هو الشيخ حسن بن محمد العطار (1766 ـ 1835) الذي كان يلقب بأبي السعادات. وهو واحد من كبار علماء الفقه الشافعي، وكانت مشيخة الأزهر في ذلك العهد لا تزال تُتداول بين الشافعية والمالكية إذ لم يصلها الأحناف إلا في عهد الشيخ العباسي المهدي. وهو في رأيي يمثل طليعة الموسوعيين العرب في العصر الحديث الذين أحيوا مفهوم الموسوعية القديم ومهدوا للموسوعية بمعناها الاصطلاحي المعاصر، ولهذا السبب فقد خصصت للحديث عنه الباب الأول من كتابي عن الجامع الأزهر والنهضة الموسوعية العربية الحديثة، وقد أكرمني الله بهذه الفكرة الذكية المنصفة والانتصار لها.
كان الشيخ حسن العطار من الرواد الأوائل الذين اتجهوا نحو إصلاح التعليم في الأزهر، يعد بحق رائدا من رواد النهضة، وهو الذي بث شرارتها في نفوس كثير من تلاميذه من جيل الرواد الذين كان أبرزهم رفاعة الطهطاوي، ومحمد عياد الطهطاوي وغيرهما، وصفه الجبرتي بأنه «قطب الفضلاء وتاج النبلاء ذو الذكاء المتوقد، والفهم المسترشد الناظم الثائر، الآخذ من العلوم العقلية والأدبية بحظ وافر»، ينحدر الشيخ حسن العطار من أصل مغربي، وقد ولد في القاهرة على أرجح الروايات في عام 17٦6، وبعض المراجع تذكر أن ولادته كانت بعد هذا التاريخ بعامين.
كفاحه من أجل العلم
تلقى الشيخ حسن العطار تعليمًا دينيًا تقليديًا، كان والده عطارا، وكان ابنه يعاونه في حانوته، وكان الابن شغوفا بالعلم، فتلقى تعليمه بالأزهر خفية في بادئ الأمر، ولما عرف والده بتفوقه أعانه على الدراسة في الأزهر، وفيه أخذ عن كبار مشايخ الأزهر كالشيخ الأمير، والشيخ الصبان، وغيرهما حتى اكتسب منهما صفات حميدة، وعرف بنبوغه، وشهد له أساتذته بالعلم والفضل، ومنح الشهادة العالمية عن جدارة واستحقاق.
كان الشيخ حسن العطار فضلًا عن هذا كله أديبا وشاعرا معدودا في طليعة الأدباء والشعراء في عصره، وكان يحضر دروسه في الأزهر الكثير من العلماء والطلاب
وكان للشيخ حسن العطار ولع شديد بسائر المعارف البشرية المتاحة في العصر الذي عاش فيه، وقد ظل طيلة دراسته الأزهرية، وبعد تخرجه حريصًا على تقصي المعرفة وإرواء نهمه الشديد إليها، لهذا فإنّه درس العلوم الهندسية والرياضية والفلكية، وتعمق في دراستها، ودفعه حب المعرفة والعلم إلى أن يمارس بنفسه التطبيق العملي للمعارف التي تعلمها نظريا، وفي هذا الصدد يروى أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية، كما كان يتقن الرصد الفلكي بالإسطرلاب، وقد سجل في مؤلفاته ما يدل على تمكنه من هذه الفنون والقدرات الخاصة في مؤلفاته، وكما كان حال علماء القرون الوسطى في الحضارة الإسلامية فقد امتدت مهارات الشيخ حسن العطار النظرية والعملية إلى علوم الطب والتشريح، وإلى علم الموسيقى التي كان يجيد فنونها أيضًا. وعلى عادة المبرزين في ذلك الزمان كان الشيخ العطار يجيد التركية، كما كان له إلمام بالفرنسية، وكان من أشد الناس حرصًا على الاطّلاع على الكتب المعربة.
مكانته الأدبية
كان الشيخ حسن العطار فضلًا عن هذا كله أديبا وشاعرا معدودا في طليعة الأدباء والشعراء في عصره، وكان يحضر دروسه في الأزهر الكثير من العلماء والطلاب، فكان إذا بدأ درسه ترك كبار العلماء من زملائه حلقاتهم وأقبلوا عليه ينهلون من علمه الفياض، ومما هو مشهور أن المستشرق الإنجليزي المعروف إدوارد وليم لين وعددًا آخر من المستشرقين كانوا من بين مَنْ كانوا يحضرون دروسه ومجالسه. وقد ظل الشيخ حسن العطار يمارس دوره العلمي كأستاذ قدير حتى ابتليت البلاد بالحملة الفرنسية (1798) وعندها غادر القاهرة إلى أسيوط، ثم عاد إلى القاهرة إبّان الاحتلال، واتصل بعلماء الحملة الفرنسية، وشاهد التجارب العلمية التي قاموا بها، ثم سافر إلى مكة للحج، ومنها إلى فلسطين، ثم رحل إلى الشام وأقام في دمشق، ثم سافر إلى إسطنبول وألبانيا، وبعد أن تخلصت مصر من الاحتلال الفرنسي (1801) عاد إلى القاهرة. ولما تم إنشاء جريدة «الوقائع العربية» المصرية في عهد محمد على باشا كلّف الشيخ العطار بالإشراف على تحريرها.
اختياره شيخا للأزهر في نهاية عهد محمد على باشا
ظل الشيخ حسن العطار أستاذًا متمكنا مشتغلا بالعلم، رائدًا للفكر، منارة للخلق الرفيع حتى اختير ليتولى مشيخة الأزهر (1830)، بعد أن كان اسمه قد أصبح ملء السمع والبصر، وبعد أن كان قد وصل إلى المكانة التي يصفها القول المأثور: «إنه أعلم أهل زمانه»، وقد زاده المنصب حبًا في العلم وممارسة له، وظل في هذا المنصب حتى وفاته.
كان الشيخ حسن العطار يحارب ما يراه من ركود عقلي وفكري في أوساط علماء الدين المعاصرين له الذين عاشوا ملتزمين بما تركه أسلافهم المباشرين من أصحاب المتون والحواشي، وكان يدعو إلى تغيير هذه العقلية، وكان يرى أن النهضة الإسلامية (أو تغير الحال) لن تتحقق إلا بالعلوم والمعارف، والأخذ بأسباب التقدم والحضارة، وكان يقول: «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها». وظل الشيخ حسن العطار يتجه بجهده نحو إصلاح الفكر، وذلك لاقتناعه بأنه بدون إصلاح الفكر لن يكون هناك أمل في التقدم، وعلى الرغم من كراهيته الشديدة للاحتلال الفرنسي، فقد كان معجبا بما وصلت إليه فرنسا من تقدم العلوم والمعارف.
التجديد في مناهج التربية والتعليم
كان الشيخ حسن العطار يكرر الدعوة إلى التجديد في مناهج التربية والتعليم، وكان في أدائه للأستاذية يتناول الموضوعات القديمة بعرض جديد وشيق وجذاب، وقد امتدت هذه الروح إلى مؤلفاته وكتاباته وتعليقاته على تفسير البيضاوي الذي كاد أن يكون مهجورا في الأزهر، وكان الشيخ حسن العطار يطالب بإدخال العلوم الحديثة والعلوم المهجورة بالأزهر إلى مناهج الدراسة الأزهرية، وظل يطالب بدراسة الفلسفة، والجغرافيا، والتاريخ، والأدب، والعلوم الطبيعية، وبالرجوع إلى أمهات الكتب العلمية، وعدم الاقتصار على المتون والحواشي المتأخرة، وقد وجه الشيخ حسن العطار تلاميذه إلى التجديد فيما يقومون به من كتابات أو دراسات حتى وإن كانت تتناول موضوعات قديمة، كما وجههم إلى التجديد في اختيار الكتب التي يدرسونها والمناهج التي يدرسون بها.
خلّف الشيخ حسن العطار مؤلفات عديدة تدل على سعة معارفه وثقافته، وقد شملت مؤلفاته علوم المنطق، والفلك، والطب، والكيمياء، والهندسة، والتاريخ، والجغرافيا
وهو الذي دفع تلميذه الأديب محمد عياد الطنطاوي إلى شرح مقامات الحريري بأسلوبه الأدبي البليغ، كما أنه هو الذي دفع تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي لتدريس الحديث والسنّة بطريقة المحاضرات دون التقيد بكتاب خاص يقرأ منه، أو نص معروف يعتمد عليه، فكان هذا مثار إعجاب العلماء، كذلك فإنه هو الذي رشح رفاعة الطهطاوي للسفر إلى فرنسا، ونصحه باستيعاب كل ما يمكن استيعابه من آثار الحضارة الفرنسية، وأشار عليه بتدوين كل ما يشاهده أو يعرفه أو يسمع عنه، فكانت نتيجة هذه التوجيهات غير المعهودة ولا المسبوقة في ذلك الجيل أن قام الطهطاوي بتأليف كتابه الأشهر «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
بداية الازدواج الأسلوبي
وعلى نحو ما برع الشيخ العطار في فنون الأدب والشعر، فإنه برع في تدوين العلوم، وكان له مثل معاصره عبد الله فكري أسلوبان متباينان في الكتابة: فكان يميل في الأمور العلمية والشؤون المألوفة إلى سهولة الأسلوب، والتخلص من السجع، والبعد عن التكلف، لكنه كان في الكتابة الأدبية حريصًا على الصياغة البلاغية التقليدية، والسجع، والمحسنات البديعية، أما شعره فقد تناول فيه شتى فنون الشعر المعروفة في زمانه، وبخاصة في مجالات الوصف والتهنئة والمدح. تشرئب في شعره الوصفي بعض اللمسات الوجدانية الرقيقة، على نحو ما يتجلى في وصفه لجمال الطبيعة، فقد كان كثيرًا ما يتغزل في جمال الطبيعة وجمال الحياة التي يعيشها، أو يمر بها ناعيا على القدماء بكاءهم على الأطلال، ويعد شعره إرهاصا ببزوغ فجر جديد للنهضة الشعرية التي شهدتها الساحة الأدبية بعد ذلك على أيدي شعراء طلائع النهضة في العصر الحديث، وعلى رأسهم محمود سامي البارودي باشا .
وصفه لبيئة دمشق
وإذا أردنا نموذجًا من شعر الشيخ حسن العطار فإننا ننقل للقارئ قوله في وصف منتزهات دمشق:
بوادي دمشق الشام جُز بي أخا البسط/ ورج على بـــاب الســـلام ولا تخـــطِ
ولا تبك ما يبكي امرؤ القيس حومـلا/ ولا مــنزلا أودى بمـنعــــرج الســقـطِ
فــإن على بــاب الســلام من البـها/ ملابــس حســن قد حفظــن من العطِ
هنــالك تــلقى ما يروقــك منظــرا/ ويسلي عن الأخدان والصحب والرهطِ
عـرائـس أشجـار إذا الريــح هـزها/ تميـــل ســـكارى وهي تخطر في مرطِ
كساهــا الحــيا أثـواب خطر فدثرت/ بنــور شعــاع الشـمس والزهر كالقرطِ
من شعره في الرثاء
وقد أورد الجبرتي في تاريخه أبياتا جميلة مؤثرة نظمها في رثاء الشيخ محمد الدسوقي (المتوفي سنة 1815) حيث يقول:
ســعى في اكتساب الحمد طول حياته/ ولـم تــره في غـــير ذلك قد سعى
ولـم تلهــه الدنــيا بزخــــرف صورة/ عـن العـــلم كيمــا إن تُغر وتخدعا
لقد صرف الأوقات في العلم والتقى/ فمــا أن لهــا يا صاح أمس مضيعا
فقـدنـاه لكــن نفعــه الدهــر دائم/وما مات مَنْ أبقي علوما لمن وعى
فجــوزي بالحســنى وتــوج بالرضا/وقـوبـل بالإكـــرام ممـــن له دعا
تعدد ميادين تآليفه
خلّف الشيخ حسن العطار مؤلفات عديدة تدل على سعة معارفه وثقافته، وقد شملت مؤلفاته علوم المنطق، والفلك، والطب، والكيمياء، والهندسة، والتاريخ، والجغرافيا، كما شملت الأدب، شعرا ونثرا، وذلك بالإضافة إلى أصول الفقه، وعلم الكلام، والنحو، والبلاغة، وكثير من الآثار التي تركها الشيخ العطار لاتزال للعجب العجاب مخطوطة في دار الكتب المصرية، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لنشرها إن امتد بي العمر، وقد كنت شرعت في هذا من خلال مشروع كنوز القرن التاسع عشر. وقد وصفته دائرة المعارف الإسلامية ـ في مادة الأزهر ـ بأنه «كان رجلا مستنيرا، اشتهر بعلمه، وكان أيضا شاعرا ناثرا من أصحاب الأساليب». كتب عنه العلامة أحمد تيمور كتابة جميلة، وكتب آخرون عن جوانب كثيرة من حياته الفذة.. توفي الشيخ حسن العطار عام 1835 على الأرجح وقيل: بل 1834، وهكذا فإنه عاش في القرن التاسع عشر قدر ما عاش في القرن الثامن عشر تقريبًا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا