لا شك في أن الشاعر أحمد رامي 1892 ـ 1981 إنسان مبدع عظيم القدر، قُدّر له أن يعيش حياته كلها مشهورا بكلماته التي يتغنى بها المطربون وفي مقدمتهم أم كلثوم، وترددها الجماهير بألحانها أو بدندناتها أو حتى بدون ألحان أو دندنة، وكأنها القول السائر الذي يحسم الصراع النفسي في أية قضية يواجهها صاحبها فيلجأ إلى حكمة الشاعر أحمد رامي المغناة ليجد الحل أو حتى ليجد الهروب من المواجهة تحت أي دعوى من الدعاوى التي صاغها هذا الشاعر العبقري بكلماته المعبرة عن الوجدان قبل أن تكون معبرة عن الحقيقة، وإن لم تخل في الحالين من التعبير عن الحكمة والتأثر بالفلسفة.
لم يشغل باله باحتكار صوت أم كلثوم
قُدّر لهذا الإنسان العظيم أن يعيش المجد كله وأن يرى بعض المجد يتوزع على يد أم كلثوم بينه وبين غيره من شعراء الأغاني ومؤلفيها، فلم يزده هذا إلا اعتزازا بفنه وشعره من دون أن يشغل نفسه لحظة واحدة بفكرة أن يكون هو وحده المحتكر لصوت أم كلثوم، مع أنها كانت قد بدأت مرحلة شهرتها السامقة بأغانيه هو وحده، وقد أشرت في أحد احاديثي الفضائية إلى أن الأستاذ محمد عبد الوهاب كان يُغني من كلمات كثيرين ثم استقر على أن تكون أعماله من كلمات حسين السيد وحده، وأن السيدة أم كلثوم اقتصرت في فترة على كلمات الشاعر أحمد رامي وحده ثم حرصت على أن تغني من كلمات أكبر عدد يمكنها أن تغني له من الشعراء والأقطار.. ومن العجيب أو من العظيم أن الشاعر أحمد رامي ساعد السيدة أم كلثوم على هذا وساعدها في هذا كذلك فكان يشترك معها في اختيار النصوص، بل كان يُعد لها هذه النصوص على نحو ما فعل حين أعد لها الأطلال من أكثر من قصيدة من قصائد الدكتور إبراهيم ناجي، بل إنه كان يُغيّر لها بعض كلمات غيره لتكون أنسب لذوقها في المقام الأول، أو لصوتها في المقام الثاني، أو لقدراتها في المقام الثالث، أو لرسالتها التي كانت تعتقد أنها تؤديها بغنائها.
كان أستاذا وموظفا مثاليا
عاش الشاعر أحمد رامي حياته هادئا مسالما، وقد احتفظ بوظيفته في دار الكتب وأدى كل ما كان واجبا عليه تجاه هذه الوظيفة من دون ضجر أو تعال، ومع أنه تخصّص في اللغة الفارسية وأتقنها إلى حد الأستاذية، فإنه لم يشغل باله بأن يكون الأستاذ الجامعي المسؤول عن اللغة الفارسية في مصر، وإنما ظل في دار الكتب يؤدي حقوق هذه المعرفة التي ابتعث من أجلها على النحو الأكمل، فكانت له بصماته في فهارس الدار ومقتنياتها الفارسية، والعربية أيضا، وبلغ من إخلاصه لعمله الوظيفي أنه تولى الإشراف على إخراج القاموس الجغرافي للبلاد المصرية، الذي كان الأستاذ محمد رمزي قد أعدّه، وهو عمل عظيم قدّر لي أن أتشرف بإعادة نشره في مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب في طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب التي أعدها وكتب مقدمتها الأستاذان أحمد رامي وأحمد لطفي السيد (المدير في دار الكتب وليس أستاذ الجيل).
عرف الرواد مبكرا
كان أستاذنا الشاعر أحمد رامي هاويا للشعر منذ نشأته، وكان من الموهوبين الذين يُتاح لهم أن يتصلوا بالأساتذة الكبار ليأخذوا عنهم وليتلقوا عنهم تعليما مباشرا، وهكذا فإنه عرف شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي كان يوجهه إلى ضرورة المعنى والبيان للشعر، كما عرف أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كان يكلّفه بإلقاء بعض قصائده والذي وعده أن يكتب مقدمة لديوانه الأول وأوفى له بهذا بالوعد.. هكذا كان الشاعر أحمد رامي المولود في 1892، والذي بلغ الأربعين عند وفاة شوقي وحافظ وقد احتفظ من كليهما قبل وفاتهما بالتقدير الذي يستحقه. امتد العمر بأستاذنا الشاعر أحمد رامي إلى ما بعد وفاة أم كلثوم وقدر له أن يرثيها بقصيدة أصّر على أن يلقيها بنفسه وهو في صحته المتهدمة، لكنه عبر بهذا الإلقاء عن كل معاني القصيدة وعن كل المعاني التي أرادت القصيدة أن تعبر عنها مما لم تتضمنه أبياتها.
ثامن من حصلوا على جائزة الدولة التقديرية
قدّر للشاعر أحمد رامي أن يكون ثامن من نالوا جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وقد سبقه إليها من هم أكبر منه في السن، طه حسين والعقاد (1889) وأحمد حسن الزيات (1885) كما سبقه إليها أربعة من التالين له في المولد في العقد الأخير من القرن التاسع عشر: توفيق الحكيم (1898) ومحمود تيمور (1894) ومحمد فريد أبو حديد (1893) وعزيز أباظة (1899).. وكان الشاعر الذي لحق بالشاعر أحمد رامي بعد فترة في الحصول على جائزة الدولة التقديرية في الآداب هو عبد الرحمن الشرقاوي.
أبوه طبيب وابنه طبيب وحفيده كذلك
من الطريف أن والد الشاعر أحمد رامي كان طبيبا وقد أنجب ابنه أحمد حين كان لا يزال طالبا في الطب، ومن الطريف أن للشاعر أحمد رامي ابنا طبيبا، كان لواء طبيبا في القوات المسلحة وجراحا للعظام، وأن له حفيدا أستاذا لأمراض النساء والتوليد في طب عين شمس، وقد كان والده الطبيب عاشقا للموسيقى والغناء، وقدر له أن يتنقل في وظيفته كطبيب مع البعثات الحربية في ذلك الزمن، وهكذا قُدّر للشاعر أحمد رامي أن يعايش مجتمعات الفن الملهمة في غياب والده أو بصُحبة والده.
قضى طفولته في الجزيرة التي تملكها مصر في بحر إيجة
ففي السابعة من عمره ولمدة عامين صحب الشاعر أحمد رامي والده إلى جزيرة طاشيوز في بحر إيجة، وهي من الأملاك المصرية، وكان الخديو عباس حلمي الثاني ١٨٧٤- ١٩٤٤ يمتلكها ثم آلت إلى أملاك الدولة بعد تسوية مالية عقدتها معه مصر في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا، ومنذ ذلك الحين والجزيرة مصرية خالصة لمصر، إلا أن يكون العبث المستتر قد فعل فيها ما فعله في غيرها.
وبعد عامين انتقل الشاعر أحمد رامي إلى العيش مع عمته بالقرب من حي الإمام الشافعي وليلتحق بكتّاب الشيخ رزق ومدرسة عائشة ثم مدرسة المحمدية الابتدائية وهو في الحادية عشرة من عمره (1903) ثم قضي وقتا قصيرا مع والده قبل أن ينتقل الأب إلى بحر الغزال في السودان وينتقل هو في رعاية جده لأمه بالقرب من مسجد السلطان الحنفي، حيث تُعقد حلقات الصوفية في سكون الليل، وهكذا تشكلت له ما نسميها “ذاكرة الوجدان”، وقد حفلت بعناصر ذات تأثير جمالي من تغريد عصافير جزيرة طاشيوز وحلقات الصوفية بالقرب من مسجد السلطان الحنفي. نال الشاعر أحمد رامي البكالوريا من المدرسة الخديوية (1911) والتحق بمدرسة المعلمين العليا ليُزامل عددا من رواد ثقافة المصرية فيما بعد ذلك: وأحمد زكي ومحمد فريد أبو حديد والعبادي وغربال.
نشره المبكر لديوانه
لم يترك الشاعر أحمد رامي الفصحى نهائيا، وإنماه احتفظ للفصحى بمكانها الذي لا يمكن أن تفقده، ولم يشغل الشاعر أحمد رامي نفسه على أي مستوى بحركة شعر التفعيلة أو الشعر الحر
صدر ديوان الشاعر أحمد رامي في طبعته الأولى 1918 وقد تضمن تحية شعرية من خليل مطران وصدر في طبعته الثانية بتحية من أحمد شوقي. اشتهر الشاعر أحمد رامي بلقب شاعر الشباب، لأنه كان ينشر شعره في مجلة الشباب التي كان يصدرها عبد العزيز الصدر، وعلى هذا النحو اشتهر محمد عبد الغني حسن بشاعر الأهرام لأن جريدة الأهرام كانت تنشر قصائده في صفحتها الأولى. ومن الجدير بالذكر هنا أن الشاعر أحمد رامي نشر أول قصائده في مجلة “الروايات الجديدة” التي كان يُصدرها نقولا رزق. اختار الشيخ أبو العلا محمد قصيدة الشاعر أحمد رامي “الصب تفضحه عيونه” لأم كلثوم لتغنيها، وقد أُعجبت أم كلثوم بهذه القصيدة فغنتها في الوقت الذي كان الشاعر أحمد رامي بعيدا عن مصر في بعثته إلى فرنسا فلما عاد في 1924 حضر غناءها و استمع إليها من دون أن تعرفه، ثم قدم لها نفسه في نهاية الحفل.
تحوله إلى العامية الراقية
يذهب معظم النُقاد ومؤرخي الأدب إلى أن الشاعر أحمد رامي تحول من الفصحى إلى العامية الراقية على يد أم كلثوم أو من أجلها، ومن الحق هنا أن نُشير إلى أن الشاعر أحمد شوقي نفسه كان رائدا في هذا الاتجاه، حيث كتب لمحمد عبد الوهاب أغاني بالعامية الراقية. وقد بلغ رصيد الشاعر أحمد رامي من الأغاني العامية الراقية أكثر من 300 أغنية عبّرت عن كل قضايا الوجدان والهجر والصدود والندم والعتاب والألم والحسرة ولوم النفس وتمني رضا الحبيب ووصاله وعودة شبقه وهيامه.. الخ
وأصبح الشاعر أحمد رامي بفضل هذه الأغنيات أول شعراء العامية وأقواهم أثرا، وأكثرهم حضورا، وأبقاهم على الزمان، ولا شك في أن الألحان الذكية ساعدت كلماته، كما أن صوت أم كلثوم الساحر ونفوذها الطاغي ساعدا الألحان، لكن هذا كله لم يكن ليُنتج نتيجته الباهرة بدون نصوص الشاعر أحمد رامي التي استطاعت التعبير بالتنويع والتعدد والتجديد دون تكرار أو استرجاع أو استعادة أو تعقيب، وإنما جاءت كل أغنية من أغاني الشاعر أحمد رامي لتمثّل حلقة متميزة قائمة بذاتها من حيث المعاني والسياق ولتُعبّر عن تجربة تبدو مستقلة تماما عن أية تجربة من التجارب الأخرى، حتى لو كانت للثلاثي نفسه: الشاعر والملحن والمطربة. لم يترك الشاعر أحمد رامي الفصحى نهائيا، وإنماه احتفظ للفصحى بمكانها الذي لا يمكن أن تفقده، ولم يشغل الشاعر أحمد رامي نفسه على أي مستوى بحركة شعر التفعيلة أو الشعر الحر، فقد كانت أدواته التي تمكّن منها تغنيه وتعينه وتنأى به عن هذه المعركة أو هذا الصراع.
تحوله إلى العامية الراقية
كان الشاعر أحمد رامي مُترجما قديرا، يعرف كل الناس ترجمته لرباعيات الخيام وهي الترجمة التي تفوقت على كل ما سبقها، بل وعلى كل ما لحقها، ومن الجدير بالذكر أن الترجمة التي كانت مفضلة قبل ترجمة الشاعر أحمد رامي كانت هي ترجمة الأستاذ محمد السباعي عن النص الإنجليزي الذي ترجمه فتز جيرالد، أما ترجمة الشاعر أحمد رامي فقد نظمها شعرا عن النص الفارسي مباشرة بعد إتقانه للفارسية في بعثته إلى باريس، وقد كان المناخ الثقافي من الذكاء والموضوعية بحيث ارتفع بقيمة ترجمة الشاعر أحمد رامي للرباعيات حين نُشرت في القاهرة وهو لا يزال في باريس، وبوأها مكانها الرفيع. لكن بعض القراء قد لا يعرفون أن الشاعر أحمد رامي ترجم أيضا بعض مسرحيات شكسبير: هاملت، ويوليوس قيصر، والعاصفة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا