من الأسئلة المقلقة التي حيّرتني في كتابة تاريخنا المعاصر أنني وجدت أن احمد حسنين باشا (1889 ـ 1946) رئيس الديوان الملكي في عهد فاروق والرحالة الشهير قد سُميَ على اسم جده أمير البحار أحمد حسنين باشا، وأن والده كان شيخاً أزهرياً هو الشيخ محمد حسنين “البولاقي”.
سألت كلّ من استطعت سؤاله عن السبب الذي جعل ابنا من أبناء الباشوات يترك ما كان مُتاحاً له من تعليم مدني أو أوربي او عسكري على أقل تقدير ويُجهد نفسه في التعلم في الأزهر الشريف بكل ما في هذا التعلم من صعوبات دراسية، وقسوة معيشية ،وحاجة إلى الجد والاجتهاد، والدأب، ومواصلة العمل في استيعاب العلم الذي لا يتحمله إلا من هو مؤهل له من الذين لا تعطيهم الحياة فرصة للهو ولا الرغبة المبكرة فيهk لما عجزت أن أجد إجابة على السؤال بدأت أفكر في أن يكون هذا الابن الشيخ قد أصيب في طفولته بمرض افقده نور عينيه، وهكذا كانت الدراسة الأزهرية بالنسبة له فرصة لإظهار نبوغه وحفظ مكانته في العلم بعيداً عن اللهو، فضلاً عن تحقيق الذات في طفل نابغ وبدأت أتتبّع حياة الشيخ ومن عرفه فوجدته كان يتمتّع ببصره ولم يفقده .
بقيت على قلق ومضض حتى جاءت المفاجأة بالمصادفة البحتة حين فاجأني أثناء تصفحي مقال رائع منشور في بريد مجلة الرسالة في أول ابريل 1946 أي بعد وفاة الباشا الحفيد احمد حسنين، ويُجيب السؤال بمنتهى الوضوح والصراحة عن السبب الذي جعل الشيخ محمد حسنين يتجه إلى الدراسة الأزهرية، فإذا بهذا الشيخ العظيم وقد رزق في مرحلة مبكرة من عمره بالهداية الربانية التي جعلته يُصمّم على التبحُّر في علوم الدين، وإذا بوالده لا يوافقه ويُحاول أن ينصحه النصح الكافي بإقناعه بالتوقف عن هذه المحاولة غير المربحة التي لن يجني منها جاهاً ولا مالياً ولا نفوذاً. وتتعقّد الأمور حتى إن هذا الابن يلجأ من وراء ظهر أبيه في حياته إلى الشيخ الإنبابي ١٨٢٤-١٨٩٦ الذي تولى مشيخة الجامع الأزهر مرتين الأولى في اثناء الثورة العرابية ١٨٨١- ١٨٨٢ والثانية بعدها بأربعة أعوام وظل فيها تسعة أعوام ١٨٨٦- ١٨٩٥ حتى عجزت صحته عن تحمل أعباء المنصب فخلفه وكيله الشيخ حسونة النواوي.
وواصل الشيخ محمد حسنين دراسته حتى أصبح شيخاً مرموقاً على نحو ما تصوره القصة التي نشرتها الرسالة، ثم تكون النهاية الروائية أو السينمائية السعيدة التي تجعل الوالد الباشا فخوراً بابنه الشيخ على نحو ما أصبح الباشا الحفيد أيضاً فخوراً بابيه الشيخ، من الجدير بالذكر هنا أن اشير إلى أن المعماري العظيم حسن فتحي كان زوجاً لأخت أحمد حسنين باشا وربما كان هذا سر معاناته في عهد الرئيس عبد الناصر، ولنقرأ الآن النص الذي كتبه محرر البريد الأدبي للرسالة: ” كان الشيخ محمد حسنين البولاقي من كبار علماء الدين في الأزهر، وكان أبوه من عظام أمراء البحر في الأسطول، وكان العرف المتبع أن يكون التعليم المدني للخاصة والتعليم الديني للعامة، فكيف صار أبن أمير البحر الأرستقراطي أزهرياً؟
“حدثنا صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي عن أبيه – وكان أبوه رحمه الله أستاذاً لطيب الذكر المغفور له أحمد حسنين باشا – أن الصبي محمد حسنين وقع في نفسه منذ صغره أن يقرأ القرآن ويحفظ آداب الدين، وازداد هذا الميل فيه حتى سأل أبوه أن يرسله إلى الأزهر. فسخر منه أبوه وأمره ألا يجري هذا الأمر على لسانه وألا [يُخطره] بباله، فتوسل إليه بالشيخ الانبابي شيخ الأزهر إذ ذاك فلم يقبل الوسيلة. وأصر الابن على طلبه، وأصر الأب على رفضه، وزاد على ذلك أن توعده بالطرد أن أصر على هذه [المعرة]. ولكن العاطفة الدينية كانت تعصف برأس الغلام عصفاً شديداً فلم يحفل بوعيد أبيه، ودخل الأزهر وأوى إلى الشيخ الانبابي فآواه وأكرم مثواه وأنفق عليه حتى بلغ الغاية من الفقه في الدين والتبحر في علوم العربية. ثم ظفر بشهادة العالمية وارتقى إلى كرسي من كراسي الأزهر.
“وفي ذات يوم دعا شيخ الأزهر أمير البحر إلى داره فلبى الدعوة، وعرض عليه أن يزور الأزهر فقبل العرض، وعلى حلقة من حلقات الدروس أزدحم فيها الطلاب وأصطف حولها الوقوف، وقف الشيخ الانبابي وسأل أمير البحر: أتعرف هذا العالم الشاب يا باشا؟ فحدق الباشا في العالم، ثم فغر فاه وقال دهشاً: هذا أبني محمد! فقال الشيخ الانبابي في لهجة لا تخلو من تأنيب وسخرية: نعم هو أبنك محمد يا باشا؟ وإني أناشدك الله أن تقول الحق: أيكما أعظم قدراً عند الناس وأرفع مكانة عند الله؟ فلم يسع الباشا إلا أن يقول: هو ولا شك.
“ومنذ ذلك اليوم كان الشيخ محمد حسنين ابن الباشا يغدو إلى الأزهر ويروح إلى القصر في عربة فخمة يجرها جوادان مطهمان”!
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا