قصة المشير الصعيدي في دمشق

كنت ، و لا أزال ، أري أن أهم ما يمكنه أن يعبر عن حياة المشير عبد الحكيم عامر بلغة المسرح وعلى خشبة المسرح لابد أن يكون هو أهم ملمح في حياته المسرحية إن جاز هذا التعبير في سياق الحديث عن سيرة حياة سياسي وعسكري بارز ، وهذا الملمح في حياة المشير عبد الحكيم عامر ليس هو 5 يونيو، ولا يوم تصفيته، ولا يوم 29 أكتوبر 1956، ولا يوم 23 يوليو 1952، وبالطبع فإنه ليس يوم زواجه الأول ولا الثاني، وإنما هو بلا جدال يوم الانفصال السوري عن مصر في سبتمبر 1961، ففي ذلك اليوم وما سبقه على مدى ثلاث سنوات ونصف تتبلور أكثر الأحداث المسرحية إلهامًا وتعبيرًا. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في نهاية مدونتنا: ” المشير عبد الحكيم عامر في مئويته: الوجه الآخر”
مبرراتي لهذا الاختيار كثيرة، وسوف نتناولها بأقصى ما يمكن لنا من التركيز و الشمول لكننا نبدأها بقصة طريفة حدثت عندما حدث الانفصال و بدأ حشد المصريين بطريقة محمومة إلى بيت وقصر الرئيس عبد الناصر لإظهار التأييد المصري في مواجهة التمرد والانقلاب و الانفصال السوري ، والتقى علي شفيق مدير مكتب المشير بصلاح سالم رفيق حياة المشير الذي كان قد أبعد عن السلطة والنفود و اكتفوا له بمنصب المسئول الأول في جريدة الجمهورية و سأل على شفيق صلاح سالم عن هذه الحشود فما كان من صلاح سالم المعروف بحدة لسانه وسرعة بديهته إلا أن أجابه أنهم ذاهبون ليباركوا للمشير على الانفصال .

دوره الحماسي في إتمام الوحدة

كان للمشير عبد الحكيم عامر دور كبير في الدفع بالرئيس عبد الناصر وبمصر إلى القبول بالوحدة مع سوريا. وليس سرًا أن كل أعضاء الصف الأول، الذي كان منه الرئيس عبد الناصر لم يكونوا موافقين على الوحدة، إلا المشير عبد الحكيم عامر.
صحيح أن الرئيس عبد الناصر في ذلك الوقت كان بمثابة الحاكم الفرد، لأن مجلس قيادة الثورة كان قد حُل منذ سنة وبضعة شهور (مع إعلان الرئيس عبد الناصر رئيسًا للجمهورية وإعلان الدستور)، لكن أعضاءه كانوا لا يزالون مؤثرين بمواقعهم الوزارية والتشريعية (كان البغدادي رئيسًا للبرلمان، وأنور السادات وكيلًا للبرلمان، وكان صلاح سالم رغم بعده عن المناصب الوزارية يتولى مهام الصحافة بكل ما فيها من نفوذ).
وكان الذين ألحوا في عقد الوحدة أو إبرامها هم قادة الجيش السوري، ومن ثم فقد كان تعضيد المشير عبد الحكيم عامر لهم ولرغبتهم بمثابة قوة لهم وله، وبمثابة تقوية وتعزيز لشعور الرئيس عبد الناصر الخفي والخطر بأنه أصبح أكبر من مصر.
وهكذا انعقدت الوحدة وأعلنت.
وهذا ما يورده عبد اللطيف البغدادي في رواية متأخرة، في حديثه لمجلة نصف الدنيا (1996)، حيث يذكر أن المشير عبد الحكيم عامر كان الوحيد الذي تحمس للوحدة الذي رفضها الآخرون:
«نعم.. ولكن السوريين كانوا متعجلين ويريدون وحدة اندماجية، بالإضافة إلى أن عفيف البزري المعروف بميوله الشيوعية كان يعلم رفض الرئيس عبد الناصر للوحدة الفورية، لهذا السبب تمسك بها، ولكن الرئيس عبد الناصر وافق عليها رغبة منه في أن يفوت على الشيوعيين السوريين الفرصة، وعندما عرض الرئيس عبد الناصر علينا فكرة الوحدة الاندماجية رفضناها فيما عدا المشير عبد الحكيم عامر الذي كان متحمسا لها».
«ورأى الرئيس عبد الناصر أن قيام اتحاد فيدرالي لن يوفر له السيطرة الكاملة على عكس الوحدة التي ستحقق له ذلك، وبالفعل أعلن ميلاد دولة الوحدة الجديدة».
نال ترقيتين بمناسبة الوحدة
صادف إعلان الوحدة أن نال المشير عبد الحكيم عامر وضعًا إضافيًا في رتبته العسكرية، ووضعًا إضافيًا في ترتيبه بين زملائه من الضباط الأحرار.
وهكذا كانت الوحدة (أو إعلان دولة الوحدة) بمثابة قدم السعد على عبد الحكيم.
ولما تشكلت وزارة الوحدة الثانية في أكتوبر 1958 تأكد هذا المعنى بأكثر من صورة، ومنها أن الفرصة أتيحت لرجال المشير عبد الحكيم عامر المقربين منه لينالوا مناصب وزارية بحكم زيادة عدد الوزارات ووجود منصب الوزير المركزي، والوزير التنفيذي… إلخ.
وكان من هؤلاء على سبيل المثال: عباس رضوان، الذي سرعان ما أصبح وزيرًا للداخلية، لتنضم الداخلية لسيطرة المشير، بعيدًا عن زكريا محيي الدين، الذي أصبح وزيرًا مركزيًا بالإضافة إلى منصبه كنائب الرئيس.. ومحمد محمد توفيق عبد الفتاح… إلخ.

سرطان الوحدة : شوفونية المصريين

منذ بدأت الوحدة صاحبها مرضها السرطاني الذي سرعان ما استشرى، فقد فرضت الشوفونية المصرية نفسها على المصريين، فتصوروا أن من حقهم أن يحكموا سوريا، لا كشقيقة لمصر وإنما كتابعة لمصر، وهكذا عرض الرئيس عبد الناصر على البغدادي وعامر وربما آخرين أن يكونوا في هذا الموقع الذي لم يظهر له اسم رسمي، لكنه كان موجودًا في عقلية عبد الناصر، وهو منصب نائب الرئيس عبد الناصر وممثله في سوريا.
ومع أن أكرم الحوراني وصبري العسلي ثم عبد الحميد السراج ونور الدين كحالة تولوا منصب نائب رئيس الجمهورية في أثناء الوحدة، بما كان يمكنهم من أداء مثل هذه المهمة، فإن الرئيس عبد الناصر تصور هذه المسئولية لا بد أن تكون لمصري من زملائه.
وهكذا أسندت هذه المهمة إلى المشير عبد الحكيم عامر، ثم انقطع المشير عبد الحكيم عامر عن الشأن السوري ستة شهور، ثم عاد إليه وبقي مسئولًا، حتى حدث الانفصال من داخل مكتبه هو.

نظرية القاهرة والمقهورة

حين كنت عضوًا في مجلس إدارة الشركة القابضة للأدوية كنا نتدارس فكرة دمج شركتي القاهرة للأدوية والعربية للأدوية في شركة واحدة.. كانت طبيعة الدمج العالمي في ذلك الوقت قد سارت على سنة الاحتفاظ باسمي الشركتين معًا، وهكذا كان من الممكن أن يكون الاسم الجديد هو «القاهرة العربية»! لكن أحد الأعضاء وجه إليّ نظره وقال: حاول أن تفيدنا بلغتك كما تفعل مع الناس! وللتو قلت له إن شركة القاهرة إذا كما قورنت بالعربية كبيرة جدا، وهكذا فإن الشراكة ستكون بين القاهرة والمقهورة.
بعيدًا عن ضحكات أعضاء مجلس الإدارة الذين سمعوا هذه القصة، فقد أحس السوريون في أثناء الوحدة مع مصر أن عاصمة الإقليم الشمالي هي المقهورة، في مقابل عاصمة الإقليم الجنوبي، التي هي القاهرة، وبذلك اختفت كلمات مصر وسوريا.. ودمشق أيضًا.

الوحدة مع سوريا كانت بمثابة قمة المجد الناصري والعامري

كانت الوحدة مع سوريا بمثابة قمة المجد الناصري، فلم يصل الرئيس عبد الناصر بعدها إلى أي مجد يضاهيها أو حتى يضاهي عشر هذا المجد، وكذلك كانت نهايتها المفاجئة أفظع الانهزامات الناصرية، وإن كانت نتائج هزيمة 1967 قد جاءت لتزيحها بكل قوة عن هذه المكانة.
أما بالنسبة للمشير عبد الحكيم عامر فقد كانت الوحدة بداية علاقته بالدنيا الجميلة، وكانت نهايتها نهاية لعلاقته مع عبد الناصر، بحيث يمكن لك أن تقول إن الانفصال حدث وحدث معه انفصال الرجلين البات، ولا نقول انفصالهما النهائي فحسب!

سوريا أحدثت أبرز ثلاث تحولات في شخصية المشير

مثلت التجربة السورية في حياة المشير عبد الحكيم عامر أبرز ثلاثة تحولات في شخصيته الناضجة أو الماضية إلى النضج، وربما لم يكتب أحد عن هذا المعنى لأن أحدًا لم يتصوره على هذا النحو المتكامل، ولم يكن السبب في ذلك عجزًا في الإدراك، ولكن لأن التفصيلات المتاحة كانت تشد الدارس أو القارئ بعيدًا عن حزمة التغيرات النفسية والشخصية التي حدثت للمشير عبد الحكيم عامر بسبب سوريا.
وأول هذه التغيرات هو التغير أو التطور أو التقدم أو الارتقاء في الفهم الأيديولوجي. وقد كنت حريصًا على ذكر المفردات الأربعة بهذا الترتيب عن عمد.
فبحكم مناقشات المشير عبد الحكيم عامر مع الشعب وغير الشعب وأعداء الشعب، فهم المشير عبد الحكيم عامر على الأرض أو على الطبيعة المعنى التطبيقي للشعارات التي رددها هو وغيره من الضباط المصريين دون استيعاب.
وعلى سبيل المثال البسيط، فقد أحاط بقضية ترتيب الحرية والوحدة وأيهما يسبق الآخر، فضلًا عن فهمه للرأسمالية والبرجوازية.. إلخ.
ومن المؤكد أن نصيب الرئيس عبد الناصر نفسه من مثل هذا التغير كان شبيهًا بما حدث لعبد الحكيم، لكن الذين يؤلهون الرئيس عبد الناصر يظنونه كان يعرف، مع أن هذا غير صحيح، ولو كان يعرف ما غرق على هذا النحو الذي غرق به مرة واثنتين وثلاثا.
ثاني هذه التغيرات هو التغير في الفهم البيروقراطي، فقد كانت تجربة سوريا (في حقيقة الأمر)، هي أول تجربة حقيقية للمشير عبد الحكيم عامر في التعامل مع الحياة المدنية وما يرتبط بها من بيروقراطية، ومن المؤسف أن المشير عبد الحكيم عامر كان آخر زملاءه ارتباطًا بهذه البيروقراطية وتعاملًا معها، فقد سبقه زملاؤه جميعًا إلى مواقع وزارية متصلة بالحياة المدنية، أما هو فإنه عندما تقرر أن يدخل مجلس الوزراء، اختير له أن يجمع منصب وزير الحربية مع منصب القائد العام للقوات المسلحة، الذي كان قد تولاه بالفعل قبل عام.
ثالث هذه التغيرات هو التغير في الفهم الحضاري والقيم الحضارية (بما فيها القيم الحاكمة لتقدير المرأة والجماعة والعائلة والفريق والحزب والانتماء والأيديولوجيا بل والدين نفسه)، فقد كانت بعض شرائح سوريا اليسارية تصرح بموقفها من الدين، وذلك على النقيض من نمط خالد محيي الدين الذي كان يُقدم للناس على أن الشيوعية لا تتعارض مع التدين والصلاة… إلخ.
وعلى النقيض أيضًا من نمط الرئيس عبد الناصر الذي جمع بين الانتماء لجماعة الإخوان والانتماء لجماعة حدتو في فترة واحدة أو على الأقل في فترة متقاربة إن لم تكن واحدة.
ولم تكن صورة المشير عبد الحكيم عامر كرجل يفهم الأنثى قد عُرفت قبل سوريا، وإنما عرفت في سوريا وبعد سوريا.
ومع أن زملاء له كانوا سباقين إلى مثل هذه المعرفة في مراحل مبكرة، فإن معرفة المرأة حين يكون الإنسان في المنصب لها صورة مختلفة تمامًا عن المعرفة الباكرة المبكرة بكل ما في المعرفة من إدراك أوسع أو أعمق لطبائع الأمور والمشاعر.

دمشق الساحرة أعطته الوقت

نقفز من هذه المقدمات إلى الواقع لنتحدث عن ديناميات أو آليات الممارسة العامرية في الوحدة السورية، وكيف كانت مختلفة تمامًا عما قبلها من ممارسات عامرية في مصر وعن ممارسات العسكر في حكم مصر.
ففي دمشق الفيحاء الساحرة أتيح لعامر وقت لا يتاح في القاهرة في العادة. وهكذا أصبح من الممكن له أن يتناول كثيرًا من القضايا بسعة أرحب أو بعمق أكثر، كما أصبح بمقدوره أن يستمع لقصة الخبر في نصف ساعة بدلا من أن يستمع إليها في القاهرة في خمس دقائق.
فلما حدث الاختلاف بين البعث وبين عبد الناصر، جاء الأستاذ ميشيل عفلق إلى داود عويس مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر، واستطاع أن يقنع داود ومن ثم المشير عبد الحكيم عامر بأنه من المفيد للرئيس عبد الناصر ولتجربة الدولة والوحدة أن تكون هناك معارضة ما، وأن تعبر هذه المعارضة عن نفسها باحتجاج حر، وأن يكون هذا الاحتجاج في صورة استقالات.

رواية الحوراني عن توسيع عبد الناصر لسلطات المشير

أشار أكرم الحوراني في مذكراته بالتفصيل الي الطريقة التي شرعن بها الرئيس عبد الناصر للمشير عبد الحكيم عامر صلاحيات حكم سوريا حكما مطلقا غير مسؤول، وهي القرارات الجمهورية الثلاثة التي لا يجد أصحاب الأدبيات التاريخية المصرية مهتمين بها بما يناسبها:
الأول:
«أصدر جمال الرئيس عبد الناصر بتاريخ 22 أكتوبر 1959 ثلاثة قرارات جمهورية، تقضي بتعيين المشير عبد الحكيم عامر حاكما على سوريا مزودًا بصلاحيات رئيس الجمهورية.
ويقضي القرار الأول بتولي المشير الإشراف على تنظيم الاتحاد القومي في الإقليم السوري.
أما القرار الثاني فيقضي بما يلي:
«أ ـ الإشراف على السياسة العامة، ومراقبة تنفيذ جميع القرارات التي تصدر لتدعيم الوحدة بين الإقليمين، ويكون مسؤولا عن ذلك أمام رئيس الجمهورية، وإصدار القرارات والأوامر التي تدخل في اختصاص رئيس الجمهورية، وذلك بموجب القوانين والقرارات النافذة في الإقليم السوري».
«ب ـ اعتماد برامج المشروعات اللازمة للإقليم السوري في حدود الاعتمادات المدرجة لها في الميزانية ومتابعة تنفيذها».
«جـ ـ النظر في توصيات المجلس التنفيذي السوري وفي مشروعات القوانين، وكذلك في الميزانية المقترح تنفيذها في هذا الإقليم قبل عرضها على رئيس الجمهورية».
«د ـ الإشراف على كل ما يتعلق بتنظيم المصالح والإدارات والهيئات والمؤسسات في الإقليم السوري، ويكون الوزراء التنفيذيون في الإقليم مسئولين أمام المشير في كل ما يتعلق بتنفيذ هذا القرار الذي يوضع موضع التنفيذ فورا».
أما القرار الثالث فيقضي:
«بربط مديرية الدعاية والأنباء في الإقليم الشمالي بوزير الداخلية، ورئيس المخابرات السورية عبد الحميد السراج، بينما كانت في السابق مرتبطة مباشرة برئيس الجمهورية».
كذلك أشار أكرم الحوراني في مذكراته إلى أن مكانة الرئيس عبد الناصر بدأت في التأثر وأنه كان قد بدأ يفقد ثقة البيئات السورية تدريجيا في تصرفاته واسلوبه.
«بدأ جمال الرئيس عبد الناصر يفقد شيئا فشيئا الثقة به في قلوب المسؤولين السوريين، كلما تكشفت لهم أساليبه في الاستغفال التي كان يلجأ إليها مستعينا بجميع ما يملك من وسائل وأجهزة».

ميشيل عفلق كاد يقنع المشير بالاستقالة

ولما كان البعث قد قرر أن يستقيل وزراؤه من وزارة عبد الناصر، فقد كاد الأستاذ عفلق يقنع المشير عبد الحكيم عامر (من خلال المقربين من عبد الحكيم) أن يشارك وزراء المشير عبد الحكيم عامر أيضًا مع البعث في الاستقالة المنبهة لعبد الناصر.
ومن الطريف أن نعرف أن المشير عبد الحكيم عامر كان قد قارب أو شارف على الاقتناع التام بهذه الفكرة، وهي الفكرة التي كان الرئيس عبد الناصر كافرًا بها كفرًا مطلقًا (وكذلك من خلفوه).
وهكذا بدأت زحزحة المشير عبد الحكيم عامر نفسه عن خط الرئيس عبد الناصر بكل ما في هذا الخط من ثوابت. ولم تكن هذه الآلية التي قبل بها المشير عبد الحكيم عامر إلا محصلة للعوامل الثلاثة التي أشرنا إليها، وإلى أنها قد تطورت في فكره بسبب وجوده في سوريا.
ممارسات العسكريين المصريين الشبان في دمشق
الآن وقد اتضحت الصورة من طرفيها فإني أدعوك أن تتأمل في عناصر متفرقة كونت ملامح صورة المشير عبد الحكيم عامر والضباط المصريين في سوريا، وفي العاصمة دمشق على وجه التحديد.
امتدت مشكلات المشير عبد الحكيم عامر والمصريين إلى أكثر من ميدان.. ونبدأ بمحور إنساني مهم.. كانت ممارسات «الشبان» المصريين لعلاقات الإعجاب والحب واللقاء مع الآخر أقل التزامًا مما وصل إليه المجتمع السوري، وأقل مما ينبغي أن يكون في المجتمع السوي.
ومن العجيب أننا بعد هذه الوحدة بما يقرب من ستين عامًا نستطيع أن تدرك أن سوريا لا تزال متقدمة (عاطفيًا) على مصر، وأن دمشق متقدمة على القاهرة، في كل ما يتصل بالقيم الدينية والإنسانية المتعلقة بالحب والزواج، والعلاقة فيما بين الرجل والمرأة.
ومما يؤسف له أن المصريين لم يحرصوا على صورتهم في دمشق، ولا على صورتهم المنبثقة من دمشق.
وببساطة شديدة ومن دون جلد للذات فإن المصريين لم يجيدوا التعامل ولم يجيدوا التعلم أيضًا.
في هذا الإطار (وفي هذا المحور) تستطيع أن تضع وتتأمل كثيرًا من الروايات عن علي شفيق مدير مكتب المشير، وعن المشير نفسه، وعن قضايا وصلت إلى البوليس، وعن قضايا أدت إلى جرائم.

ماذا دفع الرئيس عبد الناصر إلى التضحية بالمشير في سوريا

إذا كان الأمر كذلك فما الذي دفع الرئيس عبد الناصر إلى التضحية بالمشير عبد الحكيم عامر في سوريا أو في مذبح سوريا.
هنا لا بد أن نشير بسرعة إلى ما نعتقد أنها كانت أسبابًا يستطيع المدافع عن الرئيس عبد الناصر أن يوردها لتبرير هذا القرار بتكليف المشير عبد الحكيم عامر بسوريا، وهو التكليف الذي تكرر مرة بعد أخرى.
فقد كان هناك صراع بارز بين ميشيل عفلق من ناحية (البعث) وبين أكرم الحوراني (الاشتراكي) من ناحية أخرى، رغم أن الحزبين كانا قد اتحدا من قبل الوحدة، لكن قيادة الرئيس عبد الناصر جعلت الحزبين اللذين اتحدا خصمين، وهو ما لم يكن موجودًا قبل الاتحاد، حين كانا مختلفين فحسب وليسا خصمين. ويمكنك (اعتمادًا على الزاوية التي تقف فيها) أن تعد هذا من مزايا الرئيس عبد الناصر وقيادته، أو من عيوب الرئيس عبد الناصر وقيادته.
كان الطرف الثالث الجديد هو رجل الأمن عبد الحميد السراج، مبعث شكوى من الطرفين الأولين، وبهذا لم يعد صالحًا لأن يكون هو الحكم بين هذين الطرفين.
ومن المفهوم أنه لم تكن للسراج الشرعية التي تجعله أعلى من الاتجاهين الآخرين، حتى وإن أعطاه الرئيس عبد الناصر منصبًا أو سلطة وصلت إلى درجة نائب رئيس الجمهورية.
كان البعث الذي لم يتمكن من قبل من مثل هذه السيطرة (التي حصل عليها في ظل وقوع الرئيس عبد الناصر في الأخطاء باستمرار) يريد أن يستظل بسلطة الرئيس عبد الناصر في فرض «التبعيث» على أجهزة الحكومة السورية.. ولم يكن الشعب، الذي لم يكن أغلبه بعثيًا، مرتاحًا إلى هذا ولا قابلًا له.

السير في طريق الانقلاب

هكذا كان الانفصال بالانقلاب أمرا متوقعا، وربما كان من حق القارئ علينا أن نطلعه على بعض تفصيلات الانقلاب أو مقدماته. وربما كان البدء بالحديث عن المتناقضات مدخلًا مناسبًا لفهم ما حدث في أيام الوحدة الأخيرة.. وهذه إطلالة سريعة على بعض عناصر المفارقة نبدأ في تأملها بترتيبها التاريخي.
الفارق في رد الفعل بين الوفد والأحزاب السورية
على حين كان الكيان السياسي المصري الكبير المعروف باسم «الوفد المصري» (بقيادة النحاس باشا وسراج الدين باشا) من الذكاء؛ بحيث ترك الرئيس عبد الناصر يصارع نفسه، فإن الكيان السوري السياسي البارز وهو «البعث»، الذي لم يكن له من الثقل مثل ما كان للوفد، لم يلجأ إلى أسلوب الوفد بتجنب الصراع وتجنيب سوريا نتائج الصراع غير الناضج وإنما خاض هذا الصراع.
وهكذا فإن الرئيس عبد الناصر كان لا بد له من قوة توازي قوة البعث، أو بالأصح تناقضها وتحاربها من أجله هو… إلخ. وهكذا لم يكن أمامه إلا الجيش والمشير عبد الحكيم عامر.
وعلى حين أن الرئيس عبد الناصر كان يخشى من نتائج الانتخابات المصرية التي سوف تعيد الوفد حتمًا، فإنه بناء على أسلوبه المخابراتي (والمستطلع للحزازات)، اكتشف أن بإمكانه أن يضع البعث في صورة الحزب المفتقد للجماهيرية، وهكذا دفع الرئيس عبد الناصر بالأمور في انتخابات الاتحاد القومي، بحيث كانت النتيجة أن البعث فشل في إثبات ذاته وجماهيريته، وهكذا كان لا بد من ملء الفراغ بالجيش، أي بالمشير عبد الحكيم عامر.

قدرة حزب البعث على إنهاك عبد الناصر والمشير

في مقابل هذا كان حزب البعث قادرًا على إنهاك الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر معه بما لم ينهكهما به المصريون، سواء من الوفد أو من الإخوان.
وفي هذا المجال نذكر عدة وقائع مهمة تدارسناها في كتبنا الأخرى، ومنها: «دهاليز الناصرية»، الذي تناولنا فيه مذكرات أكرم الحوراني.
• أثار أكرم الحوراني بذكائه السياسي والإداري جوهر مسألة تحويل نهر الأردن، بطريقة أظهرت عجز الرئيس عبد الناصر (وهو ما يمكن الآن فهمه بعد انكشاف الأوراق) على أنه لم يكن عجزًا أو تخاذلًا، وإنما كان بمثابة تصرف يحمل في طياته قدرًا من التواطؤ مع العدو. ومع أن أحدًا لم يكن ليصدق هذا في مثل هذا الوقت الذي انعقدت فيه الزعامة لعبد الناصر، فإن مستويات عليا من الدارسين كانت تفهم وتختزن.
• وصف الرئيس عبد الناصر حماسة الحوراني وأمثاله في سوريا وفي غير سوريا، بأنها عمل طفولي لا يقدر مسائل الحرب والسلام ومصائر الشعوب وسلامة الأوطان.. ويبدو أن الأيام تسير الآن في طريق الثأر للحوراني وغيره من الرئيس عبد الناصر الذي كان صاحب الإعلام الأقوى، أو بعبارة أخرى: الذي انتصر بالميكروفون فحسب.
• اضطر الرئيس عبد الناصر نفسه إلى إعادة تنظيم الجيش في مصر وسوريا وفصل مكتب وزير الحربية عن مكتب القائد العام، رغم اجتماع المنصبين في شخص عبد الحكيم. وأصبح هناك حديث داخل الجيش نفسه عن مسمى الشئون السياسية التي يختص بها مكتب الوزير للشئون السياسية!! وكان هذا تتويجًا ناصريا للانغماس التام للجيش في السياسة، وهو ما لم يكن الرئيس عبد الناصر يرحب به، لكنه فعله بتعمق وتوجه إليه بإصرار في أثناء الوحدة، ودفع ثمنه بعد هذا.
• بدأ البعثيون والسوريون السياسيون يجدون ويكتشفون في المشير عبد الحكيم عامر مزايا لا يجدونها في عبد الناصر، وبدأت نظريتهم في أن يكون للمشير المشير عبد الحكيم عامر من المكانة في سوريا ما قد يساعدهم على أن يقللوا ويوهنوا من تأثير مكانة الرئيس عبد الناصر في سوريا وفي مصر أيضًا.. ولم يكن هؤلاء يعرفون أنهم ينتحرون بأنفسهم وبالمشير عبد الحكيم عامر أيضًا، فقد كان الرئيس عبد الناصر سلطويًا من طراز نادر، ولم يكن عنده أي استعداد للتنازل عن أي جزء من سلطاته.
• جاءت محاولات انقلاب داود عويس بكل تفاصيلها (وبكل الاختلافات في طريقة تفسيرها)، لتفجر الأمور تفجيرًا قاسيًا آذى وجه المشير عبد الحكيم عامر، واستفز وجه الرئيس عبد الناصر وقطّب ملامحه.

روايات للدكتور مراد غالب عن موقف اليسار

أما حديث الدكتور محمد مراد غالب عن فترة الوحدة مع سوريا، فإنه يبدو على الرغم من يسارية صاحبه، حافلًا بما يدل على منتهي الإنصاف والعقل، وهو يسمي الفصل الذي يتحدث فيه عن تجربة الوحدة «محنة الوحدة»، مما يدل دلالة قاطعة على حقيقة نظرته إلى التجربة وهو لا يتنصل من مسئولية المصريين عن فشل الوحدة، بل إنه ينفرد برواية يعتمد جوهرها على وصف المشير عبد الحكيم عامر بأنه إبراهيم باشا الذي حكم الشام في عهد محمد علي باشا، وإن كان يلقي ببعض المسئولية على السوريين أيضًا.
ربما نتوقف هنا لنشير إلى أن اليسار في مجمله لم يكن مرحبًا بالوحدة، وموقف خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري معروف.. أقول هذا لأنوب عن الناصريين الذين سيتحفظون على الاستشهاد برواية الدكتور محمد مراد غالب.
وهكذا يعترف الدكتور محمد مراد غالب في مذكراته بحقيقة مهمة كثيرًا ما نتعمد في الخطاب المصري «الوحدوي وغير الوحدوي» الانصراف عن الاعتراف بها، وهي حقيقة تتصل بأداء المشير عبد الحكيم عامر في سوريا، أكثر مما تتصل بأداء أي شخص آخر، ومع أن اعترافه بهذه الحقيقة يأتي عابرًا، إلا أنه ذو أهمية خاصة لصدوره عن رجل في مثل تجاربه وأفقه:
وبوسعنا أن نبدأ بقراءة هذه الفقرة التي تبلور أحكامه الموجزة على الوحدة:
«وتراكمت الخلافات والإحباطات واستقال الوزراء البعثيون وعلى رأسهم أكرم الحوراني وصلاح البيطار وعادوا إلى دمشق. وكان نظام الحكم في سوريا يمارس سلطاته بدكتاتورية فظة وبالكثير من القهر والإرهاب، ووصفت سوريا بأنها مستعمرة مصرية، ووصف المشير عامر بأنه إبراهيم باشا الذي حكم الشام أيام محمد علي باشا الكبير».
تأزم علاقة المشير بالبزري قائد الجيش السوري
مما يروى في التدليل على روح التذمر من قيادة المشير عبد الحكيم عامر أن عفيف البزري قائد الجيش السوري (السابق على جمال فيصل)، كان قد صعّد مشكلة بينه وبين المشير عبد الحكيم عامر بسبب تصرف أحد الضباط السوريين ممن نقلوا إلى القاهرة لعدم تنفيذ الأوامر، ورأى أن الجزاء الذي قرره المشير بنقل الضابط لمصر ليس موازيا لحجم الخطأ التي ارتكبه.
وصعّد البزري الموقف إلى درجة المواجهة.. وفي لقاء المشير والبزري خلع الأخير قبعته، معلنا عدم الاعتراف به كقائد أعلي كما تقضي بها التقاليد العسكرية.
واتصل المشير عبد الحكيم عامر بالرئيس عبد الناصر يروي له الواقعة.. وصدر قرار بقبول استقالة قائد الجيش السوري دون أن يقدم استقالته (على نحو ما كانت السياسة الناصرية في هذا الشأن قد استقرت على أن تُقبل استقالة لم تقدم، وهو نوع من أنواع الطغيان الناصري العظيم)، وعينه الرئيس عبد الناصر وزيرا للتخطيط ونقله إلى القاهرة.. واعتبرها السوريون تحديا متعنتا من الرئيس عبد الناصر لهم.
وربما بدأ القادة السوريون منذ ذلك الحين الذي أهين فيه قائد جيشهم على هذا النحو البالغ، يتناوبون القول بأن الوحدة بين مصر وسوريه ليست إلا احتلال!
كذلك فقد بدأت في ذلك الوقت المظاهر الدالة على تفاقم الصدام بين عبد الحميد السراج مدير المخابرات السوري، والمشير عبد الحكيم عامر رئيس الجمهورية بالتفويض!

توتر العلاقة مع رجل سوريا القوي عبد الحميد السراج

انتقل الآن إلى علاقة أو صراع المشير عبد الحكيم عامر وعبد الحميد السراج، ومن باب الطرافة أن هذين الاسمين هما اسما الولدين الثاني والثالث لعبد الناصر، وإن لم يكن الثاني قد سمي على اسم عبد الحميد السراج وإنما على اسم خاله عبد الحميد كاظم.
كانت علاقة المشير عامر الشائكة مع عبد الحميد السراج، علاقة متعددة المراحل لعب فيها الرئيس عبد الناصر بعبد الحميد السراج والمشير عبد الحكيم عامر ما شاء الله له أن يلعب، ونحن نتعرض لها بشيء من التلخيص، لكن يكفي أن نشير إلى نهايتها حين جعل الرئيس عبد الناصر السراج نائبًا له (أي نائبًا لرئيس الجمهورية) بلا اختصاصات، ومستقرًا في القاهرة، على حين يقبع المشير عبد الحكيم عامر متسلحًا بالسلطات في دمشق.. ربما تتعجب من أن يكون هناك شيء بهذا التناقض لكن تعجبك سرعان ما سيزول عندما تعلم أنه وبعد أيام قليلة من هذا القرار الطائش كان الانفصال.
ولا يعجبن أحد مما روي عن الرئيس عبد الناصر أنه حين علم بالانفصال لم يكن يعنيه في المقام الأول إلا الإجابة عن سؤال واحد، هو علاقة السراج بالانفصال وبمنفذي الانفصال وبمخططي الانفصال، وقد اكتشف الرئيس عبد الناصر بعد فوات الأوان براءة السراج من التخطيط والاشتراك في الانفصال.
لكن السراج وما يحيط بالسراج لم يكن بريئًا من التسبب بالانفصال بالطبع..

مراحل تطور صراع المشير والسراج

• كان منطق الأمور يسير في اتجاه أن المشير عبد الحكيم عامر قادر بحكم قربه من الرئيس عبد الناصر وماضيه في المناصب أن يقلم أظافر عبد الحميد السراج، لكن السراج كان أكثر دأبًا ونشاطًا وحرفية ومهارة من المشير عبد الحكيم عامر سواء قبل المصريون بهذا أم ظلوا على ظنهم بأن المشير عبد الحكيم عامر هو عبد الحكيم.
• كانت النجاحات التي نسبت إلى السراج تفوق النجاحات التي نسبت إلى أي ضابط مصري بمن فيهم عبد الحكيم. ويكفي قصة تفجير أنبوب البترول، وقصة اعتقال هزاع المجالي، التي كان مقصودًا بها الملك حسين، وقصة انقلاب العراق الذي فشل، وإن كان قد نجح فيما بعد… إلخ.
• عين الرئيس عبد الناصر السراج رئيسًا للوزراء (المجلس التنفيذي) في سوريا من دون أن يغير الوزراء (إلا قليلًا)، ومن الطريف أنه لولا كتبي عن الوزراء والبنيان الوزاري، لتجاوزت وثائق مصر الإشارة إلى هذا التعيين كلية، كما كانت تفعل في كثير من الأحداث.
• انفرد عبد الحميد السراج بحكم سوريا لمدة ستة شهور لم يكن للمشير عبد الحكيم عامر وجود فيها في سوريا، وواجه السراج وحده البعث بما يمكن لرئيس مسئول أو رئيس وزراء مفوض أن يواجه به حزبًا خرج على السلطة بعدما كان مشاركًا فيها.

نشأة البؤرة المعادية للمشير

تحدث أكرم الحوراني عما أسماه نشأة البؤرة المعادية للمشير عبد الحكيم عامر في الاتحاد القومي في سوريا، فقال:
«وهكذا أصبحت مقرات الاتحاد القومي في سوريا مراكز لمقاومة المشير عبد الحكيم عامر، ولانتقاد نظام الرئيس جمال عبد الناصر، كما جرت محاولات للتظاهر والإضراب (النقل الداخلي والمخابز)، واستغلت عناصر اليمين التي تضررت من التأميم هذا الجو، وبهذه المناسبة أذكر أن الدكتور جمال أتاسي زارني في تلك الفترة وقال لي: إن اليمين السوري متفائل باقتراب ساعة الفرج».
«لقد كان من نتيجة الجو الذي ساد سوريا بعد عودة السراج، أن أصدر الرئيس عبد الناصر مرسوما يقتضي بإدماج الاتحاد القومي في كل من الإقليمين والسوري والمصري، وبموجب هذا التدبير انتهى دور السراج كأمين سر للاتحاد القومي في سوريا، كما أرسل المشير عامر قوة عسكرية أغلقت مقرات الاتحاد القومي، إضافة إلى صدور قرار بتوحيد المخابرات بين الإقليمين، واستنادا إلى هذا القرار؛ فإن وزير الداخلية المصري عباس رضوان قد أصدر قرارا بنقل ضباط المخابرات السوريين إلى القاهرة، ولما تمرد هؤلاء الضباط وامتنعوا عن تنفيذ أوامر النقل، أصدر المشير عبد الحكيم عامر أمرا بإلقاء القبض على المتمردين والممتنعين توطئة لمحاكمتهم، فهرب بعضهم إلى لبنان، وتوارى بعضهم الآخر».
«وفي هذا الجو قدم السراج استقالته التي أعلنت يوم 22 من سبتمبر 1961م، أي قبل عدة أيام من تاريخ الانفصال».

استفادة الناصريين من تشويه أنصار السراج لصورة المشير

من الإنصاف هنا أن نعترف بأن أغلب الملامح التي صوّر بها الناصريون (فيما بعد 1967)، مثالب المشير عبد الحكيم عامر كانت من صياغة كُتاب جبهة عبد الحميد السراج أو فريقه.
وبلا مبالغة مني فإن الحقيقة في قليل ولا كثير، لا تعدو هذا الذي أقول، ولم يكن الكتاب المصريون قد تعودوا على مثل هذه الصياغات التي من قبيل أن المشير عبد الحكيم عامر كان رجل الملذات والشكلية والعصبية، وأنه لا يقدر معاني الولاء والالتزام والانضباط بالدرجة الكافية، وأنه نصف فنان… إلخ.
كان من الثابت مثلًا أن رأي السراج في مشروعات التأميم يتوسط بين معارضة أكرم الديري والزعامات السورية وحماسة عبد الناصر، وأنه كان يرى أن يكون تأميمًا جزئيًا لا كليًا.
أما رأي المشير عبد الحكيم عامر فقد صُور على أنه صورة من رأي عبد الناصر، أو من أقنعوا الرئيس عبد الناصر بالتحول إلى سياسات التأميم.

هل كان المشير يخطط للاستئثار بسوريا

عبر أكرم الحوراني عن إحساسه المبكر أن المشير عبد الحكيم عامر كان يخطط للاستئثار بسوريا:
«كان المشير عامر يخطط منذ قيام الوحدة لأن يجعل سوريا قطاعًا خاصًا به، سواء على مستوى الجيش أو على المستويين السياسي والشعبي، ولشعوره بأن حزب البعث كان مواليا لعبد الناصر، قام منذ العام الأول للوحدة بتفريغ الجيش السوري من الضباط القريبين من البعث الذين تم نقلهم بالتدريج إلى القاهرة، واستبدل مواقعهم في الجيش بضباط التكتل الشامي المناهض للبعث، كما دعم مركزه بنقل العديد من أعضاء تنظيمه السري من الضباط إلى الجيش السوري، واستمر في ذلك حتى تاريخ الانفصال».
التغيير الوزاري في أغسطس ١٩٦١
في أغسطس 1961، أي في الشهر السابق مباشرة للانقلاب، واصل الرئيس عبد الناصر ما يمكن أن يصفه العقل البشري البسيط الآن بأنه إحدى تجليات مراهقاته الإدارية، فبدل تمامًا وبدون مقدمات (حتى وإن كانت هناك قدرة صحفية (لم تستغل)، على تقديم مبررات مفهومة) من نظام المجلسين التنفيذيين السوري (الإقليم الشمالي) والمصري (الإقليم الجنوبي) والحكومة المركزية، وهو النظام الذي بدأ منذ أكتوبر 1958 ولم تمض عليه ثلاث سنوات كاملة، ولم يتم أي نوع من أنواع تقييم فشله أو نجاحه، وشكل بدلًا من المجلسين التنفيذيين والحكومة المركزية وزارة موسعة (بوزراء مكررين، أي أن للوزارة الواحدة أكثر من وزير) برياسته هو.
وكان معنى هذا بوضوح أن عبد الحميد السراج فقد منصبه كرئيس للمجلس التنفيذي في الإقليم السوري (الذي وصل إليه في سبتمبر 1960، خلفًا لنور الدين كحالة)، وكذلك كمال الدين حسين في الإقليم المصري (الذي كان قد وصل إليه أيضًا في سبتمبر 1960، خلفًا لنور الدين طراف)، وبقي الرئيس عبد الناصر وحده رئيسًا للوزراء مركزيًا وتنفيذيًا أيضًا.
وكان معنى هذا أن يُصبح عبد الحميد السراج نائبًا فحسب للرئيس عبد الناصر، الذي هو رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهكذا كان لا بد للسراج أن يترك دمشق ويبقى بالقاهرة مع زملائه المصريين من نواب رئيس الجمهورية. وكأنه لا يجوز أن يكون هناك نائب رئيس جمهورية سوري مقيم في دمشق.
وفي مقابل هذا (وبالمواكبة له) كان لا بد أن يبقى المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية ووزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة في سوريا، لأنه «حاكم سوريا» بقرار أعلى من قرار تشكيل الوزارة والوزراء والنواب.

هل كان المشير هو المسئول الأول عن حدوث الانفصال؟

لا أستطيع أن أنكر أن معظم الناس قد تشبعوا بفكرة أشاعتها الأدبيات الناصرية وألحت عليها إلحاحًا متصلًا، وهي أن المشير عبد الحكيم عامر كان بمثابة المسئول الأول عن حدوث الانفصال بين مصر وسوريا على النحو الذي حدث به.
لكني أحب أن انتهج توجهًا جديدًا في مقاربة الموضوع بالقول بأني لست من الميالين إلى الاقتناع بفكرة مسئولية المشير عبد الحكيم عامر عن الانفصال، كما أني لست من المحبين لترويج هذه الفكرة على إطلاقها، فإن الانفصال لم يحدث إلا نتيجة تراكمات عديدة ساهم فيها المشير عبد الحكيم عامر كما ساهم فيها آخرون سواء في ذلك المصريون والسوريون.
ولكن سوء حظ المشير عبد الحكيم عامر أن الانفصال وقع وهو في سوريا، وأن الانفصال وقع وهو مسئول عن سوريا، وأن الانفصال وقع على أيدي بعض العاملين في مكتبه، ولهذا فإنه يصعب إقناع الناس بأنه لم يكن المسئول الأول عن الانفصال! مع أن المسئول الأول عن الانفصال كان هو الرئيس عبد الناصر بالطبع!
ولهذا فإنه حتى لو سلم الناس بأن المشير عبد الحكيم عامر لم يكن المسئول الوحيد عن الانفصال، فإنهم لن يقتنعوا بهذا لأكثر من الوقت الذي ينقضي أثناء إقناعهم بهذه الفكرة فحسب، ثم يعودون إلى الاقتناع الأوقع أو الأقرب إلى التصديق بحكم الإلحاح الصحفي والتاريخي والتأثري عليه.

شهادات مضادة للمشير

ذكر الرئيس أنور السادات نفسه في مذكراته أن المشير كانت له أخطاء فادحة في سوريا، في مقدمتها أسلوب اختياره لمساعديه.
كما ذكر الفريق أول محمد فوزي أن الرئيس عبد الناصر وضع كل أسباب الانفصال على عاتق المشير عبد الحكيم عامر.
أما السوريون الذين كتبوا مذكراتهم أو كتبوا عن هذه الحقيقة، فيتهمون المشير عبد الحكيم عامر بأنه كان وراء إفشال مشروع الوحدة، أو مشروع الجمهورية العربية المتحدة، بسبب سلوكياته الاستعلائية هو والمجموعة المحيطة به، وبسبب التصرفات الارتجالية التي أضرت سوريا واقتصادها.
لكني أحب في هذ المقام أن أنبه القارئ إلى أن عبد اللطيف البغدادي، الذي لم يكن ينكص عن أي تحد، كان قد رفض مسألة العودة إلى تولي أمور سوريا نهائيًا رغم إلحاح عبد الناصر، فإذا كان البغدادي قد رفض فإننا يمكننا تفهم أن الوضع الذي كان فيه المشير عبد الحكيم عامر كان أكبر منه وكان محكومًا عليه فيه بالفشل المسبق..
كان عبد اللطيف البغدادي، كما نعرف جميعًا، قد عودّ نفسه على أن يكون قادرًا على النجاح في أي إنجاز، شريطة أن يكون عارفًا بحجمه، أما سوريا فكانت بمثابة المجهول بالنسبة له، وهذا هو ما عبر هو نفسه عنه في الفقرات التي أوردناها في حديثنا عنه!
وهكذا فإننا نستطيع أن نقول إن الوضع الذي أنشأه الرئيس عبد الناصر وسياساته في سوريا كان أكبر من الرئيس عبد الناصر نفسه.

رواية فتحي غانم

وحتى نواصل فهم مدى الصعوبات التي كان على المشير عبد الحكيم عامر أن يواجهها ويحاربها بمفرده في سوريا فسنلفت نظر القارئ إلى جملة معبرة رواها الأستاذ فتحي غانم في مقال له بمجلة العربي (يناير 1998) فقال إنه بعد حدوث الانفصال (1961) ذهب إلى علي صبري يسأله أن يطلب له من المشير عبد الحكيم عامر مذكراته عن الفترة التي قضاها في سوريا، فدهش علي صبري لهذا الطلب.
ولا يهمنا أن علي صبري دهش أو لم يدهش ولكن الذي يهمنا أن فتحي غانم المفكر العظيم كان يستشعر مدى ثراء التجربة الإنسانية الصعبة التي عاشها المشير عبد الحكيم عامر في هذه الفترة في سوريا.
ومع هذا فإن تاريخنا الأدبي يصارحنا أن التجارب التي تناولت هذه الفترة كانت شخصية جدًّا، وأنها ركزت على جوانب مثيرة من هذه التجربة، ونحن نعرف أن القهر كان السبب الأول في هذا لكننا لا نستطيع أن ننفي أن المصريين (وهم المتسببون الأصليون في هذا الانفصال) عاشوا ممرورين من هذه التجربة.
تقصير المؤرخين في دراسة فشل الوحدة
لا يستطيع أحد (سواء أكان مصريًا أو مناصرًا للمصريين، أو ناصريًا أو مناصرًا لعبد الناصر، أو عامريًا أو مناصرًا للمشير عبد الحكيم عامر).. أن يزعم أن مصر لم تقع في أخطاء كثيرة في إدارة دولة الوحدة، وللأسف الشديد فإن أحدًا من أصحاب الكتابات التاريخية لم يعن حتى الآن بهذه الأخطاء مكتفيًا بانتقاد فكرة تطبيق التأميم مع المؤسسات الاقتصادية السورية فحسب، وكأن هذه كانت الغلطة الوحيدة، مع أنه من المؤكد أن أسلوب الإدارة المصرية للأمور السورية كان يفتقد إلى كثير من الحنكة والعدالة والأخلاق والفهم لطبائع البشر، بل ولطبائع الأمور، هذا فضلًا عن استعلاء غير طبيعي وغير لائق، وعن ثقة زائدة ليس لها ما يبررها، وعن إهمال متعمد لوسائل الحكم على الأمور والتحقق منها.
ومن الحق أن نقول إن كثيرًا من مشكلات سوريا المعاصرة بما فيها ما تعانيه ثورتها الحالية منذ عام 2011 كانت من تبعات الإدارة السيئة للسياسة والحكم، وهي الإدارة التي فرضتها مصر على يد الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر معًا، أو على يد كل منهما بمفرده.
ومن المهم أن نذكر أن شعبنا العربي في سوريا قد أعطى الإدارة المصرية أكثر مما ينبغي من الثقة والولاء، ولكن إدارتنا بطبائعها العسكرية أهدرت هذا كله، وظنت الأمر مجرد توسعة للمعسكر الذي كانوا يحكمونه في القاهرة.. كما سنرى، ونحن نقرأ للبغدادي بعد قليل ما يرويه من أن بعض المطبوعات وصلت إلى المشير عبد الحكيم عامر تحذره من تدبير مدير مكتبه النحلاوي للقيام بانقلاب فلم يعرها التفاتا!

بعض التطورات التي سبقت الانقلاب

ونصل إلى تطورات الأحداث في العاصمة السورية في الأيام التي سبقت الانقلاب..
• رفع السراج للرئيس عبد الناصر قائمة من 37 ضابطًا، وعلى رأسهم عبد الكريم النحلاوي (مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر)، وأشار إلى أن من زوده بها هو هاني الهندي قطب حركة القوميين العرب، لكن المشير عبد الحكيم عامر دافع عن النحلاوي وهاجم السراج، وأفقد الرئيس عبد الناصر أهم ما يملكه.. وهو الوقت.
• واصل المشير عبد الحكيم عامر تبني وجهة نظر السياسيين السوريين الحزبيين في السراج، مع أنه لم يكن يعرف أن رأيهم فيه هو نفسه وفي الرئيس عبد الناصر سيئ أيضًا.
• انشغل المشير عبد الحكيم عامر بكل ما ينبغي ألا ينشغل به، وترك تمامًا كل ما ينبغي أن يكون منشغلًا به.
• منذ أغسطس 1961 وحتى الانفصال في 28 سبتمبر 1961، أصبح المشير عبد الحكيم عامر في سوريا وحده، أي من دون وجود السراج معه، وأصبحت له اختصاصات كثيرة، أو له كل الاختصاصات، بالإضافة إلى أن له أعظم الاختصاصات في القاهرة. بينما أصبح عبد الحميد السراج في القاهرة بلا أي اختصاصات، وإن كان نائبًا لرئيس الجمهورية ورئيسًا سابقًا للوزراء ووزيرًا سابقًا للداخلية.
• وهكذا كان لا بد للانقلاب أن يحدث، وكان لا بد المشير عبد الحكيم عامر أن يفشل وأن يحمّل أيضًا المسئولية عن الانفصال، مع أنه لم يكن يدري كيف حدث الانفصال، ولا من هو المستفيد من هذا الانفصال.

إصرار المشير على تنفيذ التأميم

وما دمنا في مرحلة التفهم لما حدث فإني أفضل أن أقفز قفزة أخرى إلى ما يُعرف بأخريات أيام المشير عبد الحكيم عامر في سوريا، فقد كانت فكرة التأميم (بالمعنى الناصري) قد استولت تمامًا على عبد الناصر، ولم يكن الرئيس عبد الناصر يدرك حدود صلاحية (أو عدم صلاحية) أفكاره هذه لسوريا. لكن الوزير السوري أكرم ديري كان من الفطنة والإخلاص بحيث نبه إلى خطورة التوجه الناصري، ومضى بعيدًا في إظهار هذا التنبيه، وانضم إليه سوريون رفيعو المستوى حائزون على ثقة المشير عبد الحكيم عامر.
ومع هذا فقد بدا أن المشير عبد الحكيم عامر كان مقتنعًا بأن مثل هذا الإجراء لا بد أن ينفذ مهما كان الأمر، وذلك بسبب إيمانه (العسكري) الشديد بضرورة تنفيذ رأي الرئيس عبد الناصر مهما كان، حتى ولو كان هو نفسه غير مقتنع به، وهكذا مضى المشير عبد الحكيم عامر (دون نجاح بالطبع) في سبيلٍ لم يكن يؤدي إلا إلى القضاء على البرجوازية السورية المنتجة التي أعطت الدولة المتماسكة في سوريا مجدها الاقتصادي والاجتماعي، واستقلالها السياسي ومكانتها الدولية، دون أن يكون واعيًا لحدود الخطأ الظاهر والباطن في قراره.
ولولا أن المشير عبد الحكيم عامر كان منتشيًا بخمر السلطة في دمشق ما كان قد ذهب بعيدًا في هذا الطريق الذي تحدى الناصحين والخبراء القدامى، على نحو ما فعل، دون أن يدري أنه يؤذي نفسه ونظامه قبل أن يتعدى على حقوق وملكيات الآخرين.

….. ….. ….. ….. …..

رواية مناقضة في كتاب زوجته الفنانة برلنتي
ومن الطبيعي في هذا السياق أن نورد للقارئ النصوص التي تتحدث عن عدم اقتناع المشير عبد الحكيم عامر بتطبيق فكرة التأميم في سوريا، ومن العجيب أن نجده بعد هذا قبل المسئولية عن سوريا رغم اعتراضه (!!) على تطبيق التأميم هناك.
ولنبدأ في تأمل مشوب بالتحليل والدرس لما يرويه كتاب مذكرات برلنتي عن فكرة المشير عبد الحكيم عامر تجاه الوحدة السورية المصرية، حيث تقول المذكرات:
«… عرفت أن المشير كان يعارض الرئيس جمال عبد الناصر، في تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، في سوريا بعد الوحدة، والاستيلاء على ملكيات الملاك الذين ينتمون لأحزاب سياسية، (فقد كان) أبناؤهم يتولون مناصب قيادية في الجيش السوري، كما أنه عارض قرارات التأميم التي أدت إلى تأميم «الشركة الخماسية» بسوريا، وهي إحدى الشركات الكبرى التي تضم أكبر الاقتصاديين الذين يسيطرون على النشاط الاقتصادي هناك».
«وقد كانت هذه الشركة صاحبة دور كبير في الانفصال، كما عارض تأميم البنوك التي يعتمد عليها رجال الأعمال والتجارة.. مما أكد بعد نظر المشير عبد الحكيم عامر».
«إن عدم فهم طبيعة الحياة الاقتصادية في سوريا، كان من الأسباب القوية لهذا الانفصال، الذي بدا غريبا لكثيرين بعد التحالف بين مصر وسوريا، ذلك لأن عماد الاقتصاد السوري يقوم على التجارة وليس الزراعة، فجاءت قرارات التأميم لتشل هذا النشاط التجاري».
«بالطبع تبع ذلك قيام حكم بوليسي في سوريا، على غرار الحكم القائم في مصر، ولم يكن المشير عبد الحكيم عامر راضيا عن ذلك كله».
«وقد أرسل عامر رسالة مع صلاح نصر ـ قبل الانفصال ـ حذر فيها الرئيس جمال عبد الناصر، موضحا حرج الموقف في سوريا، وطلب منه فيها سحب السراج فورًا، والذي كان هو الحاكم الحقيقي لسوريا آنذاك».

….. ….. …. …..

«ولم يصل الرد حتى وقع الانفصال».
البغدادي يروي تفاصيل الانقلاب
ومن المهم أن ننقل للقارئ بعض ما يصور تفصيلات ذلك اليوم.. ونبدأ بما يرويه عبد اللطيف البغدادي في حديثه لمجلة نصف الدنيا (1996) حيث يقول:
«… الأغرب من هذا أن أحد قادة الانقلاب هو عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر قد عمد إلى نقل الضباط السوريين المؤمنين بالوحدة إلى بعثات بالخارج، أما الضباط المؤيدون للانقلاب فقد نقلهم إلى المواقع الحساسة ليضمن نجاح الانقلاب».
«وأتذكر أن المشير عبد الحكيم عامر كان قد بلغته مطبوعات بأنه سيحدث انفصال سيقوده مدير مكتبه، ولكن المشير عبد الحكيم عامر نفى ذلك واستبعده قائلا: إنني أثق في النحلاوي، ثم فوجئنا بالانقلاب بعدها بثلاثة أشهر وعندما أثير هذا الموقف بعد الانقلاب قلنا للمشير عبد الحكيم عامر ألم يصلك خبر الانقلاب فلماذا لم تحاول التأكد من صحته؟ فأجاب قائلا: النحلاوي غبي لقد استغل في هذه العملية، والغريب أن الرئيس عبد الناصر كان يعلم كل ذلك ولكنه لم يحاول معالجته ووضع حد له».
ومن الإنصاف أن نذكر أن بعض السوريون من المؤمنين بالوحدة مثل الوزير السوري أكرم ديري وجمال فيصل قائد الجيش السوري، كانا قد كشفا للمشير دور عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب المشير في تنفيذ الانقلاب.. ولكن المشير عبد الحكيم عامر لم يوافقهم واستبعد الأمر.
اعتراف الاتحاد السوفييتي المبكر بالانفصال
أجاد الدكتور مراد غالب تصوير انطباعاته عن فترة حدوث الانفصال بين مصر وسوريا، و هو الذي ذكرنا بما تعمدت أجهزة الدولة التعمية عليه من أن الاتحاد السوفيتي اعترف بسوريا المنفصلة بعد ساعات من وقوع الانفصال(!!)، وهو ما أبلغه له نائب وزير الخارجية السوفيتي، فلم يملك نفسه من إبداء الاحتجاج الفوري عليه:
«وأخيرا حدث الانفصال في 28 سبتمبر 1961، كنت آنذاك في موسكو سفيرا لدولة الوحدة واستدعاني كوزينتسوف نائب وزير الخارجية الساعة السادسة مساء يوم الانفصال نفسه ليبلغني اعتراف الاتحاد السوفيتي بسوريا المنفصلة، بعد ساعات فقط من انفصالها».
«والحقيقة أنني استأت من هذا القرار، ولم أملك إلا أن أقول أرجو أن يكون هذا القرار متماشيا مع مسار التاريخ».

…… …… …… ……

هكذا يقول الدكتور محمد مراد غالب وهو في غاية الأسف!!
هل كانت أجهزة المعلومات مغيبة تماما
وأخيرًا.. فمن الواضح أن رئاسات أجهزة مصر المعلوماتية والأمنية، سواء في ذلك المخابرات والمباحث والتنظيمات السياسية، كانت مغيبة تمامًا عن توقع الانفصال السوري ومعرفة أسراره.
وقد برر المسئولون المصريون ذلك الغياب عن الحقائق بأن عبد الحميد السراج كان قد أصر على الانفراد بالحكم في سوريا، واشترط على الرئيس عبد الناصر ألا يكون لأي أجهزة مصرية أي نشاط داخل سوريا، لأن المصريين ـ على حد قوله ـ ليسوا على دراية بشئون سوريا، كما عارض السراج بشدة إدماج المباحث والمخابرات في الإقليمين، وقد وافقه الرئيس عبد الناصر على ذلك، وأعطى له يدا مطلقة، حتى بعد أن أصدر قرارا بعملية الإدماج، ويرجع ذلك إلى سببين:
أولا: رغبة الرئيس عبد الناصر في تكثيف أخطاء أجهزة السراج في سوريا حتى ينتهز الفرصة المناسبة لتكون مبررا مستساغا لإزاحته!.. (وهل هذا منطق مقبول من زعيم؟!).
ثانيا: أنه كانت تواجه الرئيس عبد الناصر في كل مرة كان يحاول فيها إبعاد عبد الحميد السراج ظروف تجعله يرجئ الأمر إلى وقت أنسب.

…… …… …… ……

رواية عبد المنعم أبو زيد أن الانقلاب لم يكن سرا

وقد روى عبد المنعم أبو زيد، الذي هو أحد العاملين مع المشير.. أن الانقلاب كان معروفًا لأهل دمشق قبل وقوعه؛ حتى أن إحدى السيدات (تدعى الدكتورة هدى) اتصلت به قبل الانفصال بـ72 ساعة من دمشق وطلبت مقابلة أي مسئول في مكتب المشير.. وخشي أبو زيد من مقابلتها وأرسل سائقه لمقابلتها، حيث أبلغته أن انقلابا سيقع خلال 72 ساعة وطلبت منه الاتصال بالمسئولين.. واتصل أبو زيد بالعقيد أحمد علوي كاتم أسرار وزارة الحربية في القاهرة الذي أفاده أن الحالة هادئة.. وليس هناك أي خطر!
وقرر عبد المنعم أبو زيد من تلقاء نفسه إرسال أولاده وأولاد المشير إلى القاهرة خشية وقوع أي حادث، ووقع الانقلاب في الساعة التي حددتها د. هدى.
وفي ليلة الانفصال قرر المشير أن يستقل السيارة ومعه (عبد المنعم) أبو زيد، وعلي شفيق، وحارسه الخاص محمد إبراهيم رأفت، واتجه الجميع إلى مبنى الأركان حيث التقى المشير بقائد الجيش الفريق جمال فيصل.. وبقوا في القيادة حتى حضر حيدر الكزبري قائد انقلاب الانفصال ليفتح دفعة نيران أصابت قائد الجيش السوري، عندما حاول الاعتراض، وسرعان ما أعلن حيدر الكزبري رفع العلم السوري وإذاعة النشيد السوري وإلغاء الوحدة.
وأصدر قادة الانقلاب قرارا آخر بإعادة المشير إعادة مهينة هو وأتباعه وبعض المسئولين السوريين في طائرة نقل إلى القاهرة.
وكما يعرف الناس جميعًا فقد قرر الرئيس عبد الناصر التدخل العسكري لإعادة الوحدة، وأمر بإنزال القوات البحرية في اللاذقية.. ولكنه سرعان ما تراجع وأمر ضباط المظلات بتسليم أنفسهم للقوات السورية، وأعلن للشعب المصري موافقته على الانفصال.

رأي خروتشوف

وليس من شك في أن حكم سوريا أو ما قد نطلق عليه «مهمة المشير عبد الحكيم عامر في سوريا» كانت مهمة صعبة للغاية، وقد تنبه إلى هذا المعنى كثيرون جدًّا، حتى إن الزعيم السوفيتي خروتشوف نفسه وهو في أقصى الأرض كان يدرك مدى ما يجابهه المشير عبد الحكيم عامر في سوريا، حتى إنه شبه الموقف تشبيهًا ماديا يكاد كل البشر يعرفونه وهو «الجلوس على الخازوق».
وهذا هو ما يذكره أحمد حمروش في كتابه «قصة ثورة 23 يوليو الجزء الثاني: مجتمع عبد الناصر» حيث يقول:
«… وفي هذا اللقاء (الحديث عن لقاء بين الرئيس عبد الناصر وخروتشوف) تحدث خروتشوف مرة أخرى عن عدم جدوى اعتقال الشيوعيين وأن الوحدة مع سوريا بدأت تتعثر.. وكان المشير عبد الحكيم عامر وقت المقابلة في دمشق بصفته نائبا لرئيس الجمهورية، ولم يتورع خروتشوف عن القول بأن عامر يعيش في سوريا فوق «خازوق» في مقعده».
رأي الدكتور عبد العظيم رمضان
بلور الدكتور عبد العظيم رمضان بطريقة التحليل البعدي رأيًا مهمًا في فشل المشير عبد الحكيم عامر في الملف السوري، في كتابه «تحطيم الآلهة»، ناسبًا إليه قبل غيره المسئولية عن الفشل في سوريا، حيث قال:
«كان بقاء المشير عبد الحكيم عامر والإبقاء على قادة القوات الثلاثة رغم أخطائهم في حرب 1956، مقدمة لهزيمة يونية 1967. ولكن هذه القيادة الفاشلة كان عليها أن تثبت عجزا آخر في ميدان لا يقل خطرا وأهمية، وهو ميدان الوحدة مع سوريا، مما ترتب عليه مأساة الانفصال في 28 سبتمبر 1961. فقد كان قادة الانفصال من مكتب المشير عبد الحكيم عامر نفسه، إذ كان عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب المشير وموضع ثقته، وعاد المشير عبد الحكيم عامر مطرودا بعد أن كان في قمة السلطة».
الأزمة التي واكبت عودة المشير إلى القاهرة
وننتقل الآن إلى الأزمة التي اختلقها المشير عبد الحكيم عامر نفسه بعد عودته لكي يبتعد بها عن الأزمة الكبرى، شأن كل أبنائنا الشبان المحبطين في مثل هذه اللحظات، ونراح حريصًا على إبداء حزنه لأن الرئيس عبد الناصر لم يستقبله في المطار ليهنئه بسلامة الوصول(!!).
وقد يعجب القارئ من مثل هذا التفكير، ولكننا سنورد له نصوص أنصار المشير عبد الحكيم عامر أنفسهم.. فهذا هو كتاب مذكرات برلنتي يقول:
«وكان من الأمور التي حزت في نفس المشير عبد الحكيم عامر آنذاك، هو إذاعة خبر تحرك طائرته من سوريا إلى مصر، وهذا خبر كان من الممكن أن يعرضه للموت من المدفعية الإسرائيلية المضادة للطائرات. وعندما هبطت به الطائرة في مطار القاهرة، لم يجد في انتظاره صديق عمره وشريك كفاحه الرئيس جمال عبد الناصر! وإنما وجد كمال الدين حسين، ولم يكتم المشير عبد الحكيم عامر مشاعره فقال لكمال الدين ساخرا: هوه الريس كان متوقع عدم وصولي؟!».

شهادة عبد الصمد محمد عبد الصمد

ونحن نقرأ مضمون هذه القصة وأحداثها بتوزيع موسيقي آخر في كتاب آخر، حيث يضيء عبد الصمد محمد عبد الصمد في كتابه ما يمكن أن يكون بمثابة «وجهة النظر الأخرى» في موقف المشير عبد الحكيم عامر عند حدوث الانفصال مع سوريا.. راويًا ما صرح به المشير عبد الحكيم عامر عند عودته من سوريا بعد وقوع الانفصال، بينما نفاجأ بالرئيس جمال الرئيس عبد الناصر (في رواية عبد الصمد التي لا ندري مدى صحتها) يرد بأن قواعد البروتوكول لا تسمح للرئيس بأن يستقبل نائب الرئيس(!!).
وقد نستغرب أن تصدر مثل هذه الأقوال الغاضبة عن نائب رئيس الجمهورية التي تفككت عراها بسببه.
ولكن من الظلم للمشير المشير عبد الحكيم عامر وللرئيس عبد الناصر أيضًا أن نفكر بهذه الطريقة، فلم تكن الأمور بينهما تسير بهذا المنطق وإنما كانت في الواقع تخضع تمامًا لمثل هذا المنطق الذي يتحدث به المشير عبد الحكيم عامر في رواية عبد الصمد:
«قال عبد الحكيم: يوم الانفصال كان المتوقع أني ميت.. ميت من السوريين أو من الإسرائيليين يسقطوا طائرتي في عودتي إلى القاهرة.. ولكن ربنا كتب لي عمر لشان تكون صدمتي مروعة لما ما اشوفكش في المطار مستني صديق العمر وبلعت المرارة، لكن إزاي قبلت إني أروح على بيتك علشان أوقع في سجل، تصورت إنك تكون تعبان من صدمة الانفصال، وقال جمال: يا المشير عبد الحكيم عامر ده صحيح كان السبب، وما تنساش كمان حكم البروتوكول!».
«وثار المشير عبد الحكيم عامر وقال: الانفصال ده صدمة لنا كلنا، أما البروتوكول فده كلام يقوله رئيس دولة كان أصله ولي عهد! بروتوكول إيه إحنا ناس ثوريين أنت خلاص بقيت تنام وتصحي بالبدلة الرسمي؟! مافيش فايدة في علاقتنا أنا مش قادر أنسى أني الصاغ المشير عبد الحكيم عامر، وأنت مش قادر تنكر أنك البكباشي الرئيس جمال عبد الناصر!».

المراهقة الفكرية

على هذا النحو الصريح الواضح من المراهقة الفكرية الضيقة ومردوداتها السياسية القاصرة، وعلى هذا النحو من المراهنة المعنوية الحالمة ومردوداتها السياسية القاصمة، أضاع الرئيس عبد الناصر صديقه عبد الحكيم، كما أضاع المشير عبد الحكيم عامر صديقه عبد الناصر، لكنهما قبل هذا أضاعا حلم الوحدة العربية وشوهاه، وأنهيا الآمال في وجوده، على نحو لم تسبق إليه اتفاقات سايكس بيكو نفسها.
ومن عجائب القدر أن المشير عبد الحكيم عامر نفسه الذي حُمل مسئولية الانفصال كان، كما أشرنا من قبل، هو أكثر من تحمس من بين زملاءه من بين رجال الثورة للوحدة الاندماجية مع سوريا عندما كانت مشروعًا يعرض على نطاق المناقشة والبحث بفضل حماس القادة السوريين، وكان هذا أمرًا معروفًا للعامة على نحو ما كان للقريبين من صنع القرار.

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com