كان عبد الله فكري باشا (1834 ـ 1890) وزير المعارف في عهد الثورة العرابية، وفي وزارة البارودي باشا شاعرًا تقليديًا، وثائرًا مجددًا، وكان رجل علم، وصاحب دور في الحياة العامة، وهو الذي تصدى لتحقيق آمال الأستاذ الإمام محمد عبده في الإصلاح والتقدم وسط لهيب النار في الثورة العرابية، وذلك على الرغم من الاختلاف الدقيق في موقف كل منهما من هذه الثورة.
يعود معظم الفضل في الانتباه إلى أهمية كتابة تاريخ عبد الله باشا فكري، بل والبدء في كتابة هذا التاريخ إلى الأستاذ الإمام الأستاذ محمد عبده، أما وصف شاعريته فالفضل فيه للأستاذ العقاد ، وأما كتابة سيرة حياته على نحو موسع فقد اضطلع بها الأستاذ محمد عبد الغني حسن وعنه نقل كثيرون .
أسرة عربية استوطنت المنيا
ذكر جورجي زيدان نسبه على النحو التالي: «عبد الله باشا فكري بن محمد أفندي بليغ بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد»، وذكر أن جده الشيخ عبد الله كان من العلماء المدرسين في الجامع الأزهر، وكان مالكي المذهب، وقد أخذ العلم عن الشيخ عبد العليم الفيومي وغيره، وكان مقيما في مصر حين قدمت الحملة الفرنسية، فلما أساؤوا معاملة العلماء رحل إلى منية خصيب (هي المعروفة الآن باسم: المنيا) فأقام بها مدة ثم عاد إلى القاهرة، وعكف على الاشتغال بالعلم حتى توفي .
أما أبوه محمد أفندي بليغ فقد درس في المدرسة الحربية، وانتظم في خدمة الجيش وترقى إلى رتبة «صاغ قول أغاسي»، وقد حضر في أثناء خدمته عدة مواقع حربية أهمها حرب المورة، وكانت لهذه الموقعة أهمية شخصية في حياته حيث تزوج فيها زوجته التي أنجبت له ابنه عبد الله، وقد تصادف أن ولادته تمت في مكة المكرمة التي كان والداه قد انتقلا إليها بسبب ظروف عمل الوالد .
تربى عبد الله باشا فكري وتنقل مع والده محمد أفندي بليغ الذي عاد إلى القاهرة وظل في خدمة الحكومة ، حتى نال منصب باشمهندس الشرقية، ثم مفتش هندسة الجيزة والبحيرة.
ويشير الأستاذ عبد المنعم شميس إلى أن اسمه المركب عبد الله فكري كتب هكذا بمعرفة السلطة الحاكمة، وقد كان من تقاليد ذلك العصر أن هذه الأسماء كانت تمنح للموظفين مع قرار تعيينهم في وظائفهم، فهي أسماء مزدوجة لا علاقة بها بالآباء والأجداد، وكأنها أسماء شهرة، أو كأنها الأسماء الفنية التي يعرف بها النجوم في السينما والمسرح.
جعل عبد الله فكري باشا من آية قرآنية شعارًا له ونقشها على خاتم له كان يختم به كتبه. ويشير الأستاذ العقاد إلى أن سلوك عبد الله فكري في اتخاذه خاتما كان صدى لشارات الكتاب وذوي المناصب الوزارية في أيام العباسيين ، ومن حذا حذوهم من الفاطميين والأيوبيين.
توفي والد عبد الله فكري باشا وهو لم يتجاوز الحادية عشرة، وتولى بعض أقارب أبيه تربيته، وكان قد بدأ يتعلم القرآن الكريم فأتمه وجوده، ثم طلب العلم في الجامع الأزهر الشريف، ودرس العلوم المتداولة: اللغة والفقه والحديث والتفسير والعقائد والمنطق ؛ وكان من أساتذته: الشيخ إبراهيم السقا، والشيخ محمد عليش، والشيخ حسن البلتاني . وقد تلقى بالتوازي لدراسته في الأزهر دروسًا في اللغة التركية حتى أتقنها، وقد ساعده على إتقان التركية أن والدته كانت كما ذكرنا من بلاد المورة ، وقد أهله تعليمه المتميز لأن ينال وظيفة في القلم التركي ، وظل بعد نواله هذه الوظيفة مواصلًا طلب العلم في الأزهر فيما قبل ذهابه للعمل في الديوان وبعد رجوعه منه.
وقد كان هذا النموذج من عارفي اللغتين العربية والتركية مطلوبًا في دولة محمد على وخلفائه، لذلك كان عبد الله فكري مؤهلًا من البداية للوصول إلى المناصب الرفيعة، غير أن هذه المناصب لم تكن هي السبب في شهرته، فقد كانت له مواهب خاصة جعلته أديبا شاعرا كاتبا، كما أنه كان يتقن اللغة الفارسية أيضا إلى جانب العربية والتركية.
تصوير الأستاذ العقاد لنشأته
أجاد الأستاذ العقاد تصوير البيئة التي نشأت فيها موهبة عبد الله فكري، وأرجع هذا إلى ما شهدته القاهرة من قيام إمارة حديثة في أوائل القرن التاسع عشر، وأن هذه الإمارة (يقصد إمارة محمد على وأولاده من بعده): «قامت معها دواوين شتى بعضها للحكم والسياسة، وبعضها للكتابة والتعليم وما اقتضاه هذا من عودة الذكري بالأدباء من طلاب الوظائف الديوانية إلى مأثورات القاهرة في عهد صلاح الدين وإخوانه من ملوك الدولة الأيوبية، وأصبح القاضي الفاضل وابن مطروح وبهاء الدين زهير قدوة مأمولة لكل موظف أديب متطلع إلى رئاسة الإنشاء ، وما إليها من الدواوين العالية، وأصبحت الرسالة المسجوعة والطرائف المنظومة وحل الألغاز ووصف البساتين والنفائس والرياضات التي تعودها السراة القاهريون وشاع النظم فيها بين الأدباء من عهد الدولة الأيوبية، عنوانا لظرف الظريف، وسمت الوزير الناثر، وشارة النديم المصاحب للملوك والأمراء، ونشأ بين وزراء المصريين طائقة تشبه وزراء الأيوبيين والعباسيين من قبلهم في النشأة والثقافة والمروءة والمكانة. فهم إما معلمون لولاة العهود، أو كتاب ومشيرون لأصحاب العروش».
«وهؤلاء الأدباء الوزراء أو المتطلعون إلى مناصب الوزارة والرئاسة هم الذين طولوا أيام البقاء لأدب «الرسائل والجناسات والألغاز» حتى قضت عليه مدرسة الداعين إلى العربية الأولى، ومدرسة الداعين إلى أدب الطبع في وقت واحد، لأن أدب الرسائل والجناسات والألغاز كان هو الأدب المختار عند أمثال القاضي الفاضل، وابن مطروح، والطبقة التي تمادت بعدهم على هذه الطريقة، وكانت هذه الطبقة قدوة «الديوانيين» من أدباء الإمارة الحديثة».
على هذا النحو نستطيع أن نفهم البدايات التي صادفها عبد الله فكري وهو يكون نفسه لمجد متوقع في وظائف الدولة وفي كيانها.
وقد تنقل عبد الله فكري ما بين الديوان الكتخدي ثم ديوان المحافظة ثم ديوان الداخلية بصفة مترجم.
أستاذيته للأسرة العلوية
ألحق عبد الله فكري باشا بالمعية السنية في عهد سعيد باشا، وبقي فيها حتى تولى الخديو إسماعيل الحكم فأبقاه في معيته وسافر معه إلى الآستانة في زيارته التي استهدفت تغيير قاعدة تقليد الولاية ، كما رافقه في أكثر رحلاته، كما سافر إلى الآستانة أكثر من مرة مع الخديو، وسافر أيضًا مع أسرته، وفي مهمات أخرى، وقد نال الرتبة الثانية مع لقب بك.
وفي عهد الخديو إسماعيل ايضا اختير عبد الله فكري مدرسا لأمراء الأسرة الحاكمة(!!) ومنهم ولي العهد (محمد توفيق) وأخواه الأمير حسن و السلطان حسين وغيرهم من أمراء أسرة محمد علي، وبذلك أصبح يدخل من باب قصر عابدين، وأصبح من أقرب المقربين للخديو. وسرعان ما أصبح أستاذ الأمراء ومعلمهم واحدا من كبار المعلمين في عصره، وكان الخديو قد قلده المسؤولية عن الدروس الشرقية، وهي العربية والتركية والفارسية.
وكان عبد الله فكري باشا يتولى مهمة التعليم بنفسه أحيانًا، وفي أحيان أخرى كان يقوم بمراقبة غيره من المعلمين وملاحظة إلقاء الدروس وتقويم طريقة التعليم.
وبعد فترة من عمله في المعية نُقل للعمل في ديوان المالية ، لكنه لم يعين في وظيفة محددة، بيد أنه سرعان ما عهد إليه بالنظر في تقييم الاستفادة من الكتب التي كانت محفوظة في الديوان على ذمة الحكومة، وبعد دراسة هذه الكتب رفع تقريرا مفصلا ضمنه بيانها وما رآه في حالها ، وذكر في تقريره أن بقاءها على حالتها لا يمكن من حفظها، ولا من الانتفاع بها، وأشار بلزوم جعلها على هيئة ينتفع بها الناس إما بإنشاء «محل خاص تنقل إليه ويجعل فيه ما فيه الكفاءة لها من الخزائن وتوضع به على الوضع الموافق، وإما بإحالتها على المدارس لتودع في المكتبة الجاري إنشاؤها بمساعي المرحوم على باشا مبارك ناظر المعارف إذ ذاك»، وقد حبذ الوجه الثاني، وهكذا كان له فضل كبير في استنقاذ تلك المجموعة من الكتب النفسية من زوايا الخمول والإهمال، وترتيبها ترتيبا حسنا في دار الكتب الملكية الشهيرة.
وفي هذه الفترة كان المجلس الخصوصي إذ ذاك (وهو ما صار بعد ذلك مجلس النظار) يعمل في جمع اللوائح والقوانين وتنقيحها وتعديلها، فعهد إلى عبد الله فكري بالمساعدة في ذلك العمل فتسلم القوانين واللوائح التركية وأخذ في إعادة صياغتها وتنقيحها، وقد أثبت نجاحا في هذا العمل، أضاف به إلى قدراته الأدبية وإلى دوره في خدمة أسلوب الكتابة العربية وتوطئته للحضارة .
عمله في المعارف مع على باشا مبارك
وفي 1871 كان أول عهد عبد الله فكري باشا بالعمل في إدارة أمور التربية والتعليم، حيث عين وكيلا لديوان المكاتب الأهلية تحت رئاسة على باشا مبارك ، وفي هذه الفترة ظهرت مواهبه وتأكدت: موظفا متيقظا نشيطا، عارفا بكل صغيرة وكبيرة، وكأنما كانت هذه الفترة فرصة إعداد وتدريب ليكون ناظرا أو وزيرا للمعارف على نحو ما حدث بعد ذلك بما يزيد قليلا على عشر سنين. وفي هذه الفترة بدأت علاقته بعلى مبارك، وهي العلاقة التي ظلت وثيقة . وقد تأثر عبد الله باشا فكري بأفكار على مبارك في التعليم قبل أن يعرف الشيخ محمد عبده ويطعم أفكاره بأفكاره، وفي هذه الفترة أصبح عبد الله فكري بمثابة الرجل الثاني بين رجال الدولة المسؤولين عن المعارف، وكان على باشا مبارك يعد في ذلك الوقت «أبا للتعليم » في مصر. ويذكر لعبد الله فكري نجاحه في رفع مستوى المكاتب الأهلية في عهد وكالته لديوانها، كما يذكر له تعديله لبرامجها بعد أن كانت نوعًا من الكتاتيب، وهو ما أدى إلى إقبال الناس على إدخال أبنائهم فيها، لأنهم وجدوا فيها شيئا جديدا مفيدا لم تألفه البلاد من قبل.
وقد لخص الشيخ محمد عبده الإشادة بجهد عبد الله فكري في هذه الفترة حيث يقول:
«وكانت المكاتب أول ما تولاها (الضمير يعود على عبد الله فكري) في أدنى درجة من النظام، ولم تكن إلا من النمط الذي يسمى الآن كتاتيب، ثم ارتقت في عهده إلى أن صارت حافلة بمبادئ العلوم النافعة، خصوصا العلوم العربية التي رفع منارها وأعلى شأنها، وجعل أسلوب تعليمها على الطريقة المؤدية إلى الغرض من دراستها، فوضعت القوانين لسير التعليم في تلك المكاتب، ورتبت دروسها على الوجه الموصل إلى الغاية منها، ورسخت في الانتظام قواعدها، وظهرت للعامة والخاصة فوائدها، وأقبل الناس عليها وانثالوا بأبنائهم إليها، حتى أصبحت حافلة بالتلامذة، يتولى أدبهم أفضل الأساتذة، وصارت مادة غذاء للمدارس الأميرية (يقصد أنها صارت رافدًا من روافد تغذية هذه المدارس بالمتعلمين المستحقين للتعلم) ، وسلما يرقى عليه إلى المدارس الخصوصية».
توليه وكالة المعارف
وفي 1876 عين عبد الله فكري باشا وكيلا لديوان المعارف العمومية، وكان ناظرها حينذاك هو رياض باشا، وقد حقق الأستاذ محمد عبد الغني حسن تاريخ توليه هذا المنصب مصححًا ما ذكره جورجي زيدان، وتابعه فيه المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن عبد الله فكري عين وكيلا للمعارف (1879)، وقد نقلا المؤرخان العظيمان (زيدان والرافعي) هذا عن كاتب سيرة عبد الله فكري في مجلة «المقتطف» (1891)، ولكن محمد عبد الغني حسن اكتشف أن هذا يخالف دليلا تاريخيا آخر قويا، وهو أن عبد الله فكري كتب بحثه عن «العلوم الطبيعية والنصوص الشرعية» في الجزء العاشر من السنة الأولى من المقتطف (1876)، وقدمت المجلة للبحث بأنه «من قلم وكيل رياض باشا في نظارة المعارف، العالم الشهير عبد الله فكري» .
ومن الإنصاف أن نضيف إلى التصحيح تصويبًا آخر وهو أن المعارف في ذلك الوقت كانت ديوانًا إذا لم يكن مجلس النظار قد تأسس إلا في 1878 .
وهكذا يعود الفضل في اختياره وكيلا للمعارف إلى مصطفى رياض باشا حين كان ناظرًا لها (1876)، وهو الذي اختاره وكيلا للمعارف، وإن نسب هذا الفضل خطأ إلى علي مبارك، وليس هذا بخطأ كامل كما صوره الأستاذ محمد عبد الغني حسن ، وإنما هي معلومة لها نصيب من الصواب ، فقد كان عبد الله فكري وكيلاً لمصطفى رياض في ديوان المعارف كما كان وكيلاً لعلي مبارك في نظارة المعارف ، ومما يسهل الاختلاط في مثل هذا الأمر أن عبد الله فكري عمل من قبل وكيلا لعلى مبارك في إدارة المكاتب، كذلك فإنه أصبح وكيلا للمعارف في عهده حين أصبح على مبارك باشا ناظرًا للمعارف (أغسطس 1878)، عند بداية تشكيل النظارات المصرية وقد كان عبد الله فكري لايزال وكيلا للمعارف فاستبقاه في هذا الموقع، وهو الذي كان قد عمل معه وكيلًا للمكاتب من قبل، وهكذا جمع العمل بين الرجلين الكبيرين مرة بعد أخرى، كما جمعت بينهما الصداقة المتجددة.
وفي هذه الفترة نال عبد الله فكري رتبة ميرميران الرفيعة.
في المجلس الأعلى للمعارف
وفي مارس 1881 صدر مرسوم بإنشاء المجلس الأعلى للمعارف وتحددت مهامه في إبداء الرأي فيما يخص سياسة التعليم ومشروعاته، وإنشاء المدارس الجديدة، ونظام المدارس عامة.
وقد تشكل هذا المجلس برئاسة ناظر المعارف حينذاك على باشا إبراهيم ( وهو ذلك الوزير القديم الذي يطلق عليه كاتب هذه السطور في تحقيقاته التاريخية اسم علي باشا ابراهيم الأول وذلك تمييزًا له عن على باشا ابراهيم (الثاني) رائد الطب المصري الحديث)، وعضوية أربعة وعشرين عضوًا من رجال العلم والفكر والأدب و الدين والقضاء والطب والمعلمين، واختير عبد الله فكري باشا، وكيل وزارة المعارف عضوا في هذا المجلس، وكان من أعضاء المجلس: على مبارك باشا، وكان يشغل حينذاك منصب ناظر الأشغال العمومية بعد أن ترك المعارف التي كان يجمع بينها وبين الاشتغال .
والواقع أن اشتراك عبد الله فكري في هذا المجلس الجديد قد أعده ـ بجانب عمله في وكالة المعارف للإلمام الواسع بحاجات التعليم في البلاد، وفي وضع التصور الكفيل بالارتقاء بالحياة التعليمية لمصر على نحو ممكن من خلال الموارد المحدودة والرغبات الطموحة إلى التقدم.
توليه الوزارة في اثناء الثورة العرابية
لما جاءت وزارة محمود سامي البارودي الشاعر الفارس الأديب ، وكان عليه وعلى مؤيدي عرابي باشا أن يختاروا من الوزراء مَنْ يطمئن إليهم قادة الحركة الوطنية، مع مراعاة إرضاء الشعور الوطني الذي أخذ يظهر بشكل واضح بعد أزمة يناير (1882)، وبعد مذكرة إنجلترا وفرنسا إلى مصر كان اسم عبد الله فكري في قائمة المرشحين للوزارة. واستقر رأي النواب الخمسة عشر الذين اجتمعوا في سراي البارودي، على الوزراء الذين رئي إدخالهم في الوزارة، وكان بينهم عبد الله فكري الذي اختير لتولى وزارة المعارف (4 من فبراير 1882م).
ومن الجدير بالذكر أن عبد الله فكري نفسه اختار لوكالة الوزارة [في عهده هو كوزير ] على فهمي رفاعة باشا، الذي هو ابن الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، وكان على رفاعة باشا رجلًا من البارزين بعلمهم وشخصهم، ولم يكن غريبًا على عبد الله فكري ولا جديدًا عليه، فقد عقد الود بينهما أمتن أواصره، وقد حفظ التاريخ رسائل إخوانية للرجلين تدل على صدق المودة، وارتفاع الكلفة، وقد زادت هذه المودة بعدما جمعهما العمل الواحد في وزارة واحدة.
موقفه من الثورة العرابية
تعددت الروايات في شأن حقيقة موقف عبد الله فكري من الثورة العرابية، وهو الذي كان واحدًا من وزراء الثورة، ونحن نميل بعد أن فحصنا هذه الروايات إلى ما رآه محمد عبد الغني حسن بعد تحقيق من أن عبد الله فكري لم يكن عرابيًا، ولا من أنصار عرابي، وإنما كان محل ثقة العرابيين، وربما يرى بعض القراء غرابة في مثل هذا الرأي فكيف لوزير في وزارة الثورة أن يكون بعيدًا عنها أو متحفظا عليها، ولست أحب أن أدعي القدرة على الوصول إلى ما لم يصل إليه أحد، وقد سبقني الأستاذ محمد عبد الغني حسن إلى تحقيق الأمر على نحو دقيق، لكني أكتفي بأن أذكر القراء على سبيل المثال أن مصطفى فهمي باشا (والد صفية زغلول زوجة سعد زغلول) الذي كان معروفًا على أنه رجل الإنجليز كان وزيرًا في هذه الوزارة!! وزارة الثورة العرابية .
ومن الواضح أن عبد الله فكري لم يكن من أعداء الثورة العرابية، ولا من المتآمرين عليها، وإنما كان أقرب إليها من كثيرين، بل كان مؤيدًا لتوجهاتها، وقد نال ثقة العرابيين مرة واثنتين وثلاثة، وقد جاءته هذه الثقة كرجل وطني لا شك في وطنيته كما جاءت بداياتها نتيجة اختبار فرضته الظروف والحوادث فيما قبل الثورة، وكان هذا الاختبار هو موقفه من التحقيق مع الشيخ محمد المهدي شيخ الأزهر.
ولهذا قصة، فقد كان غرض العرابيين في وزارة شريف أن يتخلصوا من معارضيهم ومخالفيهم في سياستهم حتى يخلو الجو لهم ، وكان الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر على رأس المعارضين لهم، والتمس العرابيون الأسباب لعزل الشيخ من المشيخة، وأخذوا يكثرون من الشكايات التي اصطنعوها من رجال الأزهر حول نظام الامتحان لإجازة العلماء بالتدريس، وكأنهم كانوا لا يريدون وضع أي نظام لتخريج العلماء! مكتفين من العلماء بالحضور على نحو ما يحدث في المدارس العسكرية، ولم يكن هذا في مصلحة الأزهر ولا العلم، لكن طغيان السياسة كان كفيلا بأن يساعد هؤلاء على أن يقلبوا محاسن الرجل إلى عيوب.
وقد ألفت الحكومة لجنة للتحقيق برئاسة أحمد رشيد، وعضوية ثلاثة من الباشوات كان عبد الله فكري أحدهم، فلم تر اللجنة في شكاوى العلماء ضد شيخهم إلا الافتعال والاصطناع، لكنها رأت حسما للنزاع، وصدا لتيار الدسائس ضد شيخ الأزهر أن تبقيه في منصب الإفتاء، وأن تسند مشيخة الأزهر إلى عالم آخر، وبالطبع لم تصرح اللجنة بعزله من المشيخة، لكن إسناد المشيخة إلى غيره يعني أنها قد صرفت عنه، أو صرف هو عنها.
وفي نظر أستاذنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن أن قرار اللجنة التي ضمت عبد الله فكري كان قرارًا تمليه الكياسة، وتوجبه الحكمة، «فلم يكن من المعقول أن تقف اللجنة أمام تيار لم تكن قادرة على الثبات فيه، فقد كان عرابي يومذاك وكيلا لوزارة الحربية، وكان له رأي في تشكيل الوزارة الشريفية الثالثة، وكان ثملا بخمر الانتصار، فلم يكن من الفطنة الوقوف أمام رغباته».
وهكذا قدر لعبد الله فكري أن يثبت، في مرحلة مبكرة، قدرته على الوصول إلى حل وسط يكفل للثوار مظهر الانتصار دون أن يتجنى كثيرًا على الحقيقة، وعلى المصلحة الحقيقية.
تعظيمه لدور وزارة المعارف
من المهم أن نتناول الدور الذي لعبه عبد الله فكري كوزير للمعارف على الرغم من قصر فترته في هذا المنصب. يذكرنا الأستاذ عبد المنعم شميس في كتابه «عظماء من مصر» بأن محمد عبده فيلسوف الثورة كان يدعو إلى تحقيق التعليم قبل تحقيق الديمقراطية، وهو الذي كان يقول: «إن الشعب الجاهل لا يستطيع انتخاب مجلس النواب الذي يمثله تمثيلا صحيحا»، وذلك على النقيض من فكرة أحمد عرابي الذي كان يقول: «إن إسقاط الطغيان والاستبداد لا يتم إلا عن طريق مجلس النواب الذي يمثل الشعب». وقد كان عبد الله فكري (على نحو ما حققه الأستاذ عبد المنعم شميس بالتفصيل في كتابه «عظماء من مصر») بمثابة البطل في أول مناقشة برلمانية تناولت سياسة التربية والتعليم في مصر، وكانت رؤيته التربوية والتنموية التي أبانت عنها هذه المناقشة في منتهي الوضوح.
وتبدأ القصة البرلمانية المشرفة لتاريخ الحياة السياسية المصرية عندما تقدم عبد السلام المويلحي نائب القاهرة إلى حكومة البارودي باشا (1882) بمذكرة عن إجراءاتها من أجل توسيع دائرة المعارف العمومية في مصر، وركز المويلحي على ثلاثة أسئلة:
1 – بيان المدارس الأميرية الموجودة في مصر في ذلك الوقت.
2 – بيان عن المدارس التي يمكن لوزارة المعارف إنشاؤها في هذا العام (1881/ 1882) من المندرج في ميزانيتها.
3 – بيان ما يمكن تخرجه من مدرسة المعلمين خلال العام ، وحتى اجتماع مجلس النواب في السنة القادمة.
وقد كانت هذه المناقشة «فرصة التاريخ»، إن صح هذا التعبير، التي أتيحت لعبد الله فكري وزير المعارف ليبين عن رؤيته التربوية، ومما يحسب له أنه لم يقدم لمجلس النواب إجابة تقليدية عن الأسئلة المطروحة، وإنما أضاف إلى إجابته رؤية ذكية كفيلة برسم سياسة مستقبلية للتعليم في مصر، ولم يخرج عبد الله فكري من قاعة مجلس النواب إلا بعد أن أخذ موافقة البرلمان الإجماعية على سياسته، لكن الحوادث السياسية كانت كفيلة تمامًا بتجميد هذه السياسة بعد ما انتصرت الإمبراطورية البريطانية المعتدية على مصر بعد ثلاثة شهور(!!)
ومن المهم أيضا أن نتأمل هنا جوهر الفكرة التي طرحها عبد الله فكري على البرلمان حين كان ناظرًا للمعارف في وزارة الثورة العربية (1882) .
قال عبد الله فكري موجهًا حديثه للبرلمان:
«إن الحكومة لا تستطيع بناء المدارس المطلوبة لتعليم أبناء الشعب وبناته، وإنّه «إذا أنشأت الحكومة في السنة أربع مدارس بل خمسا بل عشرا بل في كل شهر مدرسة، لزمكم على تلك الحالة أن تنتظروا لحصول هذا الغرض نحو خمسمائة سنة».
وبعد أن أجاد عبد الله فكري تصوير حجم القضية وعجز الموازنات الحكومية عن الوفاء بالخطط المرجوة، انتقل إلى طرح خطته القائمة على توزيع النفقات بين الأهالي والحكومة واستغلال الإمكانات المتاحة من أجل النهوض بالعملية التعليمية، وبدأ بأن طالب النواب والأعيان والأغنياء بإنشاء المدارس في بلادهم وقراهم، وبرر هذا بقوله: إن «إيجاد المدارس على نفقة الأهالي لا يكلفهم غير جزء صغير من المصاريف، فالطوب يضرب في البلد، ويحرق في البلد، ويبنى بمعرفة بنائين وفعلة منها، ولا يخفى ما في ذلك من قلة النفقات».
وفي الجلسة ذاتها قدم عبد الله فكري لأعضاء مجلس النواب نموذجًا لرسم هندسي لمدرسة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، وقال للنواب: «أعرضه عليكم مثالا، وفي الجيزة مدرسة من الدرجة الأولى، وفي قليوب مدرسة من الثالثة جعلت في تلك الجهات الواقعة على خط السكة الحديد ليسهل معاينتها ، وتكون كل منها نموذجا لنوعه».
وهكذا سهّل الوزير على النواب تخيل الصورة التي ستكون عليها المدارس التي أعدت رسومها، وطالب النواب بمشاهدة هذه النماذج وقال: «إنه يمكن بناء مدارس بتكاليف أقل، ولو بالطوب الأخضر، لأن القصد المنفعة وليس الوجاهة».
ثم انتقل عبد الله فكري ليضع حلولًا لكل المشكلات التمويلية الأخرى بما في ذلك تعيين المدرسين ورواتبهم، وقد اقترح في خطته أن يكون المدرس من أهل القرية مثل خطيب المسجد أو غيره من الأزهريين، على أن تتحمل الحكومة راتبه، وجعل الراتب بين 200 قرش و300 قرش (وكان هذا الراتب مجزيًا بمعدلات ذلك الزمان). وحدد المواد التي تدرس في هذه المدارس وهي: القرآن والإملاء، والمطالعة، والحساب، وبعض العلوم الطبية (كذا في النص المتاح عن تلك المناقشات، ويبدو أن سطوة الأطباء لم تكن قد وصلت إلى إجبار الوزارة على أن يكون اسم هذا النوع من المعرفة العلوم الصحية فحسب).
أول من قرر حق التعليم على الدولة
وبفضل جهود عبد الله باشا فكري قرر مجلس النواب المصري في جلسة 20 من أبريل 1882 سياسة الدولة في هذا الشأن على نحو واضح:
«إن الحالة التي وصلت إليها البلاد بهمة ذوي النجدة والغيرة من أبنائها (كان المقصود من هذه العبارة الحزب العسكري الذي بدأ السيطرة على مقدرات الأمور، وهو حزب أحمد عرابي) تستدعي الاجتهاد في تعميم التعليم وتسهيل طرقه، فقررت أن يقوم كل واحد من النواب بإنشاء مكتبة (مدرسة) من الدرجة الثالثة في بلده تعلم فيها القراءة والكتابة وطرف من الحساب والفقه والنحو بدون أن تتكلف الحكومة بشيء من النفقات سوى أن تتنازل عن الموضع الذي تبنى فيه من البراح (أي الأرض الفضاء) الباقي تحت ملكها. أما الذين يعهد إليهم في تلك المكاتب (المدارس) فيؤخذون بواسطة نظارة المعارف من الجامع الأزهر، وعلى النظارة ترشيحهم للقيام بهذه الوظائف كما سبق ذلك في خطبة ناظر المعارف أمام هيئة المجلس، وكما قرت عليه اللجنة أيضا».
وقد طالب على بك القريعي نائب المنصورة بطبع رسومات وتقديم نسخة لكل عضو لتنفيذها.
ويذهب الأستاذ عبد المنعم شميس من هذه الرواية إلى أن عبد الله فكري كان بهذا أول مَنْ أعلن حق التعليم في مصر منذ مائة عام.
ويذكر أن عبد السلام المويلحي (مقدم السؤال) علّق على كلمة عبد الله فكري وزير المعارف في البرلمان قائلا:
«نشكر لسعادة ناظر المعارف العمومية اهتمامه بالأسئلة الواردة في تقرير هذا العاجز (يتحدث عن نفسه بتواضع)، فإنه قد استوفي الإيضاح، واستكمل البيان بما نعلم في سعادته من الفضل وقوة العالمية (أي: المعرفة والإحاطة)، وإني على رأي سعادته من أن التوكل (أي: الاعتماد) المطلق على الحكومة في نشر المعارف في البلاد لا يأتي بالفائدة المقصودة، بل لابد في هذا الأمر من تآزر الهمم، واجتماع الإرادات، واتحاد المساعي من كل حريص على نجاح وطانه، راغب في تقدم أبنائه وإخوانه».
وقبيل نهايات الثورة العرابية، رأى مجلس الوزراء دعوة مجلس النواب للنظر في الخلاف القائم بين الحزب العسكري بقيادة عرابي والخديو توفيق .
ولم يكن كل الوزراء مؤيدين فقد عارض هذا الرأي كل من: عبد الله فكري وزير المعارف، وعلى صادق وزير المالية، ومصطفي فهمي وزير الخارجية، وهم الوزراء الذين لم يكن لهم ميل حزبي واضح، ولم يكونوا من أنصار العرابيين، ولهذا لم تكن موافقة مجلس الوزراء بالإجماع، بل كانت بالأغلبية. وإلى هذا الموقف الذي اتخذه عبد الله فكري وزميلاه فيما يتعلق بالدعوة إلى نهاية انعقاد مجلس النواب، استند عبد الله فكري محاولا تبرئته في أثناء محاكمة العرابيين، بعد إخفاق الثورة، ودخول جيش الاحتلال البريطاني مصر».
وعلى كل الأحوال فقد أقيل عبد الله فكري من منصبه كوزير للمعارف مع سائر زملائه الوزراء عند نهاية الثورة ودخول الاحتلال.
وهكذا اقتصر عهده في تولي وزارة المعارف على وزارة البارودي التي هي وزارة الثورة العرابية.
محاكمته بعد فشل الثورة
أخذت الحكومة في محاكمة زعماء الثورة العرابية وكان عبد الله فكري بالطبع ممن قبض عليهم، وبعد استجوابه أمام لجنة التحقيق أطلق سراحه بعد تبرئته، وتذكر بعض المصادر أن معاشه أعيد إليه مباشرة لكن أكثرها تذكر أن السلطات قطعت عنه معاشه(!!) وهو الأقرب إلى المنطق لما نعرفه نحن عن اضطراره إلى نظمه قصيدة اعتذار للخديو، وقد قيل إنَه التمس المثول بين يدي الخديو توفيق، فلم يؤذن له، وأنه لهذا نظم قصيدة اعتذار ومديح للخديو، وقد حرص فيها على أن يبين براءة ساحته، وقد نحا في قصيدته منحى قصيدة النابغة الذبياني في اعتذاره، ومن الطريف (كما سنرى) أن الأستاذ العقاد يعتبر هذه القصيدة من أفضل شعره.
وقد جعل عبد الله فكري عنوان قصيدته: «عريضة استعطاف واسترحام لولي الأمر والإنعام»، وقال في استهلال استرحامه واستعطافه:
كتــابي توجــه وجهـة السـاحة الكبرى
وكـبر إن وافـيت و اجتنب الكبرا
وقف خاضعا واستوهب الإذن والتمس
قبولا، وقبل سدة الباب لي عشرا
وبلغ لدى البــاب الخديوي حــاجة
لذي أمل يرجو له البشر والبشرى
لـــــدى ســـــمح مـؤمــــــل
صفــوح عن الزلات يلتمس العذرا
تنـوء الجبــال الراسـيات لحلمـه
إذا طاش ذو جهل لدى غيظه قهرا
يـراقـب رحمــن السموات قلبه
فيرحم مَنْ في الأرض رفقا بهم طرا
مليكي ومولاي العزيــز وسيــدي
ومَنْ أرتجــي آلاء معــروفه العمرا
لـئن كان أقـــوام علىّ تقولوا
بـأمر فقـد جـــاؤوا بما زوروا نكرا
حلفــت بمـا بـين الحطــيم وزمزم
وبالبـــاب والمــيزاب والكعبة الغرا
لما كان لي في الشـــر بــاع ولا يد
ولا كنت مَنْ يبغي مدى عمره الشرا
ولكن محتــوم المقــادير قد جرى
بمـا اللــه في أم الكتــاب له أجرى
ثم يحاول عبد الله فكري باشا أن يعلل انسياقه إلى تأييد العرابيين بميله (المشهور عنه ) إلى الخير :
أتــذكر يا مــولاي حين تقول لي
وإني لأرجو أن ستنفعني الذكرى
أراك تروم النفــع للــناس فطـرة
لديك ولا ترجو لــذى نسمة ضرا
فعفوا أبـا العبـــاس لازلت قادرًا
على الأمر إن العفو من قادر أحرى
وحسبي ما قد مر من ضنك أشهر
تجــرعت فيهــا الصبر أطعمه مــرا
يعادل منها الشهر في الطول حقبة
ويعدل منها اليوم في طوله شهـرا
أيجمـــل في ديــن المــروءة أنني
أكابد في أيامك البؤس والعســرا
و من المستحسن أن نسمي هذه القصيدة الاستعطافية بقافيتها الرائية ، ذلك أنها واحدة من قصيدتين ، وهي الأولى ، أما الثانية فقصيدة ميمية نظمها عبد الله فكري لما استجاب له الخديو توفيق وعفا عنه، وأعاد إليه معاشه، وفيها قال:
ألا إن شكــر الصنـع حق لمنعم
فشــكرا لآلاء الخـديــوي المعـــظم
مليك له في الجود فخر ومفخر
على كل منهـل من السحب مرهم
سأشكره النعماء ما عانقت يدي
يراعي أو استولى على منطقي فمي
النهاية المبكرة لدوره السياسي
وواقع الأمر أن فشل الثورة العرابية كان بمثابة نهاية لحياة عبد الله فكري السياسية والوظيفة مع أنه لم يكن قد بلغ الخمسين من عمره !!
وقد تركزت مناشط حياته بعد الثورة في ميدان العلم بعيدا عن السياسة، فتوجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وفي أثناء هذه الرحلة لقي من علماء مكة والمدينة ما يليق بمقامه من الإكرام والإعظام، وكتب في ذلك كتابا سماه «الرحلة المكية».
وانصرف عبد الله فكري بعد عودته إلى ما كان قد شرع فيه من العلم والرحلات ورعاية الأرض واستصلاحها، وحفظ لنا التاريخ ما سجله عن رحلاته، وربما تبدو رحلاته بمنطق أيامنا قليلة أو محدودة النطاق، لكنها بالنسبة إلى عصره تؤهله لأن يوصف بأنه كان من أصحاب الرحلات.
رحلاته
فصّل جورجي زيدان القول في رحلاته في تلك الفترة فذكر أنه في السنة التالية زار بيت المقدس والخليل ، وكان بصحبته نجله المرحوم أمين باشا فكري فلقي من العلماء، والعظماء هناك ما يجدر بفضله، ثم «سارا إلى مدينة بيروت الزهراء لتبديل الهواء وأقاما فيها شهرا كان مقامهما فيها منتدى الفضلاء، ومشرع الأدباء والعلماء، ثم ارتحل إلى دمشق فلاقى فيها ما لاقاه في بيروت من الاحتفاء وحسن الوفادة، ثم عرج إلى بعلبك فزار آثارها ، وسار منها بطريق لبنان إلى بيروت فأقام فيها شهرين وعاد إلى مصر».
ولما كان العصر الذي عاش فيه عبد الله فكري عصر معرفة بأقدار الناس وكفاءاتهم، فقد وقع عليه اختيار الحكومة المصرية لرئاسة الوفد العلمي المصري إلى مؤتمر المستشرقين الثامن ، الذي انعقد في مدينة إستكهولم ، وقد صحبه في هذه الرحلة أيضا نجله أمين باشا فكري عضوا في هذا الوفد، وهو الذي تولى الترجمة والاتصال بين الوفد والوفود الأخرى، ويذكر محمد عبد الغني حسن أن الوفد ضم بالإضافة إليهما كلا من الشيخ حمزة فتح الله، والأستاذ محمود عمر، وكانت هذه أول وآخر زيارة لعبد الله فكري لأوروبا، وقد نظمت رحلته بحيث مكنته من خلال ذهابه وعودته من زيارة عدد من عواصم أوروبا في النمسا، وإيطاليا، وفرنسا ، وسويسرا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وألمانيا.
وقبل سفر الوفد من الإسكندرية منح الخديو عبد الله فكري النيشان المجيدي من الدرجة الثانية . ويكاد وصف خط سير رحلته يكون واحدًا في كل المصادر التي لخصت هذه الرحلة:
« وقد مر الوفد في وفادته المذكورة على تريستا من أعمال النمسا (كانت كذلك في ذلك الوقت) وفينسيا (البندقية) وميلانو من أعمال إيطاليا، ولوزان (لوسرن) من أعمال سويسرا، وباريس التي أقام بها أكثر من عشرين يوما (وفي رواية أن إقامتهم امتدت ثمانية عشر يوما كاملة فقط) قضاها في السياحة بالمدينة وضواحيها، وكان وقت المعرض فشاهد ما فيه من عجائب الصنائع، وغرائب الفنون، ثم انتقل إلى لندن ومنها إلى روتردام ولاهاي في هولندا، وليدن، وزار مكتبتها الشهيرة ورأى مطبعتها المعروفة بالمطبوعات الشرقية، ثم توجه منها إلى كوبنهاجن عاصمة الدنمارك، ومنها إلى إستكهولم حيث انعقد المؤتمر».
وفي طريق العودة من مأموريته مرّ على برلين عاصمة ألمانيا وفيينا عاصمة النمسا، فلقي بها ما لقيه في العواصم الأخرى من الاحتفاء.
وقد كان من حظ هذه الرحلة الجميلة أن تحظى بالتسجيل، وقد بدأ عبد الله فكري نفسه في تسجيلها لكنه انشغل عن تسجيلها وإتمام كتابتها إلى أن توفي، وعند ذاك عنى نجله بنشرها في كتاب مشهور طبع في مجلد ضخم بمصر سنة 1892 وهو كتاب «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» ، و كنت قد أعددت هذا الكتاب للنشر ضمن مشروع رائد تقوم به مكتبة الإسكندرية بإشراف الصديق الدكتور صلاح الجوهري.
ولا ريب في أن مباهج أوروبا وحضارتها قد دفعت عبد الله فكري وابنه أمين باشا إلى أن يسجلا محاسنها منذ اللقاء الأول مع هذه الجماليات، وقد أشار الرجلان (الأب والابن) في رسائل إلى الأصدقاء إلى ما شاهداه من جمال الطبيعة في جبال إيطاليا وسويسرا وبحيراتهما والأنفاق العجيبة ، مثل نفق سان جوتار، كما أخذ عبد الله فكري يملي على ابنه أمين باشا ما يعن له من هذه المشاهدات.
ويذكر لنا التاريخ أن عبد الله فكري ما كاد يصل إلى مدينة لوزان حتى أرسل إلى صديقه العالم الرائد على مبارك باشا رسالة طويلة يصف فيها البحر والسفينة، والبحيرات السويسرية الجميلة، ولم يفته أن يصف الأوانس (الصباح الملاح، من كل خود رداح، شاكية السلاح، من ألحاظ كالصفاح، مراض صحاح، وقدود كالرماح، دامية الجراح، فاتكة بالأرواح!!».
والحق أن إسهامات عبد الله فكري في أدب الرحلات كانت إسهامات بارزة ومبكرة ، وقد خصصنا لدراستها فصلا آخر في موضع آخر عنينا فيه تتبع آثاره في الرحلة المكية ، والرحلة البعلبكية ، ثم الرحلة الأوربية زيارة باريس
ونحن نلاحظ أيضا فيما كتبه أمين فكري باشا عن رحلة والده عبد الله فكري وأقرانه أنه هو وزملاؤه كانوا حريصين على زيارة باريس زيارة فاحصة، ونستطيع أن ندرك هذا من الوهلة الأولى عندما نطالع عدد الصفحات التي استغرقها الحديث عن باريس وتفصيل مشاهداتهم فيها يوما بيوم، وعلى حد ما وصف عبد الله فكري وابنه رحلتهم فإنهم:
«لم يتركوا أثرا إلا شاهدوه، ولا معرضا ولا متحفا إلا زاروه، ولا قصرا تاريخيا إلا طافوا بأرجائه، ولا مصنعا من أكبر المصانع إلا جالوا في أنحائه، فزاروا قصر فرساي، وغابة بولونيا، ومتحف اللوفر، ودار الأوبرا، وحديقة لكسمبورج، ومعامل سيفر الشهيرة بصناعة الخزف الصيني الممتاز، والمكتبة الأهلية… إلخ».
ومن الطريف أن عيد الأضحى حل في يوم 7 من أغسطس سنة 1889م خلال مقامهم بالعاصمة الفرنسية، ولم يكن في باريس مسجد في ذلك الحين، وقد اتخذوا من الفندق النازلين فيه مسجدا، واتخذوا من سرير الشيخ حمزة فتح الله منبرا(!!) وأحيوا العيد بالتكبير والتهليل.
ومن الطريف أن زيارة عبد الله فكري جاءت عقب إتمام بناء برج إيفل بفترة قصيرة.
وقد كان أعضاء وفد مصر في مؤتمر الاستشراق من أوائل الرجال الذين صعدوا إلى أعلى طبقات برج إيفل.
وقد نقلت عن هذه الرحلة كثيرًا من التفصيلات في ثلاثية كتبي عن باريس : «باريس الرائعة» ، «وباريس الفاتنة» ، «وباريس الحيوية» .
لمعانه في مؤتمر المستشرقين و السويد
في إستكهولم قدم عبد الله فكري باشا لمؤتمر المستشرقين بحثين: أولهما في شرح قصيدة لحسان بن ثابت شاعر الرسالة والرسول، وثانيهما في موضوع التعليم الجاري بمصر في المدارس الأمريكية والمكاتب الأهلية والمدارس الدينية.
ولم يلق عبد الله فكري الرسالتين في مكان واحد، وهو مكان انعقاد المؤتمر بمدينة إستكهولم، بل ألقى أولاهما في ذلك المكان، وألقى الأخرى في مدينة كريستيانا التي كانت عاصمة جنوبي النرويج.
أما البحث الأول فقد سماه «عجالة البيان على ديوان حسان»، وهو محاولة تحقيق ديوان حسان بن ثابت شاعر الرسول × ، وقد نحا فيها منحى علميًا متقدمًا حيث جمع كل ما تيسر له من نسخ مخطوطة لهذا الديوان، وقارن بينها، وحقق أصولها، ثم كتب ترجمة لحياة حسان بن ثابت، وقدم شرحا لإحدى قصائده، وقد نال هذا البحث الفريد اهتمام المستشرقين، كما نال تقريظ الصحافة.
كذلك ألقي عبد الله فكري في المؤتمر قصيدته الرائية الجميلة (وهي غير رائيته في استعطاف الخديو توفيق وكان مطلعها:
اليوم أسفر للعلوم نهار
وبدت لشمس سمائها أنوار
ومن الطريف أن القافية الرائية فرضت سيطرتها على هذه القصيدة الجميلة بسبب اسم الملك أوسكار الذي كرم عبد الله فكري .
وقد سار فيها على طريقته وطريقة شعراء عصره في العناية بالزخارف، والمحسنات، وما إلى ذلك مما يصف الشعر بأنه تقليدي في عصر تقليد .
وقد كان من حظ عبد الله فكري في أثناء حضوره مؤتمر المستشرقين بالسويد أن يلتقى بعدد من المستشرقين كان منهم: يوسف كوتوال (جوتولد)، والمستشرق المجري جولدتسيهر، والبارون الألماني دي كريمر، الفرنسي شيفر، والمستشرق الهولندي دي جويه، والمستشرق الألماني الأصل ماكس مولر، والمستشرق الألماني أوجست مولر، والمستشرق الألماني بروكش باشا.
وفي نهاية المؤتمر أنعم الملك أوسكار الثاني ملك السويد والنرويج عليه بنيشان «وازه» من الدرجة الأولى، وكان هذا التقدير من الملك لعالم مصري من أعظم درجات التشريف في ذلك العصر.
وفي السويد كان على عبد الله فكري (باعتباره رئيسًا للوفد المصري) أن يقابل رئيس الوزارة السويدية، وكان في الوقت نفسه وزيرا للخارجية، وكان همزة الوصل بين الرجلين هو الكونت دي لاندبرج قنصل السويد والنرويج في القاهرة، وقد رد رئيس الوزراء لرئيس وفد مصر الزيارة في الفندق الذي كان معدا لضيافته مع بقية أعضاء الوفد.
ويروى الأستاذ محمد عبد الغني حسن أن عبد الله فكري قابل الملك أوسكار الثاني ملك السويد والنرويج مرات عدة، أما المقابلة الأولى فكانت غير رسمية، وكانت في القصر الذي أعد لانعقاد المؤتمر، ويبدو أنها كانت بمحض الصدفة فقط.
أما المقابلة الرسمية فكانت في اليوم التالي.. أي في 31 من أغسطس سنة 1889م.
وقد كان الكونت دي لاندبرج نفسه من المهتمين بالمشرقيات، وهو في نظر البعض «مستشرق من طراز بديع»، وقد جمع بين وظائف السلك السياسي، والاشتغال بالعلوم الشرقية، خاصة اللغة العربية التي كان يجيدها كتابة وحديثا، وكان له ذوق نادر في جمع النادر من المخطوطات العربية التي كانت متفرقة في أنحاء شتي من العالم، وكان لا يضن بشيء ـ في سبيل جمعها والحصول عليها ـ ولولا نسخته الخطية ما خرجت «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي في طبعتها الأولى بمطبعة بولاق سنة 1890، وكان هذا الرجل الدبلوماسي المثقف صاحب طريقة محببة في الإقناع والإغراء، وينسب البعض إلى لباقته وكياسته ودبلوماسيته الفضل في إقناع عبد الله فكري بقبول رئاسة وفد مصر في المؤتمر، وعلى الاشتراك فيه وقبول الدعوة إليه، بعد أن كان ممتنعا ومنصرفا. ومن الجدير بالذكر أنه هو الذي سعى لدى الملك أوسكار الثاني ملك السويد (1889) ـ أي في عام المؤتمر نفسه ـ ليهدي إلى العلامة اللغوي الشيخ إبراهيم اليازجي وساما رفيعا في العلوم والفنون تقديرًا لجهوده في خدمة لغة العرب.
شخصيته
ونأتي إلى بعض ملامح شخصية عبد الله فكري، ونحن نرى في كتابات السابقين وكتاباته ما يدل على أنه امتاز ـ فوق مكانته الأدبية ـ بروح متدينة شديدة التدين، في غير تزمت، وبإيمان كبير بالله الذي بيده النفع والضر، والخير والشر، وبنزعة محبة للخير إلى أقصى حدود الحب، وبأخلاق رفيعة حببت فيه أهل عصره، وأدباء زمانه.
ويشير الأستاذ محمد عبد الغني حسن في كتابه عنه إلى أنه سلك طريق التصوف على طريق السادة الخلوتية، وهو يذكر أن عبد الله فكري أخذ الطريقة وتلقى أحزابها وأورادها وآدابها وأسرارها على شيخ من شيوخها اسمه الشيخ على حكشة، كان من العارفين بالله الواصلين، وله كرامات مشهورة في وقته، رفعته إلى مقام الأولياء، وانتهت إليه مشيخة الطريقة.
ويشير علي باشا مبارك في كتابه «الخطط التوفيقية» إلى أن عبد الله فكري عرف الشيخ على حكشة، وعاشره وشاهد كثيرا من كراماته.
يقال : إن ثروة عبد الله فكري لم تكن شاغلا له في حياته الأولى التي كان مشغولًا فيها بالوظيفة، لكنه في أخريات حياته حين خلا من مشاغلها شغل نفسه باقتناء الأرض واستصلاحها وتعميرها، ويروى محمد عبد الغني حسن أن عبد الله فكري ذهب في طلب الأرض إلى أبعد من الشراء خطوة، فقد قدم إلى الخديو توفيق «طلبا شعريا» يلتمس منه فيه أن يمنحه أرضا زراعية، حتى لا يظل محرومًا من تملك الأرض:
يا من دعائي له ومدحي
نفل مدى مدتى وفرضى
ويا سماء العلا ! أترضى
أني أبقي بغير أرض ?
ولي لأبوابك انتساب
فامنن بشيء على مرضي!
لأملأ الأرض من ثناء
يسري بطول لها وعرض
وقد أجاب الخديو توفيق طلبه، فأقطعه مائتي فدان.
مرضه و وفاته
وقد وصف ابنه أمين فكري باشا فترة مرض والده الأخيرة وصفا دقيقا في مقدمة كتابه «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» فقال:
«حضر لمصر بعد هذه المرة واستشار طبيبه فنصحه بعدم إتعاب الفكر، وترك الإكثار من المطالعة، فامتثل أمره ووقف سير الاشتغال بالرحلة وبغيرها لهذا السبب».
«وأخذت صحته تتحسن وتتقوى مستمرا في تقليل المطالعة آخذا في أسباب العود إلى تمام العافية إلى أن طرأ طارئ لبعض أخصائه استوجب زيادة اشتغال فكره، واستلزم شدة تأثره ، فعاوده المرض بشدة أكثر من الأول، ولكن الله سلم في هذه النوبة أيضا باستعمال الوسائط المقوية، والاستمرار على العلاجات اللازمة، وكان ذلك في شهر رجب (1307 هـ = 1890 م)، فبقى مستريح الجسم من ذلك الشهر إلى أواسط شهر ذي القعدة، وقد أشار عليه الأطباء بتبديل الهواء لتتم راحته وتكمل صحته، فتوجه إلى تل حوين وأخذ يتسلى فيها بملاحظة أشغالها الزراعية، وكانت تتوارد مكاتباته إلى كل تلك المدة منبئة عن حسن صحته، مشعرة بمزيد سلامته حتى قرب العيد الأكبر ، وأراد الحضور لمصر وكتب لي بذلك طالبا مني أن أنتظره بمحطتها، مؤكدا على بذلك كل التأكيد في آخر مكاتبة منه إلى بتاريخ 3 من ذي الحجة (1307 هـ) كأن الله أطلعه على أن ذلك ضروري كما ستراه».
«فلما كان يوم الخميس 7 من ذي الحجة (1307 هـ = 24من يوليو 1890م) ذهبت لأنتظره بالمحطة في ميعاد الوابور المعتاد (الساعة 5 و20 دقيقة بعد الظهر) وإذا به لم يعرفني، بل كان يسأل عني إلا أنه بعد كثرة الإلحاح عليه في تعريفي نفسي عرفني آخر مرة قال فيها: «الحمد لله الذي جمع شملنا».
«فلما وصلنا البيت أخذنا في المعالجة وفي الوسائط التي بها يكون صرف المرض، واستعملنا كل ما وصلت إليه اليد، واستحضرنا مَنْ لزم من الأطباء، إلا أن المرض كان أقوى والأجل كان أدنى فاحتضر وناداه مولاه فلباه وفارق دنياه بعد ساعة عربية ونصف من يوم الأحد (يوم الأضحية) من 10 ذي الحجة (1307 هـ = 27 من يوليو 1890م)».
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا