الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / كمال الدين حسين: الذخيرة أقوى من المدفعية

كمال الدين حسين: الذخيرة أقوى من المدفعية

كان كمال الدين حسين 1921 ـ 1999 أكثر قادة الضباط الأحرار قدرة على العمل الإداري ، على نحو ما كان الرئيس عبد الناصر أكثرهم قدرة على الزعامة ، وعلى نحو ما كان الرئيس السادات أنجحهم في العمل السياسي، وعلى نحو ما كان عبد اللطيف البغدادي أنجح زملائه في العمل التنفيذي ، وعلى نحو ما كان زكريا محيي الدين أنجحهم في العمل الأمني، وعلى نحو ما كان عبد الحكيم عامر أكثرهم قدرة علي الاستحواذ على قلوب المتعاملين معه ، وعلى نحو ما كان جمال سالم أكثرهم قدرة على فهم الاقتصاد ، وعلى نحو ما كان صلاح سالم أكثرهم قدرة على اللمعان والحضور ، وعلى نحو ما كان حسين الشافعي أكثرهم قدرة على السكون و الوقار .
مكانة كمال الدين حسين في تاريخ جماعته

إذا أردنا أن نلخص مسيرة كمال الدين حسين السياسية فإننا نستطيع أن نقول بكلّ بساطة إن أدواته بما فيها مناصبه المتقدمة في السلطة كانت أضعف من ذخيرته الإيمانية بالدين والوطن والتقدم على حد سواء، ولأنني من الذين يُحبون اختيار الألفاظ الميالة إلى النسبة إلى الأفضل لا إلى الأقل فقد اخترت هذه الجملة بديلاً عن الجملة الوصفية الأخرى التي يعتبرها آخرون مناظرة لها وأدق تعبيرا وهي أن المدفعية أضعف من الذخيرة.
وربما كان من الإنصاف أن أبدأ بالإشارة إلى بعض الحقائق التي سنتناولها إن شاء الله في قراءة حياة ذلك الرجل الذي كان أكثر رجال ثورة 1952 قُرباً إلى مثالية الشباب بما فيها من الحماسة التي تفوق الحكمة، والرغبة التي تفوق القدرة، والفورة التي تفوق الثورة، والثورة التي تفوق التغيير.
فضله على عبد الناصر والناصرية

من الحق أن نقول إن كثيراً من الإنجازات الناصرية المعنوية يعود الفضل فيها إلى كمال الدين حسين وإذا كان هناك ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة قد صنعوا المجد الذي أحاط بصورة الرئيس جمال عبد الناصر في التاريخ فإنهم بحسب الترتيب
جمال سالم و الإنجاز المادي (الإصلاح الزراعي والسد العالي ومجلس الإنتاج ومصنع كيميا. الخ
كمال الدين حسين و الإنجاز المعنوي (التعليم وتطوير الأزهر وعيد العلم ومجالس العلوم والفنون وهيئة الطاقة الذرية.. الخ
عبد اللطيف البغدادي و الإنجاز الحضاري (تطوير فكرة المصانع الحربية ، والكورنيش ، والاستاد والميادين ، والإنجازات المدنية)

فضله في صياغة أدبيات الثورة

وإذا جاز أن صورة ثورة 1952 و صورة الرئيس عبد الناصر البيانية الإيجابية كانت من صنع جماعات تولت قيادة الفكر والتعبير فإننا نستطيع أن نقول إن كمال الدين حسين كان يمثل الجماعة الثالثة بعد جماعتي فتحي رضوان والشيخ الباقوري وقبل جماعة أخبار اليوم بكل من فيها .
ومع أن أسماء الذين صاغوا للرئيس جمال عبد الناصر التعبير عن أفكار الثورة تكاد تكون مجهولة للعامة فإن الخاصة يعرفون أن كمال الدين حسين كان يستعين على صياغة هذه الأفكار الناصرية في أفضل قالب بأفضل العقول البيانية في ذلك العصر، وكان منهم على سبيل المثال الأستاذ محمد سعيد العريان الذي تنطق فقرات بعض كتب الرئيس جمال عبد الناصر بالقول بأنه هو الذي صاغها وكتب جوهرها وترك الطلاء الخارجي لشخصيات صحفية من قبيل الأستاذ محمد حسنين هيكل.
سمعته العالية

على الرغم من الاختلافات الواضحة في التوجهات السياسية والاجتماعية بين الرئيس عبد الناصر وكمال الدين حسين فقد كان عمل كمال الدين حسين الدؤوب بمثابة واجهة مضيئة ورفيعة القمة للثورة والعهد الناصري، ذلك أن إنجازاته كانت تصب في اتجاه المثاليات والقيم العليا، وكان أداؤه متحمسا متميزا.
ويمكن القول بلا مبالغة إنه منذ منتصف الخمسينيات وحتى اعتزاله السياسة ظل كمال الدين حسين بمثابة أكثر رجال الثورة توليا للمسئوليات الإدارية، وقد ضرب به المثل في عدد المجالس التي كان يرأسها، ويبدو أن الرئيس عبد الناصر كان مع ثقته به وتقديره له حريصاً أيضا على إغراقه في كثير من الملفات نظرا لجديته، وإخلاصه، وتفانيه، وحماسه، بالإضافة إلى عامل مهم وهو عدم قدرته على استقطاب المجموعات في اتجاه مناهض للرئيس عبد الناصر نفسه.
ومع أن كثيرين من المثقفين المصريين كانوا يجدون فيه نموذجاً لرجل دولة قادر علي الإنجاز، فإن كثيرين آخرين كانوا يَرْونه وقد تجاوز حدوده في الإمساك بخيوط السلطة، وكان كثير من هؤلاء يستشهدون بقول مأثور للأستاذ عباس العقاد في السخرية الطريفة من وضع كمال الدين حسين وأقرانه من الضباط، وقد أُثر عن الأستاذ العقاد قوله إنه لن يُحاسب يوم القيامة، لأنه وجد في عصر كان كمال الدين حسين فيه (يا مولانا) رئيسا لهيئة الطاقة الذرية.
رأي زملائه فيه

كان كمال الدين حسين بمثابة الثائر الأمثل في تصوّر كلّ من الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات على حد سواء فقد اجتمعت في شخصيته، كما سنرى ـ كلُّ مثاليات الثائر وقدراته واندفاعاته فضلاً عن الحماس المُتّقد والنشاط الطبيعي والذهن الحاضر.. كلّ هذا حقٌ لا شك فيه لكننا نعرف من ممارساتنا للوظائف البيروقراطية بل والمهن والحرف أن هذه المواصفات التي تُميّز من هم في أول درجات السلم الوظيفي أو المهني ليست هي نفسها المطلوبة بعد مرحلة قصيرة من الممارسة، فعناصر التفوّق في المدرس الأول ليست هي عناصر التفوق في المدرس، كما أن عناصر التفوّق في الأخصائي ليست هي عناصر التفوّق في الطبيب المقيم، وعناصر التفوّق في الاستشاري ليست هي عناصر التفوّق في الأخصائي.
ومن دون أن أرسم للقارئ صورة متطلبات كل وظيفة في سُلّم الوظائف التنفيذية التي مر بها كمال الدين حسين فإني أستطيع أن أقول الآن وبكلّ وضوح إن كمال الدين حسين كان متفوّقاً على جميع زملائه بمن فيهم الرئيس جمال عبد الناصر نفسه فيما يتعلق بمتطلبات أولى درجات السلم الذي سيخطو عليه رجال أي ثورة، لكن ألمعية مواهبه كانت تبدأ في التراجع عن تفوقها الساحق عند كل درجة تالية من درجات السُلّم لأن متطلبات الدرجات التالية تتطلب من الإنسان السويْ تنازلا عما يظنه استواء ، أو فلنقل المعنى بعبارة أخرى: تتطلب منه تحويراً في مثالياته ، وإعادة ترتيبه لهذه المثاليات كما تتطلب منه غض النظر عن أخطاء الآخرين بدرجة تكفل له أن يعظّم من الإفادة منهم.. وهكذا.
وببساطة شديدة فإن كمال الدين حسين كان يستطيع أن يكون هو المعلم المثالي ولكنه لم يكن يستطيع بنفس السهولة أن يكون المدرس الأول ذلك أن تقييم المدرس الأول يتطلب من المدرس الأفضل أن يتنازل عن بعض ميزات المدرس من أجل أن يكون هو المدرس الأول.
لم يكن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه قادراً على أن يعبر لكمال الدين حسين عن هذا المعنى ولهذا فإن صدامهما المكتوم بدأ مُبكراً جداً.
ولم يكن الرئيس أنور السادات وهو يراقب الموقف قادراً على أن يعبر لكمال الدين حسين عن هذا المعنى، ولهذا فإنه غيّر حُكمه على كمال الدين حسين في مرحلة مُبكّرة فبعد أن كان يعتقد أنه هو الإنسان النبيل إذا به يكتشف (على حد قوله لخلصائه في مطلع الستينيات) أن كمال الدين حسين إنسان حقود وليس نبيلا كما تصوره.
ومن عجائب النفس البشرية أن الرئيس أنور السادات كان مُخطئاً في أحكامه على كمال الدين حسين رغم أنه يبدو مُصيباً فيها من وجهة النظر البشرية ، وكذلك كان الرئيس جمال عبد الناصر مُخطئاً فيما انطبع في ذهنه عن كمال الدين حسين وأدائه وكان عاجزاً عن أن يُعبر له عن معناه السيكولوجي الحقيقي ، لكننا حين نكتب هذه السطور ، وقد تجاوزنا سن نهاية الخدمة ، نستطيع الآن أن نقول بكلّ اطمئنان إن ذنب كمال الدين حسين لم يأت منه ولا من أنداده ولكنه أتى من نظام التكوين النفسي في الجيش المصري في ذلك الوقت ومن نظام التكوين في الشخصيات المصرية في الحياة المهنية ثم في الحياة العامة.
مقارنة بدايته ببداية الرئيس عبد الناصر

تخرّج كمال الدين حسين في الكلية الحربية في دفعة سبتمبر 1939 (وهي دفعة المشير الجمسي) أي بعد الرئيس جمال عبد الناصر بعام وشهر فقط بينما هو اصغر من الرئيس جمال عبد الناصر بثلاثة أعوام نصف، ولم يُتح لكمال الدين حسين فرصة مبكرة من فرص الصقل النفسي القاسي المرتبط بالتأمل ولا بمراجعة الحسابات على نحو ما أتيح للسادات في معتقله ومهربه ولا على نحو ما أتيح لعبد الناصر في حصاره في الفالوجا ولا في مراقبته من الأمن بسبب عضويته في الإخوان، وهكذا كان كمال الدين حسين ينطلق في خط مستقيم من دون التأهيل الكافي لفهم الخطوط المتعرّجة أو المتقاطعة ولا التأهيل الكافي لتربية سياسية متقدمة، ولا التأهيل الكافي لنضج فكري كفيل بالانتصار لمثالياته أو معتقداته، وحتى لا تكون هذه الأحكام مطلقة في الهواء الطلق كما يقولون فإنني سأقفز على الزمن لأناقش مع القارئ مجمل المواقف الكاشفة عن مشكلة كمال الدين حسين لا لتصوير موقفه أو حياته أو شخصيته أو سياساته أو صراعاته ولكن كيما يتعلم أصحاب المسئولية عن القرار الفكري والتربوي من نموذج بارز لما نرتكبه بحسن نية في حق شخصياته القيادية حين نهمل تزويدهم بالأسلحة التي يُمكن لهم أن يواجهوا بها الحياة المضطربة من أجل اختيار الأفضل للشعوب التي يقودونها أو يجلسون في مقعد قيادتها.
خلافه مع الرئيس عبد الناصر

أبدأ هذا الحديث المتشعب بداية مسرحية من الحوار بين عبد الناصر وكمال الدين حسين حين أقبل الرئيس جمال عبد الناصر بكلّ جوارحه على الآليات الشيوعية، وكان حريصاً على تطبيق كل بنودها الاقتصادية مع الاستتار خلف صياغات كفيلة بحمايته من التكفير والاتهام بالإلحاد الذي لم يكن هو نفسه يستطيع أن ينفي وجوده على رأس أفكار الشيوعيين..
نعرف أن الرئيس جمال عبد الناصر فيما يريد أن يُقنع به كوادره ومساعديه وزملاءه كان قد اختار “الشيوعية بدون الإلحاد”، وقد ساعده كمال الدين حسين نفسه على صياغة هذه الفكرة (في مناقشات الميثاق والرد على الميثاق) من دون أن يدري أنه كان يُساعد الرئيس جمال عبد الناصر على تقديم الشيوعية في صورة مقبولة للناس أي أنه يرتكب عملية خداع، بينما كان كمال الدين حسين يظن وهو يساعد عبد الناصر أنه يُقدّم شيئاً آخر غير الشيوعية بكلّ ما فيها من قسوة الضرب بحرمة المال والحياة الخاصة عرض الحائط.
انتهى التنظير الذي شارك فيه كمال الدين حسين بجهد لا يقلُّ عن جهد الرئيس جمال عبد الناصر بصدور الميثاق والرد على الميثاق معا، وبدأ الرئيس جمال عبد الناصر ينطلق في التأميم وما يُشبه التأميم وتوسيع قاعدة التأميم والنزول بالتأميم من أعلى إلى أسفل فإذا بكمال الدين حسين يكتشف أنه وقع ضحية الخداع الناصري وأنه مكّن للخداع الناصري وأنه أصبح مسئولاً أمام التاريخ عن هذا الخداع الناصري وهو رجل الثورة الذي كان قد أنيطت به كل مسئوليات الفكر في ذلك الوقت من جامعات ومدارس ومجالس ولجان ومؤتمر وطني وميثاق.. الخ.
من مفاخرهما التي لم يدركاها أن خلافهما كان خلافا فكريا

بدأ الحوار الساخن بين الرئيس جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين في مستويات عُليا غير تنفيذية (كمجلس الرئاسة) ووصل هذا الحوار إلى الجملة المشهورة التي صعقت الرئيس جمال عبد الناصر من كمال الدين حسين وهو يفاجئه بها حين قال له: يبقى في المشمش (كان هذا تعقيب كمال الدين حسين على رد الرئيس جمال عبد الناصر بأنه سيُؤمم حتى تلك المؤسسات التي نسميها الآن بالمؤسسات المتناهية في الصغر التي يقوم عليها فرد واحد).
أما الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يُمارس الرئاسة ويستفيد مما تُتيحه الرئاسة من اطلاع خاص على الحقائق الخفية فقد مارس سطوة فكرية من نوع متعال على كمال الدين حسين وهو يضعه أو يحصره في موضوع حرج بسؤال ذكي أو بالأحرى خبيث، يقول له فيه من هو الأحسن: عبود باشا أم لينين؟ ويكون رد كمال الدين حسين الكاشف عن سقف معرفته أن يقول للرئيس جمال عبد الناصر كأنك تُخيّرني بين الشيطان وإبليس.. هكذا فإن كمال الدين حسين أبان (من دون أن يدري) بهذا الرد على أنه لا يعرف قيمة ما يُمثله عبود باشا رغم كل مساوئه أيا ما كان حجمها ، فعبود باشا يُمثل مجموعة من أنبل أهداف ثورة 1952 نفسها لكن العجز الفكري جعل أصحاب هذه الثورة لا يعرفون الحقيقة بل يُحاربونها، عبود باشا يُمثل التصنيع والنجاح السامق و الشامخ فيه، عبود باشا يُمثّل الاستقلال الاقتصادي الوطني والنجاح الساحق والمستدام فيه، عبود باشا يُمثّل الجدية والدأب والبناء على كلّ نجاح سابق، عبود باشا يُمثّل النجاح المتعدي للتخصص والمتعدي للجنسية، عبود باشا يمثل مسئولية رأس المال تجاه المجتمع مهما كان مُقلاً في إسهاماته المجتمعية وهو لم يكن مُقلاً منها، عبود باشا يُمثّل روح المؤسسة، ويُمثل النموذج الوطني للنجاح في المؤسسة وفي المأسسة أيضا ، و المأسسة هي تحويل الأعمال إلى مؤسسة، عبود باشا يمثل القدرة على الاكتفاء الذاتي في صناعة أساسية، وفي الغذاء، عبود باشا يمثل الاستثمار في الصناعة والنقل و السياحة بعيداً عن الاستثمار المصري التقليدي والفقير في الزراعة، عبود باشا يُمثل توظيف المصارف والبنوك في التمويل والتشغيل، ومع أن عبود باشا يُمثل هذا كله فإنه ينجو من أخطاء لينين التي تتمثل في عبودية الانسان، وغياب الحق في الحياة، التي تتمثل في تدمير روابط الأسرة وروابط الأخلاق.
عبود باشا لم يكن رئيس دولة ولا زعيم ثورة حتى نقارنه بلينين، ولينين رغم كل نجاحاته لم يفلح في أن يكون رأس مؤسسة تعتمد على العقل والعمل ولا تعتمد على السلاح والقهر.
لم يكن كمال الدين حسين في زمنه وبثقافته وخبرته وتعبئته المعنوية قادراً على أن يقول هذا أو بعضا من هذا، ولهذا فقد كان طبيعيا أن يخرج من نظام الرئيس جمال عبد الناصر وأن يُصوّر الرئيس جمال عبد الناصر خروجه وخروج أمثاله على ذلك النحو المهين (والصحيح للأسف الشديد) من أن إطارات السيارة (الكاوتش) استهلك، ولا بد معه من إحلال إطار غيره محله.. ولم يدُر بخلَد الرئيس جمال عبد الناصر أن الموتور نفسه (الذي هو الرئيس جمال عبد الناصر نفسه) كان هو الأولى بالتغيير، حتى بنصف عمره على الأقل.
كان هذا هو خلاف كمال الدين حسين الأبرز و الأخير مع الرئيس جمال عبد الناصر وهو في السلطة (وقد وصل ذروته في مارس 1964 ) وتلاه الخلاف بعد الأخير الذي حدث حين كان كمال الدين حسين في خارج السلطة لكنه لم يستطع أن يكظم غيطه من افتراء الرئيس جمال عبد الناصر في قضية الإخوان المسلمين في أكتوبر 1965 ولهذا بعث إليه برسالته الشهيرة التي مطلعها “اتق الله” وكانت النتيجة أن الرئيس جمال عبد الناصر استجاب لهذه الرسالة لا بتقوى الله كما طلب منه كمال الدين حسين ولكن باتقاء هذا النمط العالي والجهير من المعارضة وذلك بتحديد إقامة كمال الدين حسين نفسه هو وزوجته في بيته بما يعني الحبس أو السجن المهذب.
قصة موقف رائع للعقاد عبر عن إيمانه العميق بدوره الفكري

من المعروف أن الأستاذ العقاد كان معاديا تماما للشيوعية وقد كلفه هذا العداء قبولا نفسيا (عن اقتناع) بالتنازل الواعي عن كثير مما يستحق من التقدير.
ومن المعروف أيضا أنه لم يكتب كلمة واحدة في تأييد الثورة ولا الترحيب بها ولا التهليل لها على نحو ما فعل طه حسين كما أنه لم ينخدع بعبد الناصر على نحو ما انخدع الاستاذان أحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم.
لكن التاريخ يذكر لنا بالإضافة إلى هذا موقفا رهيبا عبّر فيه العقاد عن رأيه من الشيوعية التي بدأ عبد الناصر يتجه إليها، وقد عبر عن هذا الرأي بقوة وحماسة في موقف غير مشهور لكن الأستاذ احمد حمروش أورده في ثنايا كتابه:
“وعندما قال كمال الدين حسين في مؤتمر الاتحاد القومي اشتراكيتنا هي “اشتراكية التمليك وليست اشتراكية المصادرة” وقف عباس محمود العقاد في وسط القاعة مصفقا بحرارة و هو الذي لم يكتب كلمة واحدة في تأييد الثورة”
رواية البغدادي

بفضل ما استعرضناه في كتابنا ” شهيد النزاهة الثورية ” فإننا نعرف الآن بوضوح أن من بين المناقشات الكثيرة التي حرص البغدادي على أن يسجلها في مذكراته تلك المناقشة المهمة التي ترينا بعض الاضطراب في فهم جمال عبدالناصر لديناميات الأوضاع الاقتصادية والفكر السياسي، وذلك فيما يرويه البغدادي عن حوار عبد الناصر مع كمال الدين حسين حيث يقول :
«ولقد قال جمال في سياق الحديث إنه متأثر بالفكر الماركسي ولكنه ليس شيوعيا، وإنه مؤمن بأن اشتراكيتنا لابد أن تتطور إلى ملكية الشعب لأدوات الإنتاج بدلاً مما هو وارد في الميثاق عن سيطرة الشعب على هذه الأدوات، وهذه كانت نقطة جديدة لم يسبق له أن أشار إليها من قبل.
و يعقب البغدادي متوجسا ولافتا النظر إلى ظهور أو تغلغل (أو استشراء) تيار جديد على فكر عبد الناصر وعبد الحكيم :
” وكنت لاحظت أن عبدالحكيم قد ذكرها قبل أن يقولها جمال، ولكنني لم أعر ذلك اهتماماً لعلمي أنه ـ أي حكيم ـ يخلط في تعريف مثل هذه الأمور، ولكن عندما ذكرها جمال سألته «هل هذا يسري علي جميع الوحدات الإنتاجية مهما صغر حجمها؟»، فأكد هذا وقال «طالما إن هذه الوحدة بها عمال ومهما قل عددهم، ولأنه في هذه الحالة سيصبح هناك استغلال الإنسان لأخيه الإنسان»،
ثم يروي البغدادي تفاصيل أهم مناقشة دارت حتى ذلك الحين بين هؤلاء الأقطاب ، وهي مناقشة دفعت مصر كلها ثمنها :
ضرب عبد الناصر مثلاً بخاله الذي توفي وكان يكسب ـ على حد قوله ـ ستمائة جنيه في الشهر الواحد من تشغيل ثلاثة لوريات.
وقال عبد الناصر: «وهو طبعاً كان قاعد في المكتب ومستأجر سواقين ويكسب من عرقهم»،.
وسأله كمال :«هل الميكانيكي الذي يملك ورشة صغيرة ويعمل عنده «اثنان» من الصبية ينطبق عليه نفس الحالة؟».
فأجابه جمال : «في تصوري أيوه، أو يشاركوه في الأرباح بنسب متساوية».
وجاء رد كمال عليه مفاجأة له ولنا جميعاً على السواء، وذلك بقوله «يبقي في المشمش» .
ويظهر أن المفاجأة في قول كمال عقدت لسان جمال، فنظر إليه باندهاش ولكنه لم يرد عليه.
وأراد عبدالحكيم أن يخفف من وقع ما قاله كمال فذكر أنه يقصد أن هذا سيحتاج إلي وقت طويل لتحقيقه!!.
ثم عاد كمال وقال : إن كل فرد أصبح غير مطمئن ، وفي قلق على مورد رزقه ويخشى أن يقطع عنه.
ورد عليه جمال بقوله : إنه لا يرفت أحداً وهناك لجنة خاصة للنظر في تظلمات من يصدر ضدهم قرار بالفصل من وظائفه

رواية حمروش عن مصارحة عبد الناصر لكمال الدين حسين
نأتي الى بقية قصة هذا الخلاف الجوهري وهي قصة بالغة الدلالة على ثلاثة أمور كلها مهمة لم يدركها كمال الدين حسين وهي: براجماتية عبد الناصر وذكاؤه ونواياه، ولهذا فإنه اندفع إلى قول عبارته الحاسمة التي وقف الأستاذ العقاد فصفق لها.
يروي الأستاذ احمد حمروش بقية القصة فيقول:
“وعاتب جمال عبد الناصر بعد ذلك كمال الدين حسين بسبب قوله في توصيفه للاشتراكية قائلا له: إننا لا نعرف ظروف المستقبل وما قد تدفعنا اليه، التطبيق قد يقتضي المصادرة.”
وهكذا يستطيع أي محلل للنصوص أن يكتشف ما حدث بعد ذلك بالفعل، وهو أن الرئيس عبد الناصر:
• كان ناويا
• وكان يهدد ولا يطمئن
• كما كان يتحوط ولا يقيد نفسه
أما كمال الدين حسين فكان في مثل هذا الموقف وغيره حسن النية والطوية معا فضلا عن أنه كان حريصا على الهوية .

تعبيره عن خلافهما في رسالته الشهيرة لعبد الحكيم عامر

نقرأ رسالة كمال الدين حسين إلى المشير عبد الحكيم عامر ورد المشير عبد الحكيم عامر عليه في تلك الفترة التي سبقت سقوط النظام في 1967، حيث نرى بوضوح أن كمال الدين حسين أبرأ ذمته أمام الله وأمام الشعب وإن كان الشعب لم يستفد حتى الآن من هذه التجربة، لكنه سيستفيد حتماً إن شاء الله وبخاصة بعد ما نراه من الحرص القاصر على تكرار التجربة الناصرية بحذافيرها ومصائبها.
الخلافان العلنيان الأولان مع الرئيس عبد الناصر

من الواجب الآن أن نطلع القارئ على جوهر أول خلافات الرئيس جمال عبد الناصر العلنية مع كمال الدين حسين وهما الخلافان اللذان دارا في مجلس الأمة في 1957 ووقف الرجلان فيهما موقفين مختلفين، سيجد القارئ أنني ناقشت هذين الخلافين بالتفصيل في أكثر من موضع ومن أكثر من زاوية، لكني أحب هنا في هذا السياق أن أشير إلى أهم ما في هذين الخلافين فيما يخص كمال الدين حسين نفسه.
فأما الخلاف الأول فيتعلق باجتماع كمال الدين حسين مع البغدادي على الاعتراض على الرئيس جمال عبد الناصر في قبوله التزييف الفكري في القول بأن أموال مديرية التحرير أموال خاصة وهي الفتوى أو الرأي الذي كان يُتيح تقنين التلاعب الذي أتمه مجدي حسين وعدد من أعضاء مجلس الأمة نفسه، وأما الخلاف الثاني فيتعلق برفض كمال الدين حسين الانصياع لرغبة المجلس في فتح باب الانتساب للجامعات على غير ما قرّره المجلس الأعلى للجامعات.
فأما في الخلاف الثاني فإني أرى كمال الدين حسين بكلّ حججه وأسانيده القانونية مخطئا تماماً ، لأنه وهو وزير التعليم في نظام ثورة لا بد أن يكون مع توسيع قاعدة التعليم لا مع تضييقها ، وأعتقد أنه لم ينتبه إلى أن هذا الخلاف قد جاءه بفرصة ذهبية لتنفيذ رغبة النواب شريطة أن يزودوه بالموازنات الكفيلة بتحقيق الهدف النبيل الذي يسعون إليه ، لكن كمال الدين حسين بحكم جمود عقليته أو قصور فكره كان كلاعب جاءته الكرة من أحد أفراد الفريق المنافس وهو أمام مرمى الفريق المنافس فأضاع الكرة مع أنه كان بوسعه أن يُحرز هدفاً ذهبيا في ثانية واحدة.
وبعد أن أضاع الهدف بدأ يتحدث عن أن الكرة جاءته من قدم منافس على غير ما تقضي به أصول اللعبة!!
أما الخلاف الأول فهو أكثر دلالة على درجة أخرى من درجات الجمود العقلي والقصور الفكري فقد كان في وسع البغدادي وكمال الدين حسين أن يُطورا المنافسة في اتجاه استصدار قانون بذا الاستثناء الذي صدرت بشأنه فتوى غذاها ونماها واستحلها واستحلاها وأحبها الرئيس عبد الناصر نفسه، وعندئذ فإنهم يحققون ثلاثة مكاسب أولها العقاب الأدبي لهؤلاء الذين تجاوزوا القانون و ثانيها توكيد سلطة البرلمان، ثالثها فتح الباب لتقنين مسارات ذكية للأنشطة ذات الطبيعة الخاصة بما لا ينتهك القانون العام وبما لا يترك النشاط ذا الطبيعة الخاصة بعيداً عن سلطة القانون.
ومرة أخرى فإنني لا بد أن أعترف أنني أكتب هذا بعدما تجاوزت سن التقاعد وبعدما أتاحته لي الحياة العميقة الواسعة الطويلة من خبرات لم يصل إليها من أنتقدهم، لكن نقص الخبرة لا يُعفي هؤلاء الثوار من اللوم القاسي، فقد كانت مستودعات الخبرة تحيط بهم من كل جانب ولا تتأخر عنهم في أيّ مسألة.
الحقيقة في محور كمال الدين حسين و البغدادي
لم تكن العلاقات المبكرة بين الثوار تنبئ عن هذا التقارب الشديد الذي حدث بين البغدادي وكمال الدين حسين ، و إنما بدأ هذا التقارب منذ بدأ كلاهما ينفض يده من التعويل على الأمل في مثالية الرئيس جمال عبد الناصر ، لكن سلوك الرجلين والتزامهما الخلقي (بقدر الإمكان) وحرصهما على طهارة اليد (بقدر الإمكان) فضلاً عما حققاه من نجاح وثقة مع النفس واحترام المدنيين كل أولئك جعلهما من طبقة واحدة تفوق في قبولها عند الجماهير صمت زكريا محيي الدين مع غموضه، وصمت الشافعي مع دروشته وهكذا كان من الطبيعي أن ينضم حسن إبراهيم إليهما باعتبارهما النموذج الأفضل بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حين تفرقت السبل ، وأصبح سبيلهما هو فيما يبدو هو الطريق القويم، وقد زاد الاقتناع بأن هذا هو الطريق القويم عندما انضم هو نفسه (أي حسن إبراهيم) إلى هذا الطريق. وفيما بعد فإنه يبدو أن زكريا محيي الدين كان يُفكر في أن ينضم إلى هذا الطريق القويم، أما حسين الشافعي فإنه لم يفكر أبداً في هذا الطريق، وأما جمال سالم فكان المرض أقوى من أن يجعله يفكر، وأما صلاح سالم فكان الموت قد استأثر به.
لماذا فرط الرئيس عبد الناصر في فرصة وجود هذه المعارضة المؤتمنة

وهنا يبدو التاريخ و كأنه قد قرر أن يسخر بكلّ شدة من نظام ثورة 23 يوليو ذلك أن الاختلاف بين الرئيس جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين كان نموذجاً جميلاً وفذاً للاختلاف الفكري الذي يُشرّف كلّ ثورة وكل سلطة، والسبب الواضح والجلىّ أن محور هذا الخلاف كان من النوع الفكري الراقي فقد كان الخلاف يرتبط بمدى الحاجة إلى إجراءات شيوعية أو اشتراكية ، وعلى حين كان يرى الرئيس جمال عبد الناصر هذه الحاجة حتمية حتى وإن كانت بالتدرج ، فقد كان كمال الدين حسين يُنكر كل ما يتعارض مع ما أمر به الدين الإسلامي وكل الأديان من احترام حقوق الملكية.
قلنا إن هذا الاختلاف الفكري بين رؤيتين كان كفيلا بأن يُشرف الثورة ويُشرّف الرجلين في أيّ نظام يحترم الفكر ويحترم السياسة، ومع هذا الوضوح فإن العجيب في الأمر أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن يُريد لهذه الحقيقة أن تظهر، لسبب أهم بكثير من الحقيقة المشرفة ، فقد كان هو نفسه حريصاً على أن يمارس الإجراءات الشيوعية والاشتراكية على أنها ناصرية وليست شيوعية ولا اشتراكية ، كما كان حريصاً في المحل الثاني على أن لا يبدو معارضاً للدين ولا لتعاليم الدين، وهكذا كان لا بد لصورة الخلاف مع كمال الدين حسين أن تُشوّه تماماً في ذاكرة الأمة وهو ما تكفّل به الإعلام الناصري الذي كان الشيوعيون قد تسلّموا أمره كله بعد خروج كمال الدين حسين من السلطة بعام أو اكثر من عام.
تجربته المبكرة مع معارضة المدفعية للثورة في ١٩٥٣

قبل خمسة وعشرين عاماً من معارضة كمال الدين حسين العلنية للسادات ، وقبل خمسة عشر عاماً من معارضة كمال الدين حسين المكبوتة لعبد الناصر ، كان السلاح الذي ينتمي إليه كمال الدين حسين (وهو سلاح المدفعية )أول سلاح يشُقُّ عصا الطاعة على الرئيس جمال عبد الناصر وجماعته المحدودة، وقد كان التبرير الذي يقدمه هؤلاء لشق عصا الطاعة منطقيا كما أنه لم يكن يعدو أن يكون مثاليا و أخلاقياً في جوهره ، وعلى الرغم من أن هذا السلاح قدم كثيرين ليلة 23 يوليو وما قبلها فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان يبحث بين أنداده من رجال هذا السلاح من يتولّى تمثيل السلاح متخطياً كمال الدين حسين لأنه كان يتحسّب لكمال الدين حسين على نحو ما كان يتحسّب لخالد محيي الدين، وعلى حين وجد الرئيس جمال عبد الناصر البكباشي حسين الشافعي في سلاح الفرسان فإنه لم يجد بكباشياً مماثلاً في سلاح المدفعية، اللهم إلا عبد المنعم أمين الذي كانت شخصيته واتصالاته وعلاقاته أكبر وأعرض من أن يحتويها سلاح المدفعية.
ويبدو لي أن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد خطّط لأن يفكر في أن يتبوأ محمد فوزي مثل هذا المكانة لكن محمد فوزي تراجع عن الخروج في ليلة 23 يوليو 1952، هكذا خسر ما كان الرئيس جمال عبد الناصر كفيلاً له به من عضوية مجلس قيادة الثورة لكنه في الوقت ذاته وعلى المدى الطويل كسب الثقة المطلقة في بعده عن التمرّد على وجه العموم ، ومن ثم فقد احتفظ به الرئيس جمال عبد الناصر في مواقع متقدمة من قيادة القوات المسلحة تاليا مباشرة للمشير عبد الحكيم عامر فلما عزل المشير عبد الحكيم عامر ولاه مباشرة مسئولية القائد العام للقوات المسلحة ليكون ثالث قائد عام في عهد الثورة بعد محمد نجيب (1952 ـ 1953) والمشير عبد الحكيم عامر (1953 ـ 1967).
كانت المكانة المبكرة التي حققها كمال الدين حسين في سياقها الطبيعي لكن الرئيس جمال عبد الناصر كان يخشاه على نحو ما كان يخشى زميلهما خالد محيي الدين ممثل سلاح لفرسان في هذا الثلاثي الذي يُمكن اعتباره نواة الثورة الصلبة حتى من قبل من كان من الطبيعي أن ينضموا للنواة من قبيل المشير عبد الحكيم عامر والرئيس أنور السادات وصلاح سالم.
نجاح عبد الناصر في تأخير مكانة كمال الدين حسين بين زملائه

أعود من هذه المناقشات إلى الحديث عن آليات الرئيس جمال عبد الناصر في التعامل مع كمال الدين حسين، ومن الطريف أن الرئيس جمال عبد الناصر كان من الدهاء بحيث اكتشف مبكراً الطبيعة البازغة في خلافات كمال الدين حسين الفعلية معه، وبدأ يحتاط لها احتياطات ذكية جمة، على الرغم من مساحات النفوذ التي استطاع كمال الدين حسين أن يستولي عليها بكفاءته ونشاطه في بداية عهد الثورة وذلك من قبيل أنه كان هو وليس غيره أمين مجلس الثورة الذي يكتب محاضر الجلسات ويحتفظ بها وهي سلطة لو تعلمون عظيمة في مثل هذه الأحوال.
كذلك فإنه استطاع أن يدخل إلى الوزارة عضواً عاملاً ريثما أتيحت له الفرصة وقد قبل بوزارة الشئون الاجتماعية فلما خلت وزارة المعارف قفز إليها أو التقطها.. وهكذا.
ولهذا فإن الرئيس جمال عبد الناصر بذكاء الداهية عمد في 195٦ إلى أن يضع تقليداً جديداً يؤخر به ترتيب كمال الدين حسين عن أن يكون قريبا منه وذلك بأن جعل ترتيب أعضاء مجلس قيادة الثورة في الوزارة يسبق الوزراء، خلافاً لأي بروتوكول وأن يجعل ترتيبهم فيما بينهم تبعاً لترتيب أقدمياتهم في مجلس قيادة الثورة، ولم يكن لهذا الترتيب معنى تطبيقي إلا أن يسبق حسين الشافعي وعبد الحكيم عامر كمال الدين حسين الذي سبقهما إلى تولى الوزارة ، مع أن حسين الشافعي دخل الوزارة ليخلف كمال الدين حسين في وزارة الشئون الاجتماعية حين انتقل هو إلى المعارف، ومع أن عبد الحكيم لم يدخل الوزارة إلا بعد كمال الدين حسين بثمانية أشهر ، وهكذا تأخر ترتيب كمال الدين حسين ليكون تاليا أيضاً للرئيس السادات لو أن الرئيس السادات دخل الوزارة مرة أخرى مع أن الرئيس السادات لم يدخل الوزارة إلا بعد كمال الدين حسين بثمانية أشهر.
وبهذا أصبح كمال الدين حسين آخر أعضاء مجلس الثورة الخمسة الذين كانوا يومها أعضاء في مجلس الوزراء بعد عبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي.
نشأته وتخرجه

ولد كمال الدين حسين في كفر منافر بمحافظة القليوبية في الثاني من يونيو عام واحد وعشرين (1921)، وكان بهذا ثاني أصغر أعضاء مجلس قيادة الثورة سناً (أما أصغرهم فكان خالد محي الدين)، وتخرج في الكلية الحربية (نوفمبر 1939) وهو في الثامنة عشرة، و كان المشيران محمد عبد الغني الجمسي ومحمد علي فهمي من زملاء دفعته، وكانت دفعتهم هي الدفعة التالية لدفعة المشير عبد الحكيم عامر والفريق أول محمد أحمد صادق.
صعوده واستقالته من أجل فلسطين

أتيح لكمال الدين حسين أن يشترك في الحرب العالمية الثانية في وحدة مدفعية ميدان بالصحراء الغربية، وأهله أداؤه المتميز في القوات المسلحة لأن ينال شهادة معلم مدفعية من بريطانيا (1946)، وقد عين مدرساً في مدرسة المدفعية.
وفي مايو 1948 كان كمال الدين حسين من الذين استقالوا من القوات المسلحة طواعية لينضموا إلي الضباط المتطوعين في حرب فلسطين، وفي هذه الحرب عمل كمال الدين حسين تحت قيادة البطل أحمد عبد العزيز وقريباً منه، وربما كان من أقرب الناس إليه حين استشهاده، وأصيب في معركة «دير البلح» .
وبعد عودته من الحرب درس كمال الدين حسين في كلية أركان الحرب ونال شهادتها (1949) فعين أركان حرب مدفعية لإحدى الفرق ثم نقل مدرساً بكلية أركان الحرب نفسها.
أسبقيته في تنظيم الضباط الأحرار

كان كمال الدين حسين من طلائع الضباط الأحرار، وقد ذكرت مصادر كثيرة أنه كان مع الرئيس عبد الناصر وخالد محيي الدين بمثابة النواة الأولي لتنظيم الضباط الأحرار الذي كانت له اليد الطولي في حركة الجيش في 23 يوليو 1952، وقد اختير عقب قيام الثورة عضواً في مجلس قيادة الثورة، وكان يقوم بأعمال أمانة المجلس، حيث يتولى تسجيل المحاضر وما يتفق عليه في الاجتماعات المحدودة العدد التي كانت مقصورة بالطبع على أعضاء مجلس القيادة.
مسؤولياته التنفيذية

كان كمال الدين حسين مسئولاً عن الإشراف على الحرس الوطني في بداية عهد الثورة.
وفي يناير 1954 أصبح كمال الدين حسين سادس زملائه أعضاء مجلس القيادة دخولاً لمجلس الوزراء، بعد كل من الرئيس عبد الناصر وعبد اللطيف البغدادي وصلاح سالم (يوليو 1953) وجمال سالم وزكريا محيي الدين (أكتوبر 1953) حيث عين (وهو لايزال في رتبة الصاغ) في أثناء وزارة الرئيس نجيب الثانية وزيراً للشئون الاجتماعية خلفاً للدكتور عباس عمار الذي تولي وزارة المعارف بعدما استقال إسماعيل القباني.
وحين شكل الرئيس عبد الناصر في الشهر التالي وزارته الأولي (فبراير 1954) احتفظ كمال الدين حسين بمنصب وزير الشئون الاجتماعية، وكذلك احتفظ بهذا المنصب في الشهرين التاليين في وزارة الرئيس نجيب الثالثة (مارس 1954) والرئيس عبد الناصر الثانية (إبريل 1954) .
وهكذا فإنه أقسم اليمين الدستورية أربع مرات في أربعة أشهر متوالية بواقع مرة في كل شهر من الأشهر الأربعة الأولى في ١٩٥٤.
ويذكر المعاصرون لهذه الفترة أن عين كمال الدين حسين كانت دائما على وزارة المعارف التي تولاها بالفعل في أغسطس 1954 عندما أجري تعديل في وزارة الرئيس عبد الناصر، وبعد أسبوع من توليه الوزارة تغير اسمها إلى التربية والتعليم.
واحتفظ كمال الدين حسين بهذه الوزارة أيضا عندما شكل الرئيس عبد الناصر وزارته الثالثة بعد انتخابه رئيسا للجمهورية (يونيو 1956).
وقد احتفظ كمال الدين حسين بهذا المنصب في وزارة الوحدة الأولي (مارس 1958) (ولم يكن معه وزراء أخرون لها).
لكنه في أكتوبر 1958 عندما تشكلت ثاني وزارات الوحدة أصبح وزيرا مركزياً للتربية والتعليم بينما اختير الأستاذ أحمد نجيب هاشم وزيراً تنفيذياً للتربية والتعليم في مصر.
رئاسته للمجلس التنفيذي و حصوله على منصب نائب رئيس الجمهورية

ظل كمال الدين حسين كوزير مركزي للتربية والتعليم طوال سنتين حتى سبتمبر 1960 حيث تم تصعيده في محورين:
ففي 11 سبتمبر 1960 عين كمال الدين حسين وزيراً للإدارة المحلية وعين معه 21 محافظاً جديداً لمحافظات الجمهورية المختلفة وبدأ من يومها نظام الحكم المحلي (أو الإدارة المحلية) في مصر.
وبعدها بتسعة أيام في 20 سبتمبر 1960 صدر القرار الجمهوري بأن يترأس كمال الدين حسين المجلس التنفيذي في الإقليم المصري، ولم تحدث تغيرات كثيرة في الوزارة عما كانت عليه في تشكيلها السابق في مصر، وإن حدثت بعض التغييرات في المجلس التنفيذي في سوريا، وقد بقي كمال الدين حسين متوليا مسئولية وزارة التربية والتعليم المركزية، وكذلك بقي الأستاذ أحمد نجيب هاشم وزيرا تنفيذياً بالتربية والتعليم.
وفي 16 أغسطس 1961 شكل الرئيس عبد الناصر رابع وزارات الوحدة (وهي سابع وزارات عبد الناصر حسب ترتيبنا الذي تم الأخذ به رسميا و تاريخيا ) وتضمن التعديل تعيين 7 نواب لرئيس الجمهورية، كان كمال الدين حسين سادسهم (كانوا علي الترتيب : بغدادي، عبد الحكيم عامر، نور الدين كحالة ، زكريا محيي الدين، حسين الشافعي، كمال الدين حسين، عبد الحميد السراج)، وقد أصبح مسمى منصب كمال الدين حسين في هذه الوزارة نائب رئيس الجمهورية للإدارة المحلية فحسب دون أن يتولى أي وزارة، أما وزير الإدارة المحلية في هذه الوزارة فكان عبد المحسن أبو النور، وبالإضافة إلي هذا فقد توزعت مهام وزارة التربية والتعليم التي كان يتولاها كمال الدين حسين علي ثلاث وزارات، فأصبح الناقد السوري الدكتور أمجد الطرابلسي وزيراً للتعليم العالي، والسيد يوسف وزيراً للتربية والتعليم، وصلاح هدايت وزيراً للبحث العلمي، فضلاً عن نقل قطاعات أخري إلي وزارة جديدة للشباب.
توليه وزارتي الإسكان والإدارة المحلية

وعقب الانفصال شكل الرئيس عبد الناصر وزارته الثامنة (أكتوبر 1961 – سبتمبر 1962) وضمت الوزارة خمسة نواب مصريين لرئيس الجمهورية (وذلك بعد خروج النائبين السوريين بالانفصال) كان كمال الدين حسين خامسهم، وقد كان مسمي منصبه نائب رئيس الجمهورية للخدمات ووزير الإدارة المحلية والإسكان والمرافق، أي أنه تولي وزارتين كانت إحداهما جديدة لتوها بعدما كان قد ترك المسئولية عن الوزارات وهكذا عاد إلي تولي وزارة الإدارة المحلية التي كان قد (أسسها) قبل أربعين يوما!! كذلك كان هذا أول عهده بوزارة الإسكان التي يُعد بمثابة مؤسسها!! (وقد عين الدكتور أحمد محرم بعد شهور في 20 ابريل 1962نائبا لوزير الاسكان والمرافق)، بينما بقي كمال الدين حسين يتولى بمفرده منصب الإدارة المحلية، على حين تولي عبد المحسن أبو النور وزيرها السابق منصب وزير الإصلاح الزراعي وإصلاح الأراضي). وقد بقي الوضع على هذا النحو حتى شكل علي صبري المجلس التنفيذي (وزارته الأولي) في سبتمبر 1962 وترك أعضاء مجلس قيادة الثورة عضوية الوزارة.
وكان هذا آخر عهد كمال الدين حسين بالمناصب الوزارية التي استمر فيها بلا انقطاع منذ يناير ١٩٥٤ وبدأ كمال الدين حسين في الابتعاد عن مسئوليات الحكم المباشرة أو اليومية، وإن بقي عضواً فيما سمي بمجلس الرياسة، واشترك في مناقشات ذلك المجلس الهادئة والعاصفة على حد سواء.
إشرافه على المؤتمر القومي للقوي الشعبية

وعلي مستوي تنظيمات الثورة السياسية كان كمال الدين حسين منافسا قويا للرئيس السادات وحسين الشافعي وعلي صبري في المسئولية عن التنظيم السياسي الوحيد للثورة، وفي أكتوبر 1959 تولي كمال الدين حسين الإشراف علي الاتحاد القومي في الإقليم المصري أي أنه أصبح بمثابة الشخصية الحزبية الأولي في النظام السياسي المصري.
وفي مايو 1962 اختير كمال الدين حسين أميناً عاماً للمؤتمر الوطني للقوي الشعبية، وهو المؤتمر الكبير الذي قدم الرئيس عبد الناصر إليه ميثاق العمل الوطني وهو ما انتهي بتقديم الميثاق، وتقرير الرد على الميثاق معا.
ولما تشكل الاتحاد الاشتراكي العربي اختير عضواً في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي.
لكنه مع هذا كان قد بدأ يتباعد عن خط الرئيس عبد الناصر و بخاصة عندما بدأ الرئيس عبد الناصر خطوات واسعة في السياسات الاشتراكية بادئا بالتأميم. وأخذت مظاهر الاختلافات الفكرية الطبيعية بينه وبين الرئيس عبد الناصر في الظهور والتنامي بحكم طبائع الأشياء، وقد زاد معدل الخلافات مع الأيام، بعد أن بدا للمراقبين أن هذه الخلافات القديمة قد هدأت.
نقيب المعلمين و رئيس المجلس الأعلى للجامعات

وقد امتد نفوذ كمال الدين حسين في حقل التعليم بصورة قوية، وتمادي كمال الدين حسين في هذا حين رشح نفسه لمنصب نقيب المعلمين (مارس 1961) وفاز بهذا المنصب واحتفظ به حتى 1963.
كان كمال الدين حسين حريصا على إثبات وجوده في الحياة الثقافية والتربوية بدرجة كبيرة، وقد ساعدته على النجاح عدة عوامل منها شبابه وإنجازه ومنحه ثقته لكثير من الكفاءات التي تقبلت العمل معه من أجل المشروع القومي الكبير.
كذلك فقد امتدت سلطاته في الجامعات على سبيل المثال حتى أصبح رئيسا للمجلس الأعلى للجامعات بحكم منصبه كوزير، بينما كان هذا المنصب من قبل منوطا بأقدم رؤساء الجامعات..
وقد ظل كمال الدين حسين يتولى اختصاصات التعليم العالي كلها بحكم كونه وزيرا للتربية والتعليم (الذي لم تنشأ وزارته إلا في أغسطس 1961)
وكان كمال الدين حسين هو الذي تولى تنظيم احتفاليات عيد العلم وما شابهها، وهكذا.
وفي سبتمبر 1960 تولي رئاسة أول مركز للبحوث التربوية والنفسية وهو مؤسسه ، و أول رؤسائه على الرغم من نسبته لآخرين .
دوره في تطوير الأزهر

وإلي كمال الدين حسين يرجع جزء كبير من الفضل في فكرة وقانون تطوير الأزهر وتحويل الجامعة القديمة إلى جامعة حديثة تضم الكليات العملية كالطب والهندسة بهدف تخريج دعاة يجمعون بين العلم الحديث والثقافة الدينية!! وهي الفكرة التي تنسب إلى الرئيس عبد الناصر أو إلى غيره بينما كانت هي فكرة كمال الدين حسين وهو الذي رعاها على المستوى التشريعي والتخطيطي والتنفيذي.
رئاسته لمؤسسات ثقافية و رياضية وشبابية
بالإضافة إلى هذا كله فقد ترأس كمال الدين حسين المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية منذ تأسيسه (ديسمبر 1958) وترأس مؤتمر الشباب الأفروآسيوي (فبراير 1959)، وفي يناير 1960 ترأس اللجنة الأولمبية المصرية، وفي 1961 أشرف علي المؤتمر الاسلامي.
ومع ذلك فقد أثبتت الأيام بعد مرور الزمن أنه كان من السهل على كثير من المثقفين أن ينسبوا إليه السبب في كثير من أخطاء الثورة، أو الرعونة في سياساتها، ومدي ما نشأ عن قصور النظر وقلة الخبرة من مصائب كثيرة حاقت بالتربية والتعليم، بحكم طبيعة التحمس.

اعتزاله في ١٩٦٤

اعتزل كمال الدين حسين الحياة السياسية (في 1964) حيث قدم استقالته النهائية للرئيس عبد الناصر مع زميليه عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم، وبدءا من إعادة تشكيل المناصب العليا في مارس 1964 اختفي اسم كمال الدين حسين نهائيا من مناصب نواب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء… إلخ.
وقد بقي من دوره الفكري بعد تلك الفترة مضمون الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه عبد الحكيم عامر حول ما كان يأخذه على نظام الرئيس عبد الناصر وتصرفاته، وبلغت هذه الرسائل التي نشرت فيما بعد درجة عالية من الحدة في الهجوم، ومن الإنصاف أن نقول إنه في هذه الرسائل وما تلاها من نشاطه في 1967 ثم 1972 ثم 1976 وما بعدها ظل علي الدوام وفيا لتوجهاته القومية والإسلامية والثورية معا ، معتداً بآرائه وبنشاطه وتاريخه وشخصيته .

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com