أحب أن أنبه أن للوصف بالموسوعية في أدبياتنا المعاصرة ثلاث صور مختلفة على الرغم من الظن بتقاربها أو توحدها في بعض الأحيان:
الصورة الأولى للموسوعية هي ما يمكن تسميتها بالصورة القديمة أي فيما قبل عصر الموسوعات، والتي تعني ببساطة شديدة ذلك المعنى اللغوي المباشر أو الموحى به من اتساع قاعدة الثقافة أو المعرفة أو النتاج الثقافي بحيث تشمل أكثر من مجالين من مجالات التخصص، وأقول أكثر من مجالين لأن شمولها مجالين فقط يجعل الإنسان يوصف بأنه كذا وكذا (كما في تصنيف المثنى في النحو) فحسب، كأن تقول إنه محدث وفقيه، أو فليسوف وطبيب، أو مفسر ومتكلم، أو طبيب وأديب.. وهكذا، لكن المحدث الفقيه إذا برز أيضًا في التفسير أصبح خارج نطاق الحديث الزوجي عن تخصصين، وهكذا تقاعد الناس أو تعارف الناس على أن يصنفوا المبرز في أكثر من تخصصين بأنه موسوعي، ونحن نرى علامات الإعجاب ودلائله في تراجم الرجال حين تقرأ عن إمام من أئمة الفقه فنجد الميادين التي برز فيها وهي تتالى في جمل معبرة من جمعه للتفوق في الفقه والأصول والتفسير والحديث والفلك، أو جمعه للتفوق في التفسير والحديث والفقه والتاريخ وهكذا.
وفي هذا الصدد يمكننا أن نجد أن الشيخ الرئيس ابن سينا مثلًا كان طبيبًا وفليسوفًا وصيدلانيًا وفلكيًا وفيزيقيًا وجيولوجيًا، وأن الزهراوي كان جراحًا وطبيبًا وصيدلانيًا ونباتيًا.. وهكذا. ولعل نموذج المحدثين أو “المتأخرين” في القرن التاسع عشر من هؤلاء العلماء المسلمين كان هو الشيخ حسن العطار الذي جمع التفوق في الفقه وأصوله والفلك والفلسفة والمنطق وعلم الكلام فضلًا عن الإلمام بأدبيات فنون أخرى كعلوم الطب.
الصورة الثانية من الموسوعية تتعلق بالمنهج الذي يفرض نفسه على صاحب الموهبة، فلا يتناول الأمور من نظرة ضيقة يفرضها علمه أو يفرضها تخصصه أو تفرضها سلطته العلمية أو أستاذيته أو مرجعيته، وإنما هو حين يتناول أمرًا من الأمور بالبحث أو الكتابة أو التأليف يستعرض ما هو متاح من معرفة، ويتناول هذه المعرفة بمنهج يبحث عن وجوه الاتفاق والائتلاف ومظاهر الافتراق والتمايز، وحدوث التواصل والانقطاع، ويبحث أيضًا في الميدان الذي سبق الميادين الأخرى إلى هذا الفهم كما يبحث في الطريقة التي امتدت بها النظرة من ميدان إلى ميدان، ولهذا تقرأ ما يكتبه صاحب المنهج الموسوعي فتحس بوحدة المعرفة من ناحية، وتحس من ناحية أخرى بنوع من السيطرة التي يستطيع العالم المتبحر أو الموسوعي أن يمارسها بنعومة على الكون المعرفي أو الفضاء المعرفي، بحيث تتيح لك مطالعة ما يكتبه أو متابعته أن تمتد رؤيتك وتتسع قدرتك على فهم الحقيقة وعلى تصورها، ثم على تصويرها وعلى التعامل معها.
ثم تأتي الصورة الثالثة وهي الصورة الغالبة علي المصطلح الآن، ومع أنها تبدو في أذهان كثيرين مرتبطة بالصورة الثانية التي وصفناها لتونا، فإنها شيء مختلف تماما وهي موسوعية الإنتاج الفكري أو الموسوعية كطريقة في الكتابة، أو بعبارة أخرى الكتابة الموسوعية، وهي نوع من الكتابة يلتزم بإطارات منهجية (قابلة للاختلاف من موسوعية إلى أخرى ومن ميدان إلى آخر لكنها في النهاية تبقى محددة وواضحة ومقيدة) لكن هذا الالتزام لا يكفي بذاته للوصف بالموسوعية أي لا يقف عند حدود ما يحب الكاتب أو المثقف أن يكتبه هنا أو هناك، وإنما لا بد له من أن يمتد إلى وضع عمل موسوعي متكامل يجعل صاحبه من أصحاب الموسوعات أو يجعل مجموعة (أو جماعة ) أصحابه المؤلفين من أصحاب الموسوعات. وهذا هو الوصف الباقي الأن في الآداب الأوروبية تحت اسم الموسوعيين أو الإنسكلوبيديين.
وإذا جاز لنا أن نذكر أمثلة للمحدثين وللمعاصرين الذين يمثلون هذه المعاني فإننا نستطيع ببساطة شديدة أن ندرك أن رفاعة الطهطاوي وأستاذه حسن العطار وأحمد فارس الشدياق والشيخ طنطاوي جوهري والأستاذ عبد المتعال الصعيدي والأستاذ محمود شاكر وجورجي زيدان كانوا من النوع الأول. كما نستطيع ببساطة شديدة أن ندرك أن الأستاذ عباس محمد العقاد كان من النوع الثاني، وكذلك كان الأستاذ أحمد أمين والدكتور عبد الرحمن بدوي ويشترك معهم علماء من قبيل الدكتور علي مصطفى مشرفة والدكتور أحمد زكي، والدكتور عبد الحافظ حلمي وأطباء من قبيل الدكتورين محمد كامل حسين وحسين فوزي وكتاب من قبيل الأستاذ يعقوب صروف.
كما نستطيع ببساطة شديدة أن ندرك أن علي مبارك باشا وأحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا، وبطرس البستاني والأستاذ محمد فريد وجدي، والأستاذ إسماعيل مظهر، والدكتور مجدي وهبة، والأستاذ نجيب العقيقي، والأستاذ أحمد عطية الله، وأساتذة في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع من قبيل الدكتور إبراهيم مدكور والدكتور عبد الرحمن بدوي (بالطبع) والدكتور كمال دسوقي والدكتور محمد الجوهري والدكتور عبد المنعم الحفني وعبد الوهاب الكيالي والدكتور عبد الوهاب المسيري كانوا من النوع الثالث حتى وإن اقتصر جهد بعضهم على الترجمة الموسوعية.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا