كان التعبير عن الفرحة التي سيطرت على مشاعر العرب بانتصار أكتوبر١٩٧٣ من التجارب الشعورية الخصبة التي واجهها كل شاعر وكل فنان بل كل مثقف بسيط، وفيما قبل هذه الحرب كان سيد الموقف بلا جدال هو الخوف الشديد بل الذعر من تكرار تجربة ١٩٦٧ في التهليل لانتصار كاذب، يدغدغ المشاعر في البداية ثم يترك النفوس محطمة، وكان الزمن قد ترك في نفوس الأدباء والفنانين والجماهير من قبلهم انطباعا قويا بأن النصر مستحيل، وقد تدعم هذا الانطباع بالاسترتيجية الإعلامية التي كان ينفرد بصنعها صحفي واحد مستفز استعذب بث اليأس في النفوس على النحو الذي صوره كثيرون منهم نزار قباني في قصيدته.
وبالرغم من هذا فقد كانت المعارك التي اندلعت فجأة ظهيرة ٦ أكتوبر تستنهض همة الشعراء ليعبروا عما رأوه من بشائر النصر، وبالطبع فقد استغرق كل منهم في التفكير والتأمل في المنظور الكفيل له بأن يعبر من خلاله عن موقفه من هذا التاريخ الحي والمجيد الذي يتشكل أمام عينيه، وفي مثل هذه الأحوال تتجلى الموهبة الحقيقية على نحو ما حدث مع الشاعر صلاح عبد الصبور الذي أتم نظم قصيدته الرائعة في ثالث أيام المعارك ونشرها في ٩ أكتوبر ١٩٧٣ متوجها بها في عنوانها ومعبرا بكل وضوح عن سعادته وانبهاره بانتقاله وانتقال جيله من حالة عدم التصديق واللايقين إلى الحالة المناقضة تماما للخوف والإشفاق، وهي حالة تحفل بكثير من الانتشاء والبهجة مهما سبقها من تشكك وتشكيك وتوجس .
هذا هو صلاح عبد الصبور في قصيدته الخالدة ” إلى أول جندي رفع العلم في سيناء” يخاطب ذلك الجندي البسيط العظيم فيقول:
“تَمَلَّيْناك، حين أهَلَّ فوق الشاشة البيضاء،
وجهك يلثم العلم[ا]
وترفعه يداك،
لكي يحلق في مدار الشمس،
حر الوجه مقتحما
ولكن كان هذا الوجه يظهر، ثم يستخفي
ولم ألمح سوى بسمتك الزهراء والعينين
ولم تعلن لنا الشاشة نعتًا لك أو اسمًا
ولكن، كيف كان اسم هنالك يحتويك؟
وأنت في لحظتك العظمى
تحولْت إلى معنى
كمعني الحب، معنى الخير، معنى النور، معنى القدرة الأسمى
ثم إن الشاعر صلاح عبد الصبور ينتقل إلى حالة متقدمة من السعادة والنشوة اللتين لا تقفان عند حد وهو يصف حالة إيمانية متسامية تعبر عن عبادة الله جل جلاله والإيمان بقدرته، وتجعله، هو وأي واحد غيره من أمثاله البسطاء على حد وصفه، يتمني المشاركة في هذا المجد بأية صورة حتى لو اقتصرت المشاركة على أن يمر ببال ذلك الجندي العظيم الذي رفع العلم على أرض سيناء بعدما تعذبوا بحب هذا العلم الذي كان هائما بسبب الهزيمة الثقيلة:
تراك،
وأنت في ساح الخلود، وبين ظل الله [والأملاك]
تراك، وأنت تصنع آية، وتخط تاريخا
تراك، وأنت أقرب ما تكون
إلى مدار الشمس والأفلاك
تراك ذكَرْتني،
وذكرت أمثالي من الفانين والبسطاء
وكان عذابهمْ هو حب هذا العلم الهائم في الأنواء
وها هو عاد يخفق في مدى الأجواء
وخوفٌ أن يمر العمر، لم يرجع إلى وكره
ويفيض الشاعر صلاح عبد الصبور في التعبير عن مظاهر حبه للوطن / وعلم الوطن على نحو ما تمناها في تلك اللحظات والأيام وهو يتصور ارتعاشة الفرحة وهزتها واعتزاز رافع العلم بتملكه للأفق:
فهل، باسمي وباسمهمُ لثمت النسج محتشدا
وهل باسمي وباسمهمُ مددت إلى الخيوط يدا
وهل باسمي وباسمهمُ ارتعشت بهزة الفرح
وأنت تراه يعلو الأفق متئدا
ثم يعبر الشاعر صلاح عبد الصبور عن أمنيته في أن يكون ذلك الجندي المصري الذي رفع العلم قد همس، وهو يرفع العلم بسورة الفتح، لينال هذا النصر البركة من الله جل جلاله:
وهل باسمي وباسمهمُ همست بسورة الفتح
وأجنحة الملائكة حوله لم تحصها عددا
وأنت ترده للشمس خدنا باقيا .. أبدا
وعلى صعيد خامس يصف الشاعر صلاح عبد الصبور باقتدار شديد حالة ذهنية يصعب على غيره أن يصفها بهذا المزيج من حساسية العلم والإيمان وهي الحساسية التي لا نجدها إلا في الموهوبين من أمثال صلاح عبد الصبور من الذين عرفوا معاني الحب والإخلاص لكل قيمة سامية بما فيها قيم الإيمان والوطنية والعلم والانتماء والنصر نفسه:
هنيهاتٍ من التحديق حالت صورة الأشياء
فى هذه العينين
وأضحى ظلك المرسوم منبهما
رأيتك جذع جميزٍ على ترعة
رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة
رأيتك حائطا من جانب القلعة
رأيتك دفقة من ماء نهر النيل
وقد وقفت على قدمين
لترفع في المدى علما
يحلق في مدار الشمس،
حر الوجه مبتسما
بقي أن نشير إلى ما استقر في معرفتنا التاريخية من أن هذا الجندي كان هو محمد العباسي الذي ظل على قيد الحياة حتى ٢٠١٩ .من دون أن نعرف له قدره لسبب بسيط أنه كان جنديا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
%MCEPASTEBIN%