حسين فخري باشا 1843 ـ 1910 رمز من رموز الاستقلال الوطني المصري لم يلق حتى الآن حظه من التكريم ولا التقدير لأن الظروف مضت تلو الظروف فحالت دون الحديث الجاد عن دوره في الاستقلال ومكافحة الاستعمار والتبعية، كان حسين فخري باشا أول وزير مصري يستقيل من منصبه احتجاجا على عدم تفهم المستشار الإنجليزي لوزارته لرؤيته في وضه القوانين والنظم تبعا لطبيعة الحياة المصرية والتشريعات المصرية، وكان خلافه مع المستشار الإنجليزي لوزارة الحقانية “سكوت” أبرز خلاف في ذلك الزمن إن لم يكن الخلاف الوحيد وقد دفعه هذا الخلاف إلى ان يُضحّي بمنصبه الوزاري في 1890 في نهاية عهد الخديو توفيق، وبهذا شرع للوزراء المصريين القدرة على الخلاف مع المستشارين الانجليزيين والتمسك بما يرونه حقاً، وهو ما وظفه سعد زغلول باشا حين أصبح وزيراً للمعرف حيث استطاع أن يُناطح المستشار الإنجليزي الشهير دنلوب رأساً برأس، صحيح أن سعد زغلول كان محظوظاً بوقوف لورد كرومر بجواره في كثير من الخلافات، وهو ما قلّص من نفوذ دنلوب، وضخّم من نجاحات سعد زغلول، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن دور حسين فخري باشا كان سابقاً على دور سعد زغلول باشا، وربما أن هذا، من ناحية أخرى، هو السبب الذي جعل حسين فخري باشا لا يعاني في الكتابات التاريخية من التعريض بصداقته للورد كرومر على نحو ما نال سعد زغلول من هذا التعريض والهجوم الذي لا يزال مُستمراً.
رئيس الوزراء الذي أقاله لورد كرومر بعد ثلاثة أيام فقط
كان حسين فخري باشا في تصور الخديو عباس حلمي (وفي رأيي أيضا) قادراً على أن يُقدم لمصر كيانا وزاريا قوياً، وكان هذا هو السبب الذي جعل لورد كرومر يُسارع بالاحتجاج على إسناد رئاسة الوزارة إليه، وقد بلغ البريطانيون أقصى درجات الغضب في إبداء احتجاجهم على اختياره لرئاسة الوزارة حتى إنهم حركوا أسلحة وأصدروا بيانات، وحرّكوا قوات، وفرضوا حالة من حالات الهجوم العسكري الحقيقي على الخديو عباس حلمي الذي كان لا يزال في بداية عهده بالحكم كما انه كان لا يزال دون العشرين من عمره.
في مجال الهندسة والري والطرق فإن حسين فخري باشا هو الذي أنجز في عهده خزان أسوان القديم، وكلمته في افتتاحه 1902 تمثل قمة النجاح والإنجاز والتوفيق
تكوينه ومكانته بين أسلافه
حسين فخري باشا هو أول رؤساء الوزارة المصريين الذين تلقوا تعليما مدنيا في أوروبا بعد أن تعلموا في مصر، توفي في نفس العام الذي توفي فيه بطرس غالي، والراجح عندي أنهما ولدا في نفس العام ١٨٤٣ بيد أن سطوة عائلة بطرس غالي على التاريخ المكتوب آثرت لتاريخه أن يكون مولودا في ١٨٤٦، وهما يمثلان مع مصطفي فهمي باشا (المولود١٨٤٠) الجيل الثاني من رؤساء الوزراء المصريين من حيث تاريخ مولدهم، بعد جيل الباشوات نوبار ورياض وراغب، والذين دخل في وسطهم البارودي المولود ١٨٣٩، وقبل الجيل الذي ينتمي إليه الباشوات سعد زغلول وعدلي ورشدي وسعيد وزيور ويحيى إبراهيم، وهكذا فإن حسين فخري باشا ينتمي بالمولد إلى نهاية العقد الذي ولد فيه سلفه في رياسة الوزارة مصطفي رياض باشا أصغر رؤساء الوزارة الثلاثة الأوائل (ولد رياض في 1834 وولد حسين فخري في 1843)، وقد توفي هو قبل رياض باشا بعام واحد. وإذا أردنا تصوير قيمة المكانة والقدرة التنفيذية والسياسية لفخري باشا في عصره، فإنه يكفينا أن نذكر أنه تولى وزارة الحقانية وهو في السادسة والثلاثين، أن بطرس غالي باشا، بكل ما حظي به من تدليل ودفع للأمام لم يصبح وزيرا، إلا عندما أصبح فخري باشا نفسه رئيسا للوزراء بعد ١٤ عاما من توليه الوزارة.
مآثره في وزارة المعارف
يذكر لحسين فخري باشا كثير من الإنجازات في مجال التربية والتعليم في الفترة القصيرة التي تولى فيها وزارة المعارف ومن هذه الإنجازات إنجاز مُبهر في فكرته ودلالته حيث قرر أن يُشجع تعليم البنات بأقصى مما كان ممكنا من تشجيع، فجعل الإعانة التي تقدمها الوزارة للكتاتيب الأهلية تتضاعف عن كلّ تلميذة، وكأن التلميذة الواحدة بتلميذين، وهي فكرة ذكية وعملية ومُنجزة. على صعيد ثان اهتم حسين فخري باشا بإعداد المدرس قبل توظيفه، فأسس في مرحلة مبكرة مدرسة المعلمين الأهلية التي وُجدت على يديه هو 1904، كما أنه هو الذي أنشأ مدارس خاصة بتخريج معلمات الكتاتيب وهي مرحلة من إعداد وتعليم المدرسين تمثل المرحلة الأقل درجة من المعلمين الأولية، وبدأ جهوده في هذا المجال من خلال قسم للمعلمات في مبنى مدرسة السنة الثانوية.
على صعيد آخر كان حسين فخري باشا أول من اهتم اهتمام مؤسسيا بالمباني التعليمية فخصّص لجاناً هندسية تتولى صيانة هذه المباني، بل إنه صاحب الفضل في إنجاز عدد من البنايات التعليمية الضخمة التي لا تزال قائمة حتى عصرنا هذا كالمدرسة السعيدية والمدرسة السنية كما أنه هو الذي أنشأ مبنى دار العلوم القديم القائم في حي المنيرة، وكانت دار العلوم في ذلك الوقت تُسمّى بمدرسة المعلمين الناصرية. وقد استمر بدعم هذا الاتجاه متعاونا مع خلفه حين انفرد هو بوزارة الأشغال وخلفه سعد زغلول في وزارة المعارف، وعلى صعيد رابع فإنه في عهد حسين فخري باشا كوزير للمعارف انتعشت مؤسسات وطنية حضارية من قبل المعهد العلمي والجمعية الجغرافية ولجنة حفظ الآثار العربية ولجنة العاديات المصرية، ومع هذا كله فقد كان حسين فخري باشا أول من قرّر تدريس الدين والسلوك في التعليم الابتدائي 1897.
إنجازاته في مجال المباني والأشغال العامة
وفي مجال الهندسة والري والطرق فإن حسين فخري باشا هو الذي أنجز في عهده خزان أسوان القديم، وكلمته في افتتاحه 1902 تمثل قمة النجاح والإنجاز والتوفيق، كما أنه هو الذي أنشأ أكبر عدد من القناطر بتولي وزير واحد للأشغال إنشائه، وزوّد القناطر الخيرية نفسها بالهدارات الفاصلة، وبهذا مكن مصر من الدخول في مرحلة من مراحل التخزين السنوي وضبط النهر، وتطوير نظام الصرف وري الحياصة بالوجه القبلي، أما آثار حسين فخري باشا الخالدة في الأبنية الحضارية والثقافية فتتمثل في مبنى المحكمة الأهلية التي تُسمى الآن محكمة جنوب القاهرة بباب الخلق، وفي الناحية الأخرى من ذلك الطريق السلطاني العظيم تقوم مباني دار الكتب، ومتحف الفن الإسلامي فضلاً عن المتحف المصري.
في الحقانية
وفي عهد حسين فخري باشا المبكر كوزير للحقانية (في الثمانينات من القرن الثامن عشر) بدأت الجهود التي تولت تنظيم المحاكم الشرعية ووضع لوائحها على نمط حضاري. كما عمل على تحويل المجالس القديمة إلى محاكم أهلية، ووضع مشروعات القوانين الخاصة بهذه المحاكم.
نشأته وتعليمه
ولد حسين فخري باشا بقصر والده في منطقة المغربلين بالقاهرة في 25 سبتمبر 1843، كان والده جعفر صادق باشا الشركسي حكمدار للسودان 1865 ومن الطريف أنه سمى أحد ابنيه باسم والده جعفر وكان محاميا بارزا، أما ابنه الأشهر فهو محمود فخري باشا زوج الأميرة فوقية الابنة الكبرى للملك فؤاد وعمل وزيرا ثم سفيرا لمصر في باريس.
تلقي حسين فخري باشا تعليما مدنيا في المدارس التي أسسها محمد على باشا في مصر، وأتم تعليمه المدني المصري بأن حصل على أعلي الشهادات الدراسية المتاحة في سن العشرين، وصدر أمر بتعيينه معاونا بمحافظة القاهرة (7 مايو 1863)، وقضى في هذه الوظيفة سنة ونصف سنة، ثم صدر الأمر في 13 نوفمبر 1864 بنقله معاونا في وزارة الخارجية، وبقي بها لمدة عامين، وأوفدته الحكومة (يناير 1867) مندوبا في معرض أوروبي ضمن الوفد الذي بعثت به ليمثلها في المعرض التي أقيمت في ذلك العام، وبذل والده مساعيه حتى حصل على الموافقة بإلحاقه بالبعثة التعليمية في فرنسا، لكنه اضطر للعودة إلى مصر بسبب الحرب، ثم عاد إلى فرنسا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وعاد إلى مدينة اكس، وتخرج في جامعتها، وكان يفخر بأن شهادته قد “مهرت” بتوقيع الفيلسوف الشهير جول سيمون ١٨١٤- ١٨٩٦ والذي كان رئيسا لوزراء فرنسا ١٨٦٧- ١٨٧٧ .
صعوده الوظيفي
نال حسين فخري باشا تشجيع الخديو إسماعيل الذي منحه الرتبة الثالثة في 22 نوفمبر 1874، وبهذا تخطي حسين فخري باشا رتبتين دفعة واحدة، وهما الخامسة والرابعة، وانضم إلى كبار الموظفين في وزارة العدل، ولم تمض سبعة شهور حتى عين وكيلا للأهالي لدي النائب العمومي بالمحاكم المختلطة، وقضي في هذه الوظيفة أربع سنوات. وفي 21 سبتمبر 1879 (حين كان في السادسة والثلاثين من عمره) أصبح وزيرا للحقانية في النظارة (الوزارة) المصرية السادسة المشكلة برئاسة رياض باشا في السنة الأولى من عهد الخديو توفيق، وواكب هذا أن ترقى من الرتبة الثالثة إلى رتبة الميرميران، وظل حسين فخري باشا وزيرا للحقانية حتى استقالت وزارة رياض باشا (9 سبتمبر 1881).
تولي حسين فخري بعد ذلك رئاسة مجلس إدارة بنك مينا البصل (نوفمبر 1881)، وكان في ذلك العصر من بيوت المال التجارية المشهورة. عاد إلى دخول الوزارة في وزارة شريف باشا الرابعة (أغسطس ١٨٨٢) وصدرت في عهده مجموعة من القوانين المهمة ومنها القانون النظامي، وقانون الانتخاب، كما ظهرت المحاكم الأهلية ونظامها الجديد، وبقي إلى أن استقالت هذه الوزارة (7 يناير 1884) حيث خلفتها وزارة نوبار باشا الثانية، وفي ١٨٨٥ انتدبته الحكومة لحضور المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس للإقرار بحياد القناة، وفي تلك الزيارة منحته فرنسا وسامها العلمي.
عاد حسين فخري إلى منصب الوزارة مرة ثالثة (1888) في وزارة رياض باشا الثانية، وبقي فيها إلى نهاية عهدها (مايو 1891). وواصل عمله الوزاري في الوزارة التي خلفتها وهي وزارة مصطفي فهمي باشا الأولى، لكنه استقال وحده منها في أواخر تلك السنة فلم يكن من الوزراء الذين شهدوا الانتقال من عهد الخديو توفيق إلى عهد الخديو عباس حلمي الذي ورث من والده وزارة مصطفى فهمي باشا، وبعد عام من تولى الخديو عباس حلمي الحكم عهد إلى حسين فخري باشا بتشكيل وزارة جديدة فشكلها في ١٥ يناير (1893)، لكن رئاسته للوزارة لم تدم سوي ثلاثة أيام فقط، وهي أقصر وزارة في تاريخ مصر الحديث. ومع أن رياسته للوزارة لم تزد على ثلاثة أيام فإنها شهدت دخول وزيرين جديدين للوزارة هما أحمد باشا مظلوم للحقانية وبطرس غالي باشا للمالية، وقد رأس أولهما البرلمان ورأس ثانيهما الوزارة.
وقد خلفه في رياسة الوزارة رئيسه السابق مصطفى رياض باشا (وذلك كحل وسط بين اختياري الخديو والمندوب السامي) ثم تشكلت وزارة نوبار باشا الثالثة (إبريل ١٨٩٤) فتولي حسين فخري باشا فيها وزارتي الأشغال العمومية والمعارف العمومية، وبقي في منصبيه هذين في الوزارة التالية وهي وزارة مصطفي فهمي باشا، لكنه قرب نهاية العمر الطويل لهذه الوزارة ترك وزارة المعارف (1906) ليخلفه فيها سعد زغلول، وانفرد بوزارة الأشغال العمومية حتى نهاية عهد هذه الوزارة، توفي حسين فخري في 23 ديسمبر 1910 عن 66 عاما.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا