من الحكمة عند محاولة الإجابة عن هذا السؤال أن نبدأ بالتعريفات، ومع أن التعريفات قد تكون واضحة وبغير حاجة إلى تحديد، فإن إزالة بعض الالتباس تمثل ما هو أهم من التعريف، فليس المقصود بمجانية التعليم أن ننفق إنفاقا سفيها في مجالات لا تمثل جوهر العملية التعليمية ولا هوامشها، وإنما تمثل تلبية مصالح خاصة وتوازنات نفوذ، ثم نتحدث عن أن هذا الإنفاق كان في سبيل المجانية أو في سبيل التعليم، بينما لم يكن للإنفاق علاقة لا بالمجانية ولا بالتعليم.
الفهم البسيط للمجانية
ولهذا فإن المقصود بمجانية التعليم في بساطة شديدة هو أن يتمكن المواطن من التعلم من دون أن يكلفه هذا التعلم مالا قد يعجز عن توفيره، بل من دون أن يكلفه ما قد لا يعجز عن توفيره، فيعجز بالتالي عن أن ينال نصيبه من التعلم. بل إن الفهم الأكثر إنسانية يميل إلى أن يعدل من الكلمة الأخيرة ليصبح التعريف مرتبطا لا بالحق في التعلم فحسب، وإنما بالأمل في التعلم، وهو ما يعني أن تكون الفرص متاحة مجانا وبدون تكلفة للتعليم المستمر، ولإعادة التأهيل والتعليم، بل للتحول المهني المستند إلى تعليم مجاني متاح في كل وقت وفي كل مكان على أرض الوطن الذي يرفع شعار «مجانية التعليم»، ومن ثم يصبح من حق خريج كلية الزراعة أن يعود وهو في الأربعين، على سبيل المثال، فيبدأ في دراسة الحقوق دون أن يكلفه ذلك شيئا.
ويبدو لنا الآن أن هذا المفهوم البسيط قد أصبح بحكم ظروف متتالية غريبا عن الفهم عند مثقفينا الذين تعودوا على نهاية صلاحية شهادة الثانوية العامة بعد شهور من الحصول عليها، بل على أن الشهادة الابتدائية الحديثة ليست شهادة وإنما هي مسابقة القبول في المرحلة الإعدادية. وليس سرا أن الجيل الحالي من الآباء لا يزال يسمي الابتدائية بذلك الاسم العجيب الذي ابتكره عصر سابق حين سماها مسابقة “القبول”، وهو اسم كان يدل بوضوح على معنى النفق الضيق الطويل الخطر والمعترف في الوقت ذاته بإمكان وقوف التعليم المتاح عند ذاك الحد.
بل يبدو لي أن المفهوم الذي أدعو إليه قد أصبح غير قابل للتفهم ولا للإدراك عند مجموعة كبيرة ممن يظنون أنفسهم يمثلون تيار الإصلاحيين الجدد في الوطن العربي، وهذه مشكلة كبيرة، وقد أكون مهونا الأمر إذا لم أصفها بوصفها الحقيقي وهي أنها مأساة. ولست أريد أن أبدأ بتخطئة هؤلاء، كما أني لا أريد أن أتجاهل حقيقة أن هؤلاء الإصلاحيين الذين كثرت مؤتمراتهم في ظل دعوة خارجية إلى الإصلاح معذورون في تبني كثير من الأفكار القاصرة التي تصور لهم الإصلاح في إطار أضيق زمنا مما يتطلبه أي إصلاح اجتماعي حقيقي أو سياسي حقيقي، كما أنهم في ظل انبهار مبرر بالمؤسسات الغربية المعاصرة معذورون في كثير من تصوراتهم للإصلاح.
والحق أن تجربتي المتكررة في حوارهم (على مستوي فردي أو جماعي) قد أثبتت لي أن معظم هؤلاء يستجيب لكثير من التوجيه الذي أبديه في تعليقاتي السريعة على تصوراتهم وإدراكهم لحقائق التنمية في وطننا العربي. ويبدو لي في كثير من الأحيان أنني أتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية عن انطلاق الأطر الفكرية للإصلاح في مسارات تفتقر إلى الدليل في النجاح أو الوصول إلى بدايات أكثر تبشيرا بالتقدم. لكني في الوقت نفسه كنت ولا أزال أعود لأقنع نفسي بحقيقة أن في وسع هؤلاء أن يجدوا التاريخ القومي والاجتماعي، كما أجده، مبسوطا ومتاحا في كثير من مصادره ومراجعه، وأعتقد أن قراءة هذا التاريخ باهتمام وتجرد كفيلة بأن تنقذ برامج الإصلاح وخططه من زيغ الرؤية وغيوم الأفق على حد سواء.
الفرق بين الإلزامي والابتدائي
وبادئ ذي بدء فإني أستعيد من لقاء قريب نهاية حوار دار بيني وبين مجموعة كبيرة من التربويين المفكرين نبهت فيه إلى غياب الوعي في الخطاب المعاصر بالفرق بين التعليم الإلزامي والابتدائي. وقلت إني أزعم دون ادعاء أن التجربة المصرية في الاهتمام المكثف بالتعليم الإلزامي في العشرينيات والثلاثينيات قد أثبتت نجاحا كبيرا حتى إننا لا نكاد نجد أميا واحدا في الجيل الذي عاش فترة التعليم الإلزامي المتميز الذي كانت الحكومة تقدمه لمدة عامين دراسيين متميزين قبل أن يتهيأ التلميذ للالتحاق بالتعليم الابتدائي القديم، أو لمسارات تعليمية أخري في الأزهر الشريف، أو لدخول سوق العمل مباشرة متسلحا بالقدرة على الحقيقية على القراءة والكتابة!
وقلت: إن التجربة التالية التي وحدت التعليم الإلزامي والتعليم الابتدائي معا وزادت من مدة الإلزام لتستغرق المرحلة الابتدائية كلها بدأت، معها (وليس بسببها للأسف الشديد) سلسلة متتالية من سياسات خداع النفس حتى وصل الأمر إلى الزعم بأننا نقدم في مصر تعليما أساسيا يشمل 9 سنوات هي مجموع سنوات التعليم الابتدائي والإعدادي مع ما يشوب هذه التجربة وما سيظل يشوبها من اقترانها بمعدلات عالية للتسرب، ومن تضاؤل مستويات الجودة إلى أدني حد.
ليس هذا فحسب، بل إننا في ظل الطبيعة البشرية التي لابد لها من الزعم بالمضي نحو الأمام ونحو التقدم تمادينا في فرض تصورات خيالية على المناهج وطرق التدريس، فأصبحنا نرى طالب السنوات الأولي من المرحلة الابتدائية وهو يتسلم كتبا محشوة بما لا يمكن له عقلا أن يقرأه ولا أن يستوعبه، ومع هذا فإننا نزيد عاما بعد عام من هذه المقررات الوهمية التي نتصور أن أحدا يمكن أن يصدق أنها تُستوعب على هذا النحو.
التعليم بناء جميل
ومضيت في حديثي إلى حد أن شبهت الأمر بوالد كان حريصا علي بناء فيلا جميلة من دورين وتشطيبها وتأثيثها، وقد نجح في هذا تماما، فلما ورثه ابنه آثر أن يهدمها وأن يبني مكانها عمارة من تسعة أدوار من طراز معماري لا طعم له، ولا لون ولا رائحة، وإذا به عاجز عن أن يكمل البناء وبالتالي عاجز عن التشطيب، ومن ثم فإنه لم يوظف ما بناه، ولا موارده، وإنما هو قد اكتفي مضطرا بارتفاع الهياكل الخرسانية لتسعة أدوار، وإذا هو يكتشف أن الهياكل غير صالحة لأن تواصل عملها، وإنما هي بحاجة إلى التخلص من أحد الأدوار، وقد فعل، وألح عليه أقرانه أن يعيد بناء الدور المزال، وسيفعل، ثم إذا الحقيقة المرة أن الطوابق التسعة كلها في حاجة إلى الإزالة.
لعلي أطلت هذه الجزئية، لكني قصدت أن أوضح بها حقيقة جوهرية في فهم مصير مجانية التعليم، ولعل القراء قد أدركوا الوجه الأعمق للقضية وهو أن الحق في مجانية التعليم لا يجوز أن ينسحب عبر آليات مظهرية إلى أن يصبح مجرد الحق في الاستحواذ على شهادة تعليمية قد تؤهل للدخول إلى مجتمع الوظيفة لكنها لا تؤهل لدخول مجتمع المعرفة.
– ربما أن هذا هو الفارق الكبير بين منهج النجاح ومنهج الفشل.
– ربما أنه أيضا الفارق الحاسم بين الأمل الذي نبتغيه والواقع الذي صرنا نعيشه.
– ربما أنه ثالثا الفارق المضيء بين نجاح منشود وسراب مفروض بل مرفوض أيضا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا