الرئيسية / المكتبة الصحفية / إبراهيم باشا والدروس الكبرى من معركة نافارين البحرية

إبراهيم باشا والدروس الكبرى من معركة نافارين البحرية

باختصار شديد فإن معركة نافارين (1827) كانت نموذجاً من نماذج المغامرة غير المحسوبة والاندفاع الأخرق، وفي أفضل وصف مجامل لها فإنها كانت محاولة غير مدروسة لتحويل مناسبة عابرة إلى فرصة لفوز ساحق دون تملك للمقومات الجادة لهذا النصر. وقد كان السبب الرئيسي في هزيمة القوات العثمانية والمصرية والجزائرية فيها هو الاعتماد المبالغ على سمعة إبراهيم باشا الذي حقّق ما روجت له تصورات المصريين وأشعارهم على أنه انتصارات مثالية في معارك برية، فكان ظنه وظن من أسندوا إليه القيادة أنه يكفيه أن الحظ حليفه وبخاصة أنه حقق انتصارات متوالية على أرض اليونان حين وصل إليها، بينما تنبئ تفاصيل المعركة أنه كان مندفعاً بكل ما يمكنه إلى الهزيمة، وهي الهزيمة التي كلّفت مصر أسطولها البحري وكلّفت الجزائر أسطولها البحري بل مهّدت لاحتلال فرنسا للجزائر كما أنها الهزيمة التي أنهكت الدولة العثمانية، وأعطت الشعور للدول الأوروبية بالقدرة على هزيمة هذه الدولة التي عاشت انتصارات متتالية طيلة خمسة قرون حتى ذلك التاريخ فإذا بها بهذه المعركة تتبادل الأدوار مع الأوروبيين فتحشد نفسها للهزيمة بفضل غرور قائد ذي انتصارات حقيقية متوالية وسمعة إعلامية متضخمة وسوء تصرفه في مواجهة كل صنوف الغدر، وهو ما تغاضت الأدبيات المصرية عن الحديث عنه.

تحرص الأدبيات الأوروبية على أن تصور هذه المعركة على أنها كانت السبب المباشر في استقلال اليونان عن الدولة العثمانية، ومع تقديري العميق لكل ما يُحيط بكلمة الاستقلال من ظلال محببة إلى نفوس الشعوب فإن هذا الاستقلال بالطريقة التي تم بها كان ذا ضرر بالغ في حقيقة أمره، وهو ما لم تستوعبه الدعاية اليونانية إلا في السنوات الأخيرة حين بدأت الطباع تتعارض مع الأطماع، وذلك لأنه كان بمثابة انفصال لليونان عن بيئتها الشرقية التي كانت تعطيه مكانة مميزة في بلاد المسلمين المحيطة باليونان، ولهذا فقد كان هذا الاستقلال في جوهره بمثابة تعبير عن تقسيم على أساس ديني على الرغم من أنه كانت لليونانيين المسلمين مكانة مرموقة في الولايات العثمانية ويكفي أن نذكر أن اثنين من رؤساء الوزارة المصريين الأوائل في ذلك العصركانا يونانيين تبعا لهذا التقسيم الانفصالي أو الاستقلالي، وهما محمد شريف باشا ١٨٢٣- ١٨٨٧ وإسماعيل راغب باشا ١٨١٣-١٨٨٥. وينضم إلى هذين رئيس وزراء ثالث هو مصطفى فهمي باشا ١٨٤٠- ١٩١٤ الذي ولد في جزيرة كريت التي ظلت عثمانية طوال قرون متوالية ولم تصبح يونانية بالضم القسري إلا في ١٩١٣ أي في عهد الانقلاب العسكري الذي أضاع كثيرا من أجزاء الدولة العثمانية ليثبت أقدامه دون جدوى، ومن العجيب أنه على نحو ما انفصلت اليونان عن هذا المحيط الشرقي الكبير وفقدت مكانتها المتميزة فيه فقد اندفعت تركيا نفسها أيضا (بعد أقل من مائة عام) إلى صورة من صور الضياع التائه في مدار الغرب حين فُرض عليها ما حدث لها من استقلال مشروط بفقدانها محيطها على يد أتاتورك حيث انتقلت تركيا هي الأخرى من مقدمة الشرق إلى مؤخرة الغرب تحت دعوى الحداثة الأتاتوركية.


وقوف الحلفاء السريين في صف الأعداء
أما الدرس الأكبر الأول في معركة نافارين البحرية فهو أن فرنسا اشتركت مع روسيا وإنجلترا (من دون أي مبرر إلا الدافع الديني المعادي للإسلام والمسيحية الشرقية) في تحطيم ما سمي في ذلك الوقت بالأسطول المصري الذي كان هو أكبر استثمار مصري في البر والبحر على حد سواء، وفي الحياة المدنية والعسكرية على حد سواء. تلخص هذا الدرس الأكبر في أن محمد علي باشا كان قد عمل لحساب بعض هذه الدول وأخلص في عمالته لها ضد الدولة العثمانية التي هي الدولة التي ينتمي إليها بالمولد والوظيفة، ومع هذا فإنهم في وقت الجد لم يقدروا جهد هذا العميل وإخلاصه لسبب واحد هو أنهم أخذوا منه أقصى ما يُمكن لهم أن يأخذوه، ولم يتبق لهم مصلحة عنده لا في المنضدة ولا فوقها ولا تحتها، ومن ثم فإنه أصبح بمثابة عب ء لا عميل، وإن كان يظن نفسه في الحالين حليفاً مستتراً بينما التاريخ يقول إنه لم يرْقَ في تعاملهم معه إلى مرتبة الحليف بأية صورة ولو على سبيل المجاملة. وهكذا فإن جوهر الدرس الأكبر في معركة نافارين هو أن العمالة الخفية لقائد جيش (أو حاكم ولاية) ضد نسيج الحضارة (أو المنطقة) التي ينتمي لها لا يمكن أن يكون مصدر فخر حين تحين ساعة الجد والمواجهة، وإنما سيحرص الذين وظفوه لعمالتهم على أن يتبرؤوا منه لأن العائد من التبرؤ من العملاء أكبر وأهم من التجرؤ على الناموس الطبيعي.

حرب الابن مع الأب والطموح الكفيل بتدمير الأمة
ثم هاهو الدرس الأكبر الثاني في هذه المعركة يتمثل بوضوح فيما كان من رد الفعل الجريح لإبراهيم باشا ووالده واندفاعهما (فيما تلاها) من حرب على الدولة العثمانية نفسها وهكذا تمثل الدرس الأكبر مرة أخرى في أن الطموح الشخصي كفيل بتدمير الأمة، وأن السعي إلى المجد والسلطان لا يمكن أن يتم عبر انتصارات عسكرية تخاصم التاريخ وتخاصم عقيدة الشعب وتخاصم طبيعة البشر، وتحاول أن تستولي بالقوة المصحوبة بالغدر على مقدرات الأمور تحت تخيل قاصر يظن أن الفوز في مباراة عسكرية يمكن أن يستند فحسب إلى مهارة أو تنظيم بلا مشروعية حقيقية، ولا عقيدة صحيحة.

وتتمثل في هذا الدرس أيضا الخطورة القاتلة لما ترتب بالضرورة على معركة نافارين من الاندفاع للداخل في حرب الابن مع الأب (أو الجزء مع الكل) سواء في هذا حرب مصر مع العثمانيين أو حرب إبراهيم باشا الخفية مع والده محمد على باشا الكبير، وهنا لا بد أن ننتبه إلى حقيقة مهمة وهي أن الجهاز المناعي في جسد الابن لا يمكن أن يكون بمثابة جهاز مضاد للجهاز المناعي المناظر في جسد الأب، وأن العلاقات العضوية بين التشكيلات العسكرية أكبر بكثير من حسابات الاصطفاف والمواجهة لأنها تتعلق بكائنات حية في المقام الأول والأخير سواء أكانت هذه الكائنات بشرية أو محاكية للبشر.

الخداع لا يدوم والحماس يتناقص
يتمثل الدرس الأكبر الثالث أن النجاح في خداع الشعب المصري بما عرف عنه من الطيبة والصبر وإرجاء للتمرد لا يعني النجاح في خداع العالم المحيط بمصر، وأن النجاح في إنهاء تمرد في إحدى بؤر الدولة الكبيرة (كالدرعية) لا يعطي الحق في الاستيلاء على الدولة الكبيرة نفسها. وهنا يعبر هذا الدرس الأكبر في معركة نافارين البحرية عن نفسه بفكرة أن الصدق مع النفس أهم من تصديق النفس وبخاصة إذا كانت أمارة بالسوء.


بدأ إبراهيم باشا بعد نافارين سلسلة من معاركه العربية السريعة (التي يمكن لنا الآن وصفها بوصف لاحق هو المعارك الهتلرية الطابع )


موازين القوى
ويرتبط بهذا ما نعتبره الدرس الأكبر الرابع في معركة نافارين البحرية وهو أن موازين القوى (التي ليست هي كل شيء في المعارك) ينبغي أن تُحترم، وأن الخطط البديلة (الخطة ب) لا بد أن تكون جاهزة، وأن القول المأثور المنسوب إلى طارق بن زياد “العدو من امامكم والبحر من ورائكم” قول جميل لكنه لم يكن يعني بالضرورة اللجوء إلى حرق السفن ولا الانتحار ولا الاقدام بدون خطة ولا المواجهة بدون احتياط. وبطريقة بيولوجية وفسيولوجية فإننا نعبر عن هذا المعنى بالقول بأن الحماسة والحمية والإجهاد والقسوة عوامل كفيلة بتحقيق إنجازات في طريق الانتصار لكن هذه المعنويات نفسها بدون العقيدة الحقيقية (وبدون الرؤية الواضحة للهدف من الحرب وبدون الاقتناع العقلي عند كل محارب مشارك) تصبح بمثابة السوط الذي يُلهبُ ظهور الخيل التي لا تحتاج أصلاً إلى السوط إذا ما حميَ الوغى واندلع وطيس المعارك بينما يؤذيها السوط حين تكون في حالة الرفض أو الإجهاد أو الحرون.

المعركة الحربية ليست وحدها هي الحرب
الدرس الأكبر الخامس في معركة نافارين البحرية يدلنا على أن المعركة الحربية ليست وحدها هي الحرب، فقد اثبتت هذه المعركة بكل وضوح مدى قيمة ما كان العثمانيون يمارسونه بذكاء قبل المعارك من استباق كل مواجهة حربية مع جبهة متكتلة ضدهم بكل ما يمكنهم من تفاوض ذكي أو مناور أو محاولة جادة لإحداث ردود فعل تعبر عن انفصام سلوكي معبر عن كل اختلاف فكري موجود أو بازغ في التحالفات المضادة، ذلك أن الإسراع إلى دخول الحرب بدون سياسة هو عبث لا مُبرر له، واندفاع لا فائدة منه، واستدعاء للهزيمة.

إذا ما استطعنا استيعاب هذه الدروس المتعددة فإننا نستطيع تصوّر التحول الاستراتيجي الذي أصاب إبراهيم باشا (ووالده من قبله) بعد هذه المعركة حين ظن بناء على إيحاء وتوريط غربي مستتر وخبيث أن الأولى بمعركته أن تكون ضد الدولة العثمانية وليس معها، فهذا أدعى للنصر السهل الذي يمكن لهم أن يعينوه عليه، وهكذا بدأ إبراهيم باشا بعد نافارين سلسلة من معاركه العربية السريعة (التي يمكن لنا الآن وصفها بوصف لاحق هو المعارك الهتلرية الطابع) وقد وجد الأوربيون بحساباتهم التآمرية (أو الخبيثة في صناعة التآمر) أن هذه المعارك تمثل لهم أملا وحلا في أن ينهوا وجود إبراهيم باشا وأمله وأمل المصريين من خلال اتفاقية لندن 1840 لتبقى مصر بعيدة تماما عن تحقيق أية فائدة من هذه القوة الصاعدة التي لعب قائداها (الأب محمد علي والابن إبراهيم باشا) على كل الحبال فإذا بمشروعهما يتحوّل إلى مغامرة أقرب إلى المؤامرة منها إلى أيّ شيء آخر، وإذا بمصر تفقد على يديهما مستقبلاً واعداً لسنوات طويلة كما تفتقد الجيش والاسطول والإرادة الشعبية وروح الانتماء عند الشعب الذي سيق إلى مغامرات لم يجد لها نتيجة إلا الفشل والخسارة والقهر معاً.

 

 

 

 

 

 

 


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com