الأستاذ عبد الرحمن شكري (1886 ـ 1958) هو في حقيقة الأمر الضلع الأول في مثلث مدرسة الديوان التي ضمت معه الأستاذين عباس العقاد وإبراهيم المازني فقد كان عند نشأة المدرسة أكبرهم سنا وأكثرهم ثقافة كما كان أكثرهم اطلاعا حسب وصف الأستاذ العقاد نفسه، لكنه كان صاحب نفس شفافة هشة سهلة الكسر إذا ما قورنت بنفس الأستاذ المازني العابثة المتقلبة، وإذا ما قورنت بنفس الأستاذ العقاد المعتدة المتجبرة، وقد هزمته الحياة من ثغرة هذه النفس الشفافة الهشة التي كانت أميل للانطواء وأميل للحزن وأميل للغضب، ومن ثم كانت أميل إلى الاعتزال والغربة وخصام المجتمع.
ولد الأستاذ عبد الرحمن شكري في مدينة بورسعيد التي كانت حين ولد لا تزال في شبابها الباكر إذا علمنا أنها تأسست مع حفر قناة السويس، وكان والده موظفا في المدينة، وكان رجلا مثقفا مُحبا للشعر العربي القديم، وقد بدأ الأستاذ عبد الرحمن شكري دراسته في الكُتّاب ثم في المدرسة الابتدائية وحصل على شهادتها 1900 وانتقل إلى الإسكندرية مع أسرته وحصل على البكالوريا من مدرسة رأس التين 1904 فانتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة الحقوق، وشارك في الحركة الوطنية بحماس ففُصل بسبب المظاهرات 1906 التي اندلعت بعد حادثة دنشواي فالتحق بمدرسة المعلمين العليا وتخرج فيها 1907، وفيها عرفه المازني، ومن خلاله تعرف على العقاد وتأسست من هذه المعرفة ذخيرة الروح العالية الثائرة التي أدت إلى وجود مدرسة الديوان.
كتاب “الذخيرة الذهبية”
درس الأستاذ عبد الرحمن شكري في مدرسة المعلمين العليا كتاب “الذخيرة الذهبية”، وتدارسه مع زميليه اللذين أُعجبا معه بالشعر الإنجليزي والشعراء الإنجليز، وسرعان ما نال شكري بعثة إلى إنجلترا، حيث درس الإنجليزية وآدابها والتاريخ الأدبي والاقتصاد والفلسفة في جامعة شيفلد وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة شيفلد في 3 سنوات على نحو ما كان النظام الجامعي البريطاني يتعامل مع خريجي المدارس العليا المصرية بتأهيلهم للدرجة الجامعية الأولى من إحدى جامعاته فيما يستغرق ثلاث سنوات ‘ وفي هذه السنوات تعمقت صلة شكري بالثقافة الأوروبية والأدب الإنجليزي والشعر الإنجليزي إلى حد لم يسبق إليه مصري ولم يلحق به فيما علمناه حتى من الأكاديميين الجامعيين التالين.
وقد كان الأستاذ عبد الرحمن شكري في صلته الناضجة بهذه الثقافة مُتسلحا بما تزود به منذ طفولته الباكرة والمميزة من الثقافة العربية الأصيلة ، وهكذا فإنه استطاع أن يضع أقدامه وأقدام زملائه المصريين وأقدام تلاميذه وتلاميذ زملائه والقراء جميعا على أبواب التجربة الإنسانية القادرة على التعبير عن آفاق وأحداث وتفصيلات لم يكن للأدب العربي عهد بها بحكم اختلاف المجتمعات، كما أنه كان قادرا على أن يفتح العيون على أنماط جديدة من مقاربات الفلسفات والحياة الاجتماعية في مجتمعات المُستعمرين الإنجليز على نحو يُعنى بالتجربة الإنسانية ذاتها وليس بنتائجها فحسب على نحو ما فعل أحمد فتحي زغلول وحافظ عفيفي وغيرهم من المفكرين الذين كتبوا عن سر تقدم الإنجليز أو نتائج تنظيمهم لمُجتمعاتهم أو مدى ما حققوه من رقي، كما أنه تجاوز بالطبع تجربة الرحلة العابرة إلى تجربة المعيشة المتصلة، كما أنه قرن فهمه للأدب بفهمه للنقد والمدارس النقدية التي طورت من أساليب كتابة الأدب، وإلى هذا الفضل يعود جزء كبير من إدراك الأستاذ العقاد الواسع والدقيق للحياة الأدبية والحياة الفنية في بريطانيا، كما يعود جزء كبير من قدرة الأستاذ المازني على تقليب الآراء والمعتقدات والنظرات إلى هذه الحياة الأوروبية بل والحياة المصرية، فإذا قيل إن أحد الثلاثة كان أكثرهم تأثيرا في زميليه فإنه الأستاذ عبد الرحمن شكري، وإذا قيل إن الجامعة المصرية فاتها أن تنتفع بطاقة أكاديمي مصري متقدم في اللغة الإنجليزية والحضارة الإنجليزية فإنه الأستاذ عبد الرحمن شكري الذي قنع بالعمل في وزارة المعارف مدرسا للغة الإنجليزية والترجمة بالتعليم الثانوي ثم مفتشا ثم آثر الاستقالة وهو في الثانية والخمسين من عمره (1938)، ومما يعجب له الإنسان أنه استقال في العام الذي كان يتولى وزارة المعارف فيه (على التعاقب) من يُفترض أنهم يعرفون فضله : الدكتور بهي الدين بركات باشا والأستاذ أحمد لطفي السيد باشا والدكتور محمد حسين هيكل باشا، ولست أدري هل كانت الاستقالة تتطلب موافقة أو اعتماد وزير المعارف، وهل سمح ضمير هذا أو ذاك لصاحبه أن يوقع على مثل هذا القرار من دون أن يدعو الأستاذ عبد الرحمن شكري ويستأذنه في أن يعينه ليكون مستشارا له في أعلى درجة ممكنة من درجات الوظيفة. ربما أتوقف هنا لأشير إلى أن هذا هو الفارق عندي بين سعد زغلول (الذي رعى حافظ إبراهيم والمنفلوطي والعقاد والبرقوقي) وبين غيره من ذوي القامات الرفيعة .
اعتزاله الحياة
على كل حال فإن الأستاذ عبد الرحمن شكري عاش العقدين الأخيرين من حياته (1938 ـ 1958) في انعزال تام عن المجتمع فأقام في بورسعيد حتى 1955 ثم انتقل إلى الإسكندرية وأقام بها حتى توفي في 15 ديسمبر 1958، ومما يُروى أن كثيرا من القراء لم يعرف أنه حي إلا حين أذيع نبأ كاذب عن وفاته ذات مرة، ربما نعرف (وليس لنا أن نعجب) أن الأستاذ المازني كان هو السبب (المباشر) في تفاقم نكبة شكري النفسية، فقد هاجم المازني زميله الأستاذ عبد الرحمن شكري هجوما قاسيا لم يكن له مبرر، واندفع المازني في هجومه على شكري حتى أطلق عليه اسم: صنم الألاعيب واعتمد في هجومه هذا على نصوص من كتاب الأستاذ عبد الرحمن شكري النثري الأول الذي هو الاعترافات 1916 وقد صُدم شكري من هجوم المازني صدمة لم يُفق منها على الرغم من محاولة الأستاذ المازني إصلاح هذه الصدمة في كتابات لاحقة باعترافه بفضله وريادته دون جدوى .
شعره
أما شعر الأستاذ عبد الرحمن شكري فشعر متميز سابق لزمانه، يتفوق في تأملاته الذاتية وتدبراته الباطنية وانعطافاته الرومانسية على شعر خليل مطران والشعراء المهجريين، ولا يخلو مما يعبر بوضوح عن لمعات الإحساسات الحادة المتوهجة فوق غلاف من التشاؤم الكثيف، وقد نجح شكري في توظيفه لتشبيهاته وكناياته واستعاراته ومجازاته وبيانه نجاحا منقطع النظير، بيد أنه لم يشأ أن يهز قراءه بهذا النجاح الذي استوفى لنفسه عناصر الجودة من دون أن يتباهى بها على القراء أو الشعراء ولو شاء لفعل، وما كان هذا بالأمر الصعب عليه إذا ما لجأ إلى تقنيات يعرفها الكتاب المقتدرون من قبيل تقنيات النزعة الخطابية والنشوة بالمجد والتقديم والتأخير وإعادة المزاوجة ومناقضة الإسناد والمفارقة بين التعميم والتخصيص أو بين أساليب القصر والتقنين …..الخ .
كان شعر الأستاذ عبد الرحمن شكري، كما نقول في علم أصول الصناعة وكما نقول في وصف الصياغة، مُنتجا كامل الجودة ظاهر الشخصية حائزا للتميز، لكنه في الوقت ذاته لم يكن مثيرا للمعارك أو الهجوم أو العدول. ومما يُذكر للأستاذ عبد الرحمن شكري ارتياده للشعر المرسل في ديوانيه الأول والثاني، فقد نشر في ديوانه الأول قصيدة من الشعر المرسل ونشر في ديوانه الثاني أربع قصائد مرسلة: “نابليون والساحر المصري” “واقعة أبي قير” “لجنة الخراب” و”عتاب الملك لابنه أمرئ القيس “
الدراسات التي كتبت عنه
ومن كرم القدر أن الدكتور محمد السعدي فرهود أستاذ الأدب العربي في الأزهر الشريف والذي وصل إلى أعلى مناصب الأزهر مديرا للجامعة ووكيلا لجامعة الأزهر، كما نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب أتم دراساته العليا كلها في شعر شكري، وترك عملين عظيمين من المؤلفات “الاتجاهات الفنية في شعر شكري” 1969 و”التيار الفكري في شعر الأستاذ عبد الرحمن شكري” 1975 كذلك قدم الدكاترة على عشري زايد وأنس داوود وأحمد عبد الحميد غراب دراسات فنية متميزة عن هذا الشاعر، وكان الأستاذ عبد الرحمن شكري هو العلم الثالث في سلسلة أعلام الأدب العربي المعاصر في مصر التي أصدرها الدكتوران حمدي السكوت وماردسن جونز برعاية الجامعة الامريكية بالقاهرة. وإذا جاز أن نعد الرواد في الأدب العربي المعاصر عشرة فإن مكانة الأستاذ عبد الرحمن شكري بينهم ليست بأي حال في المكانة الأخيرة، وإن كان شكري لم يكون لنفسه طائفة من الأنصار والمتشيعين والمتحيزين الذين يحافظون له على مكانته بين العشرة الذين أراهم جيلا من الرواد المكتملين والمتكاملين
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا