من أجل الخدمات التي قدمها شخص واحد للتاريخ المصري الحديث ما قام به الأستاذ فؤاد كرم في كتابه الذي حمل اسم “النظارات والوزارات المصرية” والذي عرف بعد ذلك على أنه الجزء الأول، وهو الكتاب الذي أثبت بالترتيب الزمني كل المراسيم التي تتعلق بإنشاء وتعديل النظارات والوزارات المصرية بما في ذلك المراسيم التي تنص على قيام وزير ما بأعمال زميله على سبيل النيابة أثناء سفره أو مرضه. شمل هذا الكتاب الفترة من نشأة النظام الوزاري المصري في 1878 وحتى انتهاء عهد الملكية بإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953 وهو ما يعني أنه يشمل 11 شهراً مما تعارفنا على تسميته بعهد ثورة 23 يوليو.
أصدر مركز تاريخ مصر المعاصر طبعة من هذا الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب حين كان المركز نفسه جزءا من الهيئة طبقاً للتنظيم الذي تمّ في أوائل السبعينات، فلما ارتفعت نغمة ضرورة الفصل بين الهيئة العامة للكتاب واعتبارها الناشر فحسب وعودة دار الكتب القومية كان من الطبيعي أن تنتقل معظم المراكز العلمية إلى دار الكتب بما في ذلك مراكز تحقيق التراث وتاريخ مصر المعاصر. كنت أتمنى لهذا الجهد أن يكتمل وظللت أسعى في هذا إلى أن وفقني الله إلى نشر كتابي “التشكيلات الوزارية في عهد الثورة” وقد بدأت من حيث انتهى ذلك الكتاب، وكنت حريصاً على هذا المعنى في عنوان الكتاب الذي أشار إلى عهد الثورة، وفيما بعد صدرت طبعات من كتابي “الوزراء” متضمنا في الغلاف الإشارة إلى أنه لا يتضمن إلاعهد الثورة و كان كتابي ألوزراء تطويراً وتوسيعاً لكتابي الباكر عن “التشكيلات الوزارية في عهد الثورة”.
كان من الطبيعي أن يستأنف مركز التاريخ مصر المعاصر جهده في نشر كتاب النظارات الوزارة فنشر ثلاث مجلدات يستكمل بها جهد الأستاذ فؤاد كرم بيد أن كتابي عن الوزراء (وسابقه عن التشكيلات الوزارية) ظلَّ يحتفظ بميزات نسبية من الأسبقية في الصدور و التركيز وصغر الحجم والتنسيق وانضباط الفهارس، كما أنه شمل كثيراً من المعلومات التي لم يشملها كتاب النظارات والوزارة المصرية بسبب حرصي على مصادر كثيرة للمعلومات بينما اكتفى الباحثون الأجلاء في المركز بما كان مُتاحاً أمامهم من المراسيم والقرارات، وقد صدر عملهم بإشراف أستاذنا الدكتور عبد العظيم رمضان وعرفت هذه المجلدات في الفهارس الببليوجرافية باسم أول الباحثين المثبتين على الغلاف: يواقيم رزق مرقص.
كان من الواجب عليَّ إنصافا لنفسي أن أعقد (و أعد) دراسة لما تميّز به كتابي عن المجلدات 2 و3 و4 من كتاب “النظارات والوزارة المصرية” لكني بحكم الانشغال بالإنجاز وجدت ان مثل هذا العمل يُمثل نوعاً من أنواع التزيد والغرور الذي لا مبرّر له إلا أن تكون هناك حاجة ماسة إلى الفصل في واقعة تاريخية محددة، وهو ماحدث كثيرا طيلة ثلث قرن. ومع هذا يظل عليَّ واجب مهم تجاه المجلّد الأول من كتاب “النظارات والوزارة المصرية” وهو الكتاب الذي أتمه الأستاذ فؤاد كرم ، كما اتخذه الدكتور يونان لبيب رزق وحسن يوسف باشا متنا لكتابهما الذي حمل اسم “النظارات والوزارت” واستعرضا فيه التاريخ الحديث موازيا لتشكيل النظارات والوزارات على طريقة التأليف الأزهري في وضع الحواشي على المتون وإن كان كتابهما قد صوّر الأمر بالطريقة العكسية على أنه يضع المتن على الحاشية.
محمد على هو نفسه علوبة باشا
في هذه التدوينة أشير إلى ما في كتاب الأستاذ فؤاد كرم وكتاب حسن يوسف باشا والدكتور يونان لبيب رزق (الذي صدرت طبعته الثانية باسم الدكتور يونان لبيب رزق فقط) من بعض مواضع لا بد من الإشارة إلى الصواب فيها حتى لا يلتبس الأمر على الباحثين والمؤرخين:
الأمر الأول: هو ضرورة الانتباه إلى أن محمد علي باشا الذي بدأ يتولى الوزارة في 1925 هو نفسه محمد علي علوبة باشا، فقد كان علوبة باشا في بداية عهده يكتب اسمه بدون هذا اللقب المحبب، فلما مضى الزمن لم يجد حرجاً في أن يستعمل الاسم كاملاً، وعلى هذا النحو ظهر اسمه بالاسم الكامل حين دخل الوزارة في الأربعينيات ولهذا وجب اختصار مدخلين من مداخل الكشافات إلى مدخل واحد.
أحمد على وأحمد على علوبة شخصان لا شخص واحد
الأمر الثاني: أن القاعدة السابقة لا تنطبق على أحمد علي باشا، وأحمد علي باشا علوبة ذلك أن أحمد علي باشا وزير مخضرم كان اسمه على هذا النحو كما أن أحمد علي باشا علوبة شخص آخر وهو شقيق محمد علي علوية باشا، لكنه لم يظهر في التشكيلات الوزارية إلا في الأربعينيات في الوقت الذي كان الأخوان قد استعملا اللقب في اسميهما بعد أن كانا يختصرانه.
اثنان يحملان اسم محمود حسن باشا
الأمر الثالث: أن هناك وزيرين يحملان اسم محمود حسن باشا وقد اعتبرهما الأستاذ فؤاد كرم، وكأنهما شخص واحد، بينما هما شخصان أولهما من رجال القضاء أصبح وزيراً (1946) وثانيهما دبلوماسي كان سفيراً لمصر في واشنطن وأصبح وزيراً في (1952) وقد ذكرت في كتابي “كيف أصبحوا وزراء” أن السبب في اهتدائي إلى هذه الحقيقة أني وجدت اسم محمود حسن في وزارة ١٩٥٢ في موضع متأخر عما تُتيحه أقدميته الوزارة، فلما بحثت وجدت أن هذا غير ذاك وإن اتفقا تماماً في الاسم.
رياض عبد العزيز
الأمر الرابع: أن رياض عبد العزيز هو نفسه رياض سيف النصر لأنه هو هو رياض عبد العزيز سيف النصر، وقد كان وزيراً في نهاية الأربعينيات وترك الوزارة لسبب طريف كان موجبا لأن يترك الوزير الوزارة في ذلك العهد وهو أن أحد أقاربه المقربين من الشبان اتهم بأنه شيوعي! وقد أتبث الأستاذ فؤاد كرم المعلومات عن رياض عبد العزيز سيف النصر في موضعين وكأنه شخصان لا شخص واحد، أي على عكس ما حدث في الأمر الثالث المتعلق بمحمود حسن باشا.
الوفاة أثناء الوزارة
الأمر الخامس: أمر طريف تكرّر كثيراً وهو أن الأستاذ فؤاد كرم (وقد تابعه في هذا في بعض المواقف الباحثون الذين أتموا الأجزاء الثاني وما بعده من المجلدات) يذكر أن وزيرا ما كلف بوزارة ما على سبيل النيابة، وهذا بالطبع طبقاً لما يجده في المراسيم الوزارية، ومن ثم ينقل عنه الناقلون بطريق الاستنتاج أن الوزير الأصلي ظلّ وزيراً لهذه الوزارة حتى نهاية عهد الوزارة التي كان وزيراً لها، بينما تكون الحقيقة غير ذلك تماماً وهو أن هذه النيابة التي صدر بها مرسوم ملكي أو قرار جمهوري لم تحدث إلا بسبب وفاة الوزير الأصلي، وبالطبع فإن الوفاة لا تحدث بمرسوم ملكي ولا قرار جمهوري، وهكذا تظهر المعلومات في الكتاب أن عثمان محرم باشا حل وزيراً للأوقاف بالنيابة عن إسماعيل رمزي باشا بدون الإشارة إلى سبب هذه النيابة وهو أن إسماعيل رمزي توفي وهو وزير فإذا جاء المعنيون بتسجيل لوحة الوزراء السابقين في وزارة من الوزارات نسبوا إلى الوزير المتوفى الفترة التي كانت الوزارة فيها بانتظار وزيرها الجديد..
وقد صادفت هذا كثيرا في حضوري لقاءات واجتماعات بمكاتب الوزراء فكنت أبتسم بيني وبين نفسي، إلا إذا كان الوزير منتبها وسألني عن وقوفي بالأطلال وقصصت عليه القصة. أما الوزراء الذين توفوا في أثناء شغلهم مناصب الوزارة فكثيرون لكن قليلين منهم من تركوا أثر الحزن بسبب وفاتهم المفاجئة، وكان من هؤلاء الدكتور محمد النبوي المهندس والدكتور حسن الشريف والدكتور أحمد فؤاد شريف وجندي عبد الملك والمهندس حمدي الشايب لكن أبرزهم كانوا الدكتور أحمد فؤاد محيي الدين والمشير أحمد إسماعيل والفريق أول أحمد بدوي الذي مُنِحَ رتبة المشير عقب وفاته، ومن الطريف أنه في عهد غياب المعلومات أراد أحد اساتذتنا أن يذكر تاريخ وفاة المشير بدوي ضمن دراسة من دراساته فضاع منه أسبوع كامل بلا أمل في أن يعثر على إجابة، فنشر المقال قافزاً على التاريخ وهو مضطر، فلمّا هاتفني بعدها ووجد الإجابة حاضرة سألني عن مصدري فأجبته بأنه مفكرتي اليومية التي هي مصدر من مصادر التاريخ الحي فأقرّني على هذا الوصف وهو مُمتن أشد الامتنان حتى إنه قال: لمثل هذا اخترعوا المفكرة. رحم الله الباحث العظيم الأستاذ فؤاد كرم الجندي المجهول الذي كان صاحب الفضل في هذا الجهد وهذا السبق وهذا المقال.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا