تركها هواري بومدين من دون اهتمام بينما كان عليه أن يشغلها.
تستطيع أن تقول إن الرئيس هواري بومدين لم يشهد في شبابه مثل الرئيس جعفر النميري صالون العقاد ولا ونسه من ونسات السودانيين في ساعات السمر، ومن ثم فإن تربيته السياسية أو وعيه التاريخي كانا أقرب إلى الطهارة منهما إلى الممارسة، نعم باستطاعتك أن تقول هذا لكن باستطاعتك أن تُدرك أن الرئيس النميري بحجم من الإخلاص لا يزيد عن إخلاص الرئيس بومدين، وبمساحة من القوة لا تزيد عن مساحة قوة الرئيس بومدين كان قادرا على أن يُنجز أكثر بكثير من إنجاز الرئيس بومدين.
دوره في حرب أكتوبر
ربما أنتقل بك إلى مرحلة من أكثر مراحل التاريخ العربي مجدا و زهوا وجهادا و عزا وهي مرحلة حرب أكتوبر ١٩٧٣ ، فإذا أنت أمام أكثر الناس إخلاصا لحرب أكتوبر ، وهو الرئيس هواري بومدين، وإذا أنت مبهور من مُشاركة العسكريين الجزائريين الأفذاذ بأنفسهم في الحرب حتى إن شارون نفسه أُصيب على يد الجنود الجزائريين، وإذا أنت مبهور بموقف الرئيس هواري بومدين مع القادة السوفييت الذين كانوا يستحبون ويستعذبون التقصير في إمداد مصر بالسلاح فإذا به يعطي لهم الحساب الدولاري المفتوح ليسيل لُعابهم للدولار ليُزودوا مصر بالدبابات عوضا عما فقدته في حرب أكتوبر.
تتأمل كل هذا العطاء والإخلاص ثم تجد نفسك وأنت مذهول من أن يتأخر الرئيس بومدين عن الوقوف في الصف الأول لاتخاذ القرار العربي من حرب أكتوبر ، وإذا هو بعيد تماما عن التحضير للحرب ، وعن الاشتراك مع السادات والأسد في التجهيز النهائي لها ، بينما تجد دور متقدما لأخ أصغر له هو الرئيس معمر القذافي الذي كان يصغره بعشر سنوات كاملة والذي لم يصل إلى الرئاسة إلا بعده بأربع سنوات ، لكنه مع هذا كان حريصا على أي طرف من أطراف قيادة مثل هذه المعركة المجيدة ، حتى لو من شرفة الناقد المسرحي أو المعلق الرياضي وهو ما اقتصر دوره في النهاية عليه ، خوفا من تهوراته .. مع أن الموارد الاستراتيجية المُتاحة للوطن العظيم الذي كان يحكمه الرئيس هواري بومدين كانت أضعاف موارد الرئيس القذافي لكن علو صوت القذافي كان ملحوظا، وكأنه أعلى بأكثر من الرئيس بومدين ، أو كأنه كان قادرا على العطاء بأكثر من الرئيس ومدين بينما أن الحقيقة التي لم تكتمل صورتها في حينها كانت تتلخص في أن الرئيس القذافي كان مُعوقا للمسيرة ، ومُشتتا للجهد على حين كان الرئيس هواري بومدين داعما ومخلصا إلى أبعد الحدود.
على هذا النحو كان الرئيس بومدين يُقدم الإخلاص دون أن يُعنى بما هو أهم من الإخلاص وهو حماية الإخلاص نفسه ، وهكذا فإننا لا نصادف للرئيس بومدين وجودا يتناسب مع مكانته فيما تلا حرب أكتوبر من مفاوضات سياسية واستراتيجية.. لا نجد له أثرا ولا تأثيرا، وكأنه لم يكن من المشتركين ولا من المنتصرين ولا من الظافرين ، و إنما نراه قد اعتصم بتواضعه وتجرده وترك الرؤساء الأسد وصدام والقذافي وغيرهم يُمارسون سياسات لا تخلو من المراهقة والطيش حتى إذا أزفت الآزفة وجدت الجزائر نفسها في مربع هؤلاء الرؤساء الذين توقفوا وآثروا الرفض بينما كان من المفترض أن موقعه الحقيقي أكبر من هذا بكثير.
لومي لقيادة مصر التي لم تشركه كما ينبغي
ليس من شك في أن جزءا كبيرا من أسباب اللوم الذي يُوجه إلى الرئيس هواري بومدين يعود على الرئيس أنور السادات والقيادة المصرية التي لم تبذل جهدها في تنوير الرئيس بومدين وإشراكه في كل شيء على نحو هادئ ، كان يتطلب حوارا فكريا كان من الممكن يقوم به من يأنس إليه الرئيس هواري بومدين نفسه من المفكرين المصريين، لكن سخونة المعركة السياسية وتدافع أحداثها لم يكن يُتيح لمصر ولا للرئيس السادات هذا الانتباه ..
وهنا نجد أنفسنا نكتشف الخطورة القاتلة لغياب الممارسة السياسية الحزبية القادرة على أن تفتح الحوار مع الأشقاء.. وهو ما كان مُتاحا في عهد الليبيرالية حين كان زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا و معه أنصاره ومُنافسوه ومعارضوه جميعا يشجعون وجود مكتب المغرب العربي بشيوخه وشبابه ، ويتيحون لهؤلاء الشباب الثائرين من تونس والمغرب والجزائر وغيرها أن يتصلوا اتصالا سلسا و آمنا بأقطاب السياسة المصرية ، وبآراء السياسة وخبرائها ، وأن يعرفوا الفارق بين الوفديين والسعديين وبين الشيوعية والاشتراكية ، وبين الإخوان المسلمين والشبان المسلمين وبين حدتو و شقيقاتها حستو و حمدتو وغيرها.
توتر علاقته مع مصر
ومن المثير للأسى والشفقة على مستقبلنا العربي أن الرئيس هواري بومدين نفسه الذي جاء مصر سيرا على الأقدام قد شهد في بداية حياته هذه القاهرة المائجة بالحياة والحرية والحيوية فلما وصل إلى الرئاسة لم يعد يجد في مصر وقاهرتها الحبيبة إلا شمولية مقيتة جعلت الصحيفة الرسمية الأولى وهي الأهرام تُصوره في أول أيام رئاسته ووصوله إلى السلطة قد فشل في محاولة الانقلاب على الرئيس أحمد بن بيلا بينما كانت الحقيقة أنه هو وجماعته قد استولوا بالفعل على مقدرات الأمور و مقاليد الحكم.
أذكر أنني قصصت في الفضائيات قصة وصول المشير عبد الحكيم عامر إلى الجزائر صبيحة استيلاء بومدين على السلطة، بينما كانت الأهرام في نفس الصباح تصف بومدين بالخيانة وتُبشر بالقبض عليه، وإذا بالرئيس هواري بومدين يُواجه عبد الحكيم بقوله : هل أتيت لتهنئة بن بيلا؟ على الخلاص مني وإعدامي.. ثم يقول له: لولا أنك عبد الحكيم لأعدمتك لأنك قادم للتهنئة على إعدامي!! بينما تقول الروايات الأخرى المناقضة : إن المشير عبد الحكيم الذي كان في ذلك الوقت يحتل في مصر الموقع المماثل بل المطابق لموقع الرئيس هواري بومدين في الجزائر مال على بومدين يسأله: كيف فعلها واستطاع التخلص من الحاكم الفرد الذي أتعب شعبه وأمته بفرديته.
ذكرت هاتين الروايتين المُعبرتين بأكثر مما أنهما صادقتان أو حقيقيتان لأصور طبيعة ما كان موجودا من الصراع السياسي الذي حسمه الرئيس بومدين بوصوله للسلطة .
الفارق بين الرئيس بومدين وبين الرئيس بن بيلا
من الواجب أن أشير في لمحة سريعة إلى الفارق بين الرئيس بومدين وبين الرئيس بن بيلا وهو فارق كبير جدا بحجم الفارق بين الشرق والغرب ، على الرغم من أن أحدا لا يتصور الفارق هكذا.
كان الرئيس بن بيلا رغم كل ما هو معروف عن وطينته وكفاحه وثوريته فرنسيا تماما في تعليمه وفي خبرته، ولنذكر أنه كان جنديا فرنسيا ترقى في سلك العسكرية الفرنسية حتى إنه كان من الذين شاركوا في المعارك الأوربية في الحرب العالمية الثانية ، وكان من الذين تركوا مدينة باريس بعد أن نجح الألمان في الاستيلاء عليها أما بومدين الذي كان هو الآخر معرضا لنفس المصير فمن الطريف أنه بحكم نشأته الدينية القرآنية خطط حياته مبكرا على أن يتفادى القبول بتجنيد الفرنسيين له في جيشهم، وكان الفرنسيون يعتبرون الجزائريين فرنسيين لا بد من تجنيديهم لخدمة الإمبراطورية الفرنسية أو الجمهورية الفرنسية لكن الفارق بين الرئيس بومدين وبين الرئيس بن بيلا أن هواري بومدين قاد زملاءه إلى الهروب من الجزائر عبر تونس وليبيا إلى مصر وقاهرتها حتى لا يجد نفسه مجندا في الجيش الفرنسي.
دوره في تحرير الجزائر
أما مسيرة الرئيس هواري بومدين في تحرير الجزائر فنموذج مشرف للصمود والصعود العسكري المتميز لقائد عقيدي وليس لقائد بورجوازي من الذين يتخرجون في المدرسة العسكرية ليُمارسوا وظيفة بحدود الوظيفة ومتطلباتها ومسارها البيروقراطي.. فقد أسندت إلى الرئيس هواري بومدين العائد من مصر للمشاركة في الثورة الجزائرية قيادات متعاقبة نجح فيها نجاحات ساحقة و أثبت بنجاحاته المتوالية جدارته بأن يكون القائد العسكري الجزائري الأول والأبرز.
تدرب الرئيس بومدين في مصر التي أقام بها سنوات ، وفي 1957 اتخذ اسما عسكريا “هواري بومدين” عوضا عن اسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة. وتولى مسئولية قيادة الولاية الخامسة وفي 1958 أصبح قائد الأركان العربية وبهذا فإنه أصبح قائدا للغرب الجزائري طيلة الفترة من 1957 وحتى 1960 وتُعرف قيادة الغرب الجزائري اختصارا بقيادة وهران ، وفي 1960 أصبح الرئيس هواري بومدين قائد أركان جبهة التحرير الوطني .
وفي 1962 أصبح الرئيس هواري بومدين وزير الدفاع في حكومة الاستقلال . وفي 1963 أصبح الرئيس هواري بومدين بالإضافة إلى هذا نائب رئيس المجلس الثوري دون أن يترك منصبه كوزير للدفاع.
موقفه من رئيسه
ثمة أسئلة أخرى كثيرة يُمكن للقارئ الآن أن يُجيب عليها بعد هذه الإضاءة لحياة الرئيس هواري بومدين ، فهل كان من اللائق أن يترك رئيسه بن بيلا كل هذه الفترة سجينا حتى توفي هو نفسه في 1978 بينما عاش بن بيلا حتى وفاته في أبريل 2012 وقد بلغ عمره 96 عاما.. قضى منها 47 عاما رئيسا سابقا وقضى منها 24 عاما عاشها بعد وفاة الرئيس هواري بومدين وهو في كل صباح و كل مساء يتذكر ما فعله به وزيره بومدين؟
أسئلة خلافته
هل مر بذهن الرئيس هواري بومدين أنه ليس رجل الجزائر الأخير وأن عليه أن يوجد أسلوبا آمنا لخلافته، بدلا من هذا الذي حدث بعد وفاته من اضطراب وحلول وسط؟
هل اكتشف الرئيس هواري بومدين قبل موته بعض ملامح من حقيقة القادة العرب الذين عاش يتعامل معهم على أنهم رجال ثورة مثله بينما لم يكونوا كذلك؟
هل كان في وُسع الرئيس هواري بومدين لو امتد به العمر أن يفهم حقيقة الموقف العربي من قضايا الاستقلال والتبعية، وفلسطين والصهيونية ، فضلا عن أساليب التنمية المستقلة ومُقوّمات النهوض الحقيقة.
كيف كان الرئيس هواري بومدين يُفكر؟
هل كان الرئيس هواري بومدين قادرا على أن يكون نظيرا لديغول في إرسائه للجمهورية الخامسة وقواعدها؟ أو أن يكون نظيرا لروزفلت في إحكام سيطرة أمريكا على حُلفائها وعلى العالم أو أن يكون تشرشل في انتصاره للقانون ، أم أنه كان يحلم بأن يُكرر تجربة ستالين أو تجربة ما وتسي تونغ مع قدر أكبر من الإنسانية..
ربما تُتيح السنوات القادمة مزيدا من الضوء للإجابة عن السؤال المهم الذي لم يُجب عنه أحد حتى الآن أو لم يطرحه أحد بجدية مناسبة حتى الآن ، وهو كيف كان الرئيس هواري بومدين يُفكر؟
وإذا جاز لي أن استشرف مستقبل العرب في العقدين القادمين فإني أرى نماذج متكررة من الرئيس هواري بومدين تفرض نفسها من آن لآخر، بينما أكون أنا قد ودعت الحياة، وقد عجزت أن أقدم مثل الرئيس هواري بومدين لشبابنا ما كان ينبغي أن أقدمه لهم من سيناريوهات مسرح السياسة في عالم لا يرحم ، و مجتمع دولي لا يمانع في أن يدهس بشراسة من لا يستبقه بالفعل والفعل المضاد . فاللهم اغفر لي تقصيري.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا