كان الشيخ محمد بخيت المطيعي 1856- 1935 مع سلفيه الأستاذ الشيخ حسونة النواوي 1840- 1924 والأستاذ الإمام محمد عبده 1849- 1905 وخلفه الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم 1882- 1954 أشهر أربعة تولوا الإفتاء في مصر، ويذكر له أنه تولى منصب الإفتاء بقوة وهمة وحضور منذ 1914 وحتى 1920وظل رمزا للفتوى حتى وفاته حتى إنك لا تجد اسمه في أي نص إلا مقترنا بلقب المفتي، وقد رشح لمنصب مشيخة الأزهر أكثر من مرة بيد أن الخوف من قوة شخصيته كان أكبر من الرغبة في كفايته.
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي نموذجا للسلف الصالح من علماء الدين، تقياً ورعاً، يخشى الله في كلّ تصرفاته ، ويستشعر رقابته في كلّ أقواله وأفعاله ، وكان شديد التمسك بالحق كما كان يهمل مصالحه الخاصة في سبيل نصرة الحق، و كان يجهر بكلمة الحقّ دون أن يعبأ بذي سلطان أو مسؤول كبير، وما عرف عنه أنّه داهن أحداً، أو جامل في أحكامه القضائية، مهما تكن منزلة المدّعي أو المدّعى عليه، أو علاقته بهما، وقد أدّى به تشدّده في أقضيته إلى الفصل من وظيفته، فما اهتم بهذا ولا سعى للعودة إلى عمله بوسيلة تخدش كرامته أو تنال من عقيدته.
من ناحية ثانية فقد كان الشيخ محمد بخيت المطيعي نموذجا كذلك لرهبان العلم ، عاش حياته مستمتعا باللذة النادرة التي رزقها أولو الموهبة العقلية والذكاء والعبقرية، فقد كان عكوفا على القراءة، والتبحّر في العلم، و كان مبرزًا في علم الأصول واستنباط الأحكام الشرعية، وقد وصف بأنه الفقيه المفسر الأصولي المنطقي الفيلسوف المحقق المدقق، ، و ظهر أثر هذا كله فيما كتب من مؤلّفات، وألقى من محاضرات، وترك من دراسات ، وقد أفاض المتحدّثون عنه بعد وفاته بما كان يتميز به من العلم الغزير ، فأشادوا بمكانته العلمية وتشعّب اهتماماته الثقافية، حتى قال بعضهم إنه كان أعلم جيله بدقائق الفقه الحنفي، وأبسطهم لساناً في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة، كما ذهب آخرون إلى أنّه عرف بالزعامة في علم الأُصول، فكان يرجع إليه جلّة العلماء فيما يشكل من مسائله، ويصادفون لديه لكلّ مشكلة حلاًّ، كأنّها مرّت به من قبل، فعالجها وانتهى إلى ما يحسن السكوت عليه من أمرها .
ولم تكن عبقريته مقصورة على نبوغه في علمي الفقه والأُصول، وإنّما كان في كلّ ما كتبه أو تحدث به بمثابة العالم المتبحّر المتمكّن من مادّته، ويتجلّى ذلك في كتبه الحوارية أو الجدلية: “تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية”، و” حقيقة الإسلام وأُصول الحكم”، و” توفيق الرحمن للتوفيق بين ما قاله علماء الهيئة وبين ما جاء في الأحاديث الصحيحة وآيات القرآن”.
على صعيد ثالث فقد كان الشيخ محمد بخيت المطيعي نموذجا كذلك لمن يوصف بالمثقف العضوي فقد عاش مشكلات الأُمّة وعالجها بما أوتي من الذكاء والعبقرية، وكان في مقاربته للقضايا الاجتماعية والسياسية رحب الأُفق، واسع المدارك يدعو إلى وحدة المصريين كما كان يدعو إلى الوحدة الإسلامية، ولهذا أيضا فقد كان يمقت التعصّب المذهبي، ويؤمن بالتقريب بين أتباع المذاهب الفقهية. وقد عبّرت إسهاماته و مداخلاته عن ثقافية موسوعية، واطّلاع على ما كان يضطرب في عصره من أفكار وآراء.
ترك الشيخ محمد بخيت المطيعي مجموعة من المؤلفات، تفاوتت في الحجم ، وبعضها غير مشهور ، وغلبت على مؤلفاته لغة الفقهاء وكثرة النصوص المنقولة للاستشهاد ،كما غلب السجع على عناوين مؤلفاته ، وكان بعضه كتبه ردّاً على أسئلة وجّهت إليه،.
نشأته
ولد الشيخ شمس الدين محمد بن بخيت بن حسين المطيعي في بلدة القطيعة ” بالقاف” من أعمال مركز ومديرية أسيوط في صعيد مصر، وهو الذي غير أسمها إلى المطيعة “بالميم” تفاؤلاً فاشتهرت بذلك، كان مولده في 10 من المحرم سنة 1271 الموافق سنة 1856. وفي بعض المصادر رواية أقل تداولا أنه ولد 1854
وعلى عادة أهل العلم في زمانه فقد كان يلقب بالمطيعي الصعيدي ثم القاهري
نشأ الشيخ محمد بخيت المطيعي نشأة دينية حيث حفظ القرآن وتعلم تجويده، كما تعلم القراءة والكتابة، وكانت عائلته على المذهب المالكي وهو أول من تحنف منهم.
التحق الشيخ محمد بخيت المطيعي ١٨٦٧ بالأزهر الشريف بالقاهرة، واجتهد في طلب العلم، ووصفه معاصروه بأنه كان ذا فكر حاضر، وذهن ثاقب، وحفظ جيد، وأنه برع في العلوم العقلية والنقلية، وتقدم على أقرانه، وأشتهر ذكرهِ وذاع صيتهِ ووقع عليه الإقبال من الناس.
وفي أثناء دراسته عرف السيد جمال الدين الأفغاني وكذلك التقى ببديع الزمان سعيد النورسي.
وتتلمذ على كبار الشيوخ في الأزهر وخارجه، وكان من أساتذته الدمنهوري والمهدي والملواني و محمد عليش، وعبد الرحمن الشربيني، وأحمد الرفاعي المالكي وأحمد منة الله، والسقا، ومحمد الخضري المصري، وحسن الطويل، ومحمد البهوتي، وعبد الرحمن البحراوي، ومحمد الفضالي الجرواتي، وغيرهم. وذلك على ما ذكره صاحب «كنز الجوهر في تاريخ الأزهر».
نال الشيخ محمد بخيت المطيعي شهادة العَالِمية من الدرجة الأولى في عام ١٨٧٧، وأنعم عليه بكسوة التشريفة من الدرجة الثالثة مكافأة له على نبوغه وفضله.
عمله الوظيفي بالتدريس والقضاء والفتيا
على سبيل الإجمال فقد قضى الشيخ محمد بخيت المطيعي حياته الوظيفية في وظائف القضاء في ست من مديريات ومحافظات الإقليم المصري كما عين عضواً في المحكمة الشرعية ثم في محكمة الاستئناف في الإسكندرية، ثم عين بمنصب المفتي في الديار المصرية، وسارت انتقالاته في الوظيفة على النحو التالي:
1878: كلف بتدريس علوم الفقه والتوحيد والمنطق
1880: عُيِّن قاضيًا للقليوبية
1881: قاضيًا للمنيا
1883: قضاء بورسعيد
1885: قضاء السويس
1887: قضاء الفيوم
1889: قضاء أسيوط
1889: مفتشًا شرعيًّا بنظارة الحقانية
1894: عُيِّن قاضيًا لمدينة الإسكندرية ورئيسًا لمجلسها الشرعي،
1898: عُيِّن عضوًا أول بمحكمة مصر الشرعية، ثم رئيسًا للمجلس العلمي بها، وفي هذه الأثناء ناب عن قاضي مصر الشيخ عبد الله جمال الدين ستة أشهر حال مرضه إلى أن عُيِّن بدله، ثم تركه عام 1905.
1907: عُيِّن رئيسًا لمحكمة الإسكندرية الشرعية.
1912: نقل إلى إفتاء نظارة الحقانية في أوائل سنة 1912 وأحيل عليه قضاء مصر مرة ثانية نيابة عن القاضي نسيب أفندي، ثم أحيل عليه مع إفتاء الحقانية رئاسة التفتيش الشرعي بها.
وفي 9 من صفر سنة 1333هـ الموافق 26 ديسمبر 1914 عُيِّن مفتيًا للديار المصرية، واستمر يشغل هذا المنصب حتى 16 من شوال سنة 1338هـ 1920م حيث أحيل إلى المعاش، و في إحصاء دار الإفتاء أنه أصدر خلال فترته 2028 فتوى.
تفوقه في الأستاذية
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي مغرما بالأستاذية غراما متصلا مهما كان منصبه بعيدا عنها ، حتى إنه لم ينقطع عن تدريس العلوم الإسلامية النقلية والعقلية لطلبة العلم الشريف منذ نال شهادة العالمية إلى أن توفّي، أو بعبارة أخرى فإنّه لازم التدريس أكثر من ستّين سنة، فإذا كان عمله في القاهرة أو بلد قريب منها كان تدريسه للعلم بالقاهرة، وإذا كان في بلد بعيد كان درسه بذلك البلد ، وهكذا فإنه كان لا ينقطع عن التدريس لطلبة العلم الشريف في أي مكان حلَّ فيه، و لما كان موظفا في الإسكندرية التي بينها وبين القاهرة أربع ساعات بالقطار فإنه كان يحضر كل يوم منها إلى القاهرة لإلقاء الدرس، ثم يعود إليها.
تولى الشيخ محمد بخيت المطيعي تدريس الكتب المطولة في علوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والتوحيد والفلسفة والمنطق وغيرها. وتخرّج على يديه كثير من أفاضل العلماء الذين نفعوا الأزهر الشريف بعلمهم وفضلهم، كما كان لهم دورهم الرائد في نشر الثقافة الإسلامية، والتصدّي للقوى المضادّة للأحكام الشرعية، ومن هؤلاء المفتي الشهير الشيخ حسنين محمّد مخلوف ، و السيد عبد الله بن الصديق الغماري، والشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف الأستاذ السابق بكلية الشريعة . وقد وصلت طبقات من تخرج عليه من الطلبة إلى الطبقة الرابعة أو بعدها.
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي فيما رواه من عرفوه أستاذا ، واسع الصدر جدا، يتحمل من الطلبة كثرة السؤال مع خروج بعضهم عن الموضوع، وربما بقي الطالب يجادله ساعة حتى يذهب الدرس كله في الجدال والأخذ والرد، وهو لا يتكدر ولا يتألم، متواضعاً مع الطلبة ويمازحهم في الدرس، وكان حلو النادرة مقبول الفكاهة، لا تمر به طرفة فيسكت عنها أًصلا، ، وكان ينحاز بعطفه للطلبة الغرباء ، حتى كان في آخر أيامه لا يعمر درسه إلا الأغراب من الأتراك والهنود والعراقيين والأكراد وغيرهم. وكان يمدهم بالمال ويساعدهم، ويترددون إلى بيته فيجالسهم في مجلسه ويحسن اليهم.
إسهامه في علم فقه الدولة في الإسلام
الشيخ محمد بخيت المطيعي هو صاحب كتاب من أفضل ثلاثة كتب تناولت فقه الدولة في الإسلام بامتياز وأصالة مع كتابي الأستاذين محمد الخضر حسين، ومحمد الطاهر بان عاشور ، وقد تصدت هذه الكتب الثلاثة لكل قضايا نظرية الحكم في الإسلام ، و تميز كتاب الشيخ المطيعي «حقيقة الإسلام وأصول الحكم» بالإفادة من جمع علوم الفقه والأصول والتاريخ والسياسة والاجتماع . وبلغ حجمه في تولت المكتبة السلفية بالقاهرة طبعه في 457 صفحة من القطع الكبير ، وهو كتاب مستطرد في الحديث عن القضايا التي يعرض لها على عادة أهل العلم في تناول القضايا الخلافية في فصول عدة ، ويذكر له أنه كتب في الباب الأول مبحثا شافيا يثبت أن المسلمين كانوا أول مَنْ جهر بأن الأمة مصدر السلطات، وهي العبارة التي اشتهرت بعد ذلك بسبب حرص الشيخ نفسه على تضمينها في دستور سنة 1923 .
ذكاؤه في نقد كتاب الأستاذ علي عبد الرازق
حين تعرض الشيخ محمد بخيت المطيعي لنقد كتاب الأستاذ علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” في كتابه «حقيقة الإسلام وأصول الحكم» فقد نجح في أن يثبت حقيقة مهمة وهي أن الأستاذ علي عبد الرازق كان ينقل عن كتاب «رسالة التوحيد» كلاما يفسره على غير وجهه الذي عناه الأستاذ الإمام، و قد عبر الشيخ محمد بخيت المطيعي عن هذا المعني المهم حين قال في قوة:
«وكل ما نقله من رسالة التوحيد للمغفور له الأستاذ الشيخ محمد عبده رحمه الله قد ساقه للتمويه والمغالطة على غير الغرض الذي ساق له المغفور له الأستاذ الجليل، وحوّله إلى غرضه ليوهم الناس أن له سلفا صالحا فيما يقوله، ألا وهو الشيخ الجليل والأستاذ الكامل الحجة الشيخ محمد عبده، وما لهؤلاء وللشيخ محمد عبده! وهم ما عاصروه ولا خالطوه تمام المخالطة، ولا اجتمعوا معه في درس، ولا أخذوا عنه شيئا من العلم، وإنما هؤلاء يتشبثون بكل مَنْ اشتهر بالفضل والعلم، وهو بريء منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب».
إخلاصه النادر لمهمة الإفتاء
عمل الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتيا للحقانية ثم مفتيا للقطر المصري، وكان أداؤه لهذه المهمة مثاليا، ومما انفرد به أنه استخدم كتابا ينقلون فتاواه، ويتولون إرسالها إلى طلابها في مختلف الأقطار، متحملا مكافأتهم شهريا، وأجر ما يرسل بالبريد من الكتب والرسائل.
ومن فتاويه: جواز تولي السلطة شخصا غير مسلما في بلد مسلم، وقد أورد هذا الرأي في رسالتهِ (إرشاد الأمة إلى إحكام الحكم بين أهل الذمة.
وفي مقابل هذا الانفتاح فإن فتواه فيما يتعلق بالتشريح الطبي التعليمي تعتبر فريدة بين فتاوي أخري لأعلام من المعاصرين، تجيز ما حرّمه الشيخ بخيت من تشريح الميت لمعرفة وظيفة العضو، وسبب مرضه وصحته.
فتواه السابقة لعصرها بمسئولية الدولة عمن لا مورد له من المواطنين
تنتسب إلى عهده في الإفتاء الفتوى التي أصدرتها محكمة شرعية (محكمة نجع حمادي الشرعية بتاريخ 12/4/1920 برياسة فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري وزير الأوقاف وعضو مجمع البحوث الإسلامية فيما بعد، وذلك على نحو ما حققه أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي) بإلزام وزير المالية باعتباره والي بيت المسلمين بأداء النفقة التي فرضتها المحكمة على أن يكون المصروف إلى المدعية دينا علي زوجها يرجع به وزير المالية إليه.
وكانت وزارة المالية بتاريخ 25/2/1920 قد سألت عن عريضة مرفوعة من امرأة فقيرة لا تملك شيئا وليس لها قريب ما يستطيع أن يعولها مع تقدم السن، وضعف البنية، وهي تطلب من الدولة نفقة شهرية باعتبارها مواطنة مصرية، فدرس الشيخ الكبير الموضوع من جوانبه الفقهية، وقوّاه بالسند القانوني، حين ذكر أن بيت المال «وزارة المالية» تجبي الأموال من مرافق مختلفة حددها بالاسم، ومنها التركات التي لا وارث لها أصلا، أو لها وارث ويبقي شيء من التركة، وهذا النوع علي المشهور من المذاهب يُصرف للفقراء الذين لا أولياء لهم، ومصرفه لكل عاجز عن الكسب، ومتي كانت المرأة فقيرة محتاجة وليس لها عائل كان الحق لها أن تأخذ من مصارف الخراج الخاص بالأراضي الزراعية، ومن ضرائب الجمارك، ومن التركات التي لا وارث لها، فيجب علي الحكومة أن تعطيها الكفاية من مرفقي الضرائب أو التركات.
ومع ذلك فقد عارض التفتيش القضائي الشرعي هذا الحكم، وأرسل مذكرة إلي المحاكم الشرعية بعدم سماع مثل هذه الدعاوي لأنها غير ملزمة!
مشاركاته السياسية
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي مصلحا اجتماعياً ومجاهداً وطنياً، وكانت له بصماته الأصيلة والواضحة في مجال القضايا السياسية منذ شبابه وحتّى نهاية عمره، فقد رزق الثبات و التثبيت، ولعلّه تأثر بالسيد جمال الدين الأفغاني منذ تلمذته المبكرة له، فأظهر كثيرا مما يدل اقتناعه بوجهة نظره فيما كان يتحدّث به عن واقع الأُمّة ووجوب العمل الجاد لإخراجها من التسلّط والتدخّل الأجنبي في شؤونها.
ظل الشيخ محمد بخيت المطيعي يواصل اهتماماته السياسية ومشاركاته الفاعلة في العمل الوطني ومواجهة أعداء الأُمّة ممّن كانوا لا يريدون لبلاد الإسلام أن تعيش عزيزة كريمة مستقلّة.
علاقته بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
كان هذا الشيخ الجليل في حياة الأستاذ الإمام محمد عبده منافسا له، وكان بعد وفاته ممجدا له. ومن المعروف أنه كان من أشد المعارضين لحركة الإصلاح التي قام بها الشيخ محمد عبده ؛ لكنه مع ذلك ظل يُكن له التقدير والتبجيل .
وقد ارتفعت منزلة الإمام لديه بعد وفاته، وكتب عنه ما ينبئ عن تقديره له ، كما رأس الحفلة الكبرى التي أقيمت لاسم الأستاذ الامام سنة 192٧ فوفاه حقه ، وقد لخص العلامة ابن باديس قصة هذه العلاقة في كلمته التي رثا بها الشيخ فقال :
“كان زميلا للشيخ محمد عبده في الطلب (أي في مرحلة الدراسة ) ، وهو الوحيد من شيوخ الأزهر الذي كان يساميه وينال معه حظاً من الشهرة خارج مصر ، وكان -على معارضته له في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين . وحين تصدّى الشيخ عبده لأخذ شهادة العالمية ورماه بعض حساده بالتهاون بالصلاة شهد له الشيخ محمد بخيت عند مشيخة الأزهر، فقال “إننا دائماً نقدمه فيؤمنا في صلاة الجماعة لتقواه وصلاحه”.
ولما عقدت الجامعة المصرية أول حفلة لذكرى الشيخ محمد عبده وكانت يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة 1345هـ/1927 – بالجامعة المصرية كانت تحت رئاسة الشيخ محمد بخيت فخطب في تلك الحفلة ومن جملة ما قاله في الأستاذ الإمام : “ترك فراغاً عظيماً كان يشغله وحده، لم يستطع أحد أن يشغله بعده”، فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة والنفوس الكبيرة.
تقدير الأستاذ محمد رشيد رضا له بعد خلافهما
كان الشيخ محمد رشيد رضا قد شن كثيرا من الحملات الناقدة على الشيخ المطيعي في مجلته المعروفة “المنار” على مدار حلقات ، لكنه أي الأستاذ محمد رشيد رضا كتب في أخريات حياته في مجلة المنار معترفًا بفضل الشيخ المُطيعي ومكانته العلمية:
” إنني أختم هذه المقدمة بالتنويه بأولئك الشيوخ الكبار الذي كُنّا ننتقدهم فيما نكتبه في إصلاح الأزهر؛ فإنهم لم ينقموا من المنار صدّه عن البدع والخرافات، ولا ما كتبه في افتتان الناس بالكرامات ولا إنكار عبادة الأموات، ولا طعن أحد منهم في ديننا ولا بهتنا ولا افترى علينا، فرحم الله من مات منهم وأطال عمر من بقي، كالأستاذ العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الذي لم نصرح في المنار بمناظرة أحد منهم غيره؛ وإنما كانت مناظرة علم لا عداء فيها ولا إثم”.
معاملته وزير الحقانية معاملة الأنداد
يروى أن وزارة الحقانية ماطلت في تنفيذ حكم صدر عن المحكمة الشرعية التي يرأسها، فكتب الشيخ إلي بطرس غالي باشا ناظر الحقانية ينذره بأن السلطة التنفيذية إذا لم تقم بتنفيذ الحكم فإنه لن يُصدر حكما ما فيما سيعرض عليه من القضايا، وسيدعو زملاءه إلي التوقف حتي يتم التنفيذ الفوري، ولما رأي ناظر الحقانية أن نية الشيخ جادة ، بادر بالتنفيذ.
استقالته من القضاء وإعادة لورد كرومر له
اشبكت أحكامه وهو قاض شرعي بمصالح بعض من كانوا يتولون نظارة الأوقاف و كان بعضهم يمت إلي ذوي الأمر بأوثق الصلات، فلما رأوا إصراره على الحق ، أحرجوه حتي قدم استقالته سنة 1904، وظل خارج الوظيفة مع كفاءته، حتي علم لورد كرومر بالقصة وتأكد من أنه ذو إصرار علي ما يعتقد أنه العدل، و بادر بإعادته!
موقفه مع الخديو عباس حلمي و السلطان حسين كامل
روى أستاذنا البيومي عن الأستاذ عبد الوهاب النجار أن الشيخ محمد بخيت المطيعي رفض وهو قاض رجاء الخديو عباس في تنفيذ ما يراه في صالح عمه الأمير حسين كامل، فأصدر حكمه بما يخالف وجهة القصر، فلما عُين الأمير حسين كامل سلطانا علي مصر، دعا الشيخ لمقابلته ، وأثني عليه ، وأمر بتعيينه مفتيا للديار المصرية قائلا: إن القاضي الذي يرفض رجاء حاكم مصر إذا خالف ما يعتقد ( من الحق ) جدير بأن يتبوأ أكبر منصب علمي في البلاد!
لقاؤه برئيس الوزراء رشدي باشا في بداية ثورة ١٩١٩
ذهب الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي علي رأس جماعة من الوطنيين لمقابلة حسين رشدي باشا ليبلغه بقرار المجتمعين في الأزهر، فوجد منه كل قبول وارتياح، وانتهي اللقاء، ونُشر ملخصه في الصحف.
ورأي الشيخ بخيت أيضا أن يقابل جميع السفراء في مصر ليبلغهم قرار الوطنيين، وقد طبع منه عدة صور، لتكون الدول جميعها عارفة بما تنويه مصر من الجهاد في سبيل الاستقلال ، فكان وجود الشيخ بخيت علي رأس الداعين إلي الجهاد سببا في احترام المسئولين بالمفوضيات لصدق هذه الحركة، وتمتعها بالتأييد الشعبي، بتوجيه مفتي البلاد.
برقية شكر من سعد زغلول للشيخ من باريس
أطلق سعد زغلول على الشيخ لقب أكبر مفتي في الإسلام، وكان سعد زغلول قد قرأ وهو في باريس، الأنباء عن نشاط المجتمعين في الأزهر وما دار في اللقاء بين الشيخ ولورد ملنر فأرسل إلي حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد بخيت المطيعي هذه البرقية:
باريس في 26 يناير سنة 1920.
حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية:
أكتب إلى فضيلتكم عن ابتهاجنا العظيم بالأجوبة التي أجبتهم بها لورد ملنر في داركم العامرة، فقد أيدت الحق بالحجج الناهضة، ودحضت الباطل بالإنارات الواضحة، وكانت أحسن وقعا، وأبلغ أثرا من المقاطعة، ولا غر، فهي أجوبة كبر مفت في الإسلام، رضي الله عنكم، وأرضاكم وسدد خطانا وخطاكم.. آمين.
سعد زغلول
صدامه مع رئيس الوزراء نسيم باشا وإحالته للتقاعد لبلوغه الستين
كان أحد الأغنياء قد بنى مسجدا وأوقفه لله، فاحتاجت الحكومة لموضع هذا المسجد، فاستفتت مفتي الديار المصرية الشيخ المطيعي، فقال لهم: إذا وافقكم ربه فلا مانع، فكلموا ذلك الغني فوافق، فرجعوا إليه ليصدر فتواه، وقالوا له إن ربه قد وافق، فقال ومن ربه؟ قالوا: فلان الباشا، قال: ليس هو صاحبه الآن، فإنه أوقفه لله، وصار لله تعالى، فهو ربه الذي قلت لكم إن وافقكم فاهدموه.
علق رئيس الوزراء وقتئذ وهو نسيم باشا على فتوى الشيخ فانتقد الشيخ ، فقال الشيخ ما معناه : نحن لا نعبأ بكلام العيال ، فبلغت إلى نسيم باشا، فقال: سوف يعلم من العيال، فاجتمع بمجلس الوزراء وأصدر قانونا يقضي بإحالة المفتي على المعاش إذا بلغ السن القانوني، وكان المفتي لا يخضع لهذا القانون قبل ذلك، فلما صادقت الحكومة على هذا التعديل وكان هو قد جاوز السن المقرر عزل وأحيل إلى المعاش وبهذا نسب إليه السبب في صدور قانون تقاعد مفتي الديار المصرية عند سن الستين.
دستور ١٩٢٣
توالت اسهامات الشيخ محمد بخيت المطيعي السياسية طيلة ثورة ١٩١٩ و معقباتها وكان اعلى هذه الإسهامات قدرا وأكثرها فائدة للوطن انه اختير عضوا في لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 1923، وهو الدستور الذي سجل بوضوح واعتزاز أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.
نموذجا للمثقف العضوي
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي مثقفا واسع الثقافة عرف بشغفه الزائد بمطالعة الكتب الأجنبية المترجمة وكتب المعاصرين ويقرأ من الصحف الأجنبية والمحلية، كما كان يقتني الكتب بكثرة، ويدفع فيها الأموال الطائلة، حتى جمع مكتبة ضخمة.
يذكر للشيخ محمد بخيت المطيعي دفاعه المجيد عن الإسلام ما واجه به بعض المستشرقين ومن سار على دربهم من أشباه المسلمين، فقد ردّ على الفيلسوف الفرنسي رينان ١٨٢٣- ١٨٩٢ ما أورده عنه من افتراءات وأباطيل في كتاب «تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية .
و قد تحدّث الشيخ محمد بخيت المطيعي في معرض ردّه على الفيلسوف الفرنسي رينان عما قاله من أن انتقال مركز الخلافة إلى بغداد قد عاق مسيرة النهضة العلمية نحو مائتي عام، فقال :
“وبعد أن دخل أهل العراق ومن جاورهم من الفرس في دين الإسلام قد وجد منهم مجموعة عظيمة في العلوم الفلسفية، عقلية كانت أو شرعية، كونية أو عمرانية، وكانوا جميعاً ـ وعلى الأخصّ الفرس منهم ـ أشدّ الناس تمسّكاً بدين الإسلام، وكان منهم المجتهدون في فقه الحنفية وفقه الشافعية وفقه الإمامية. وها هي مؤلّفاتهم في كلّ العلوم، وهي متداولة قديماً وحديثاً، تشهد بكذب «رينان»، وأين هو ( أي : رينان ) من مؤلّفات الفارابي، وابن سينا ، وابن سبعين، والصدر الشيرازي، وغير هؤلاء ممّن لا يحصون كثرة، مع أنّ مؤلّفاتهم تملأ خزائن الشرق والغرب ؟ ! ولكن فلسفة رينان قضت عليه أن لا يكلّف نفسه النظر فيما بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله من تلك المؤلّفات، وتعامى عنها حتّى نسب إلى الفرس ما نسب.
“ومع ذلك فقد نسي بما قدّمت يداه من أنّ الإسلام يرفع الفوارق الجنسية والقومية، فأهل فارس بعد أن اعتنقوا دين الإسلام أصبحوا هم والعرب أُمّة واحدة إسلامية لا تربطهم إلاّ رابطة الدين الإسلامي التي هي العروة الوثقى لا انفصام لها”.
وليس من شك في أن تفنيد الشيخ محمد بخيت المطيعي لرأي رينان حول الشيعة وعلاقة أهل فارس بالإسلام يشهد له بأنّه كان على اطّلاع بآثار علماء فارس في الفلسفة والطبّ واللغة.
كذلك كان الشيخ محمد بخيت المطيعي من أبرز من تصدوا لمناقشة فكرة النشوء والارتقاء حتى إنه ألقي محاضرة «عن نظرية داروين” فقال ناقدوه: ما للشيخ وداروين؟
فقيه لا يعرف التعصّب المذهبي
ذكرنا أن الشيخ محمد بخيت المطيعي كان حنفي المذهب، وأنه كان أول من تحنف من أهل بلده ، بل إنه كان ينص على هذا في توقيعه على الفتوى بإمضاء محمّد بخيت المطيعي الحنفي، ومع هذا فإنه كان يتّسع في الفتوى، فيلمّ بآراء المذاهب المختلفة، ويختار ما يرتاح إليه، غير مفرّق بين مذهب ومذهب ; لأنّه يعرف أنّ الحقّ رائد الجميع ، وبالإضافة إلى هذا فإن الشيخ محمد بخيت المطيعي لم يكن من أنصار ما يذهب إليه بعض المنتسبين للعلم من تفضيل صاحب مذهب فقهي على إمام مماثل.. وفي رأيي أنه كان ممن سبقوا الشيخ المراغي وجماعة الإخوان المسلمين من بعده إلى هذ الجمع بين المذاهب المختلفة أو ما قد يسمى بالاجتهاد الانتقائي العابر للمذاهب .
وأكثر من هذا فإنه كان من الذين يقدرون كثير من مراجع الفقه الشيعي ولا يرى في هذا الفقه إلاّ ما يراه في الفقه السنّي، فليس بين الفقهين تفاوت في الأُصول، كما أن الاختلاف بين الفقهين لا يقضي على العروة الوثقى التي تربط بين المسلمين في كلّ مكان.
موقفه الفذ في قصة الهجوم المنسوب لإمام الحرمين الجويني على المذهب الشافعي
كان من التراث العلمي المتاح في البيئة العلمية حول الأزهر كتاب يسمّى “مغيث الخلق في ترجيح القول الأحقّ”، ينسب إلى إمام الحرمين الجويني ( المتوفي 478 هـ )، وفيه سبٌّ صريح وافتيات منكر على الإمام أبي حنيفة، وتصادف أن طبع هذا الكتاب حين كان الشيخ بخيت في مرضه الأخير، وقد تقدم به العمر ، لكنه بشجاعته واجه هذه الفتنة الباغية، مع أن روح الحزبية دفعت البعض إلى الظن بأن الشيخ محمد بخيت المطيعي سيتحيز بصورة صارخة ضد من هاجم الإمام أبا حنيفة، وأنه سيهاجم صاحب المذهب الذي ينتسب إليه الجويني، وهو الإمام الشافعي، وبخاصّة بسبب ما جاء في الكتاب من أنّ أبا حنيفة كان قليل البضاعة في علم الحديث، ولكن الشيخ محمد بخيت المطيعي ألقى درساً كبيراً في صفحات متتالية في وجوب احترام الأئمّة جميعاً،
وكان من ذكاء الشيخ محمد بخيت المطيعي أنه شكّك في نسبة كتاب “مغيث الخلق” إلى إمام الحرمين، وقال إنه يكاد يجزم بأنّه منحول، فالآراء التي وردت فيه تناقض ما جاء في “البرهان”، وهو موسوعة أُصولية، و« نهاية المطلب»، وهو موسوعة ضخمة في الفقه، وغيرهما من مصنّفات أبي المعالي.
وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي في خاتمة مقاله:
” إذا تقرّر هذا، فمذهب أبي حنيفة ومذهب غيره من الأئمّة سواء، ولا يمكن لأحد من المجتهدين أن يعتقد أنّ مذهب غيره خطأ لا يحتمل الصواب، وأنّ مذهبه صواب لا يحتمل الخطأ، وإلاّ لكان مذهب هذا المجتهد بمنزلة كلام المعصوم الذي لا يخطئ، وليس هذا في وسع بشر سوى الرسل (عليهم السلام)، فلا وجه إذاً لتخصيص مذهب وتفضيله على مذهب آخر. وعلى هذا إمّا أن يكون ما ذكر في الكتاب «مغيث الخلق» مدسوساً على الإمام الجويني، والرجل بريء منه، وهو أكبر الظنّ عندنا، وإمّا أن يكون صحيحاً، وهو يناقض آراءه ونقوله التي ذكرها في «البرهان»، وغيره. ولو أردنا تقصّي كلّ ما جاء في سؤال السائل ممّا ذكر في الكتاب لوجدنا له ردّاً وأقمنا له من الحقّ ضدّاً، ولكنّنا نكون بذلك قد خضنا متعصّبين لمذهبنا مفضّلين إمامنا، فنقع فيما وقع فيه إمام الحرمين. وما أُريد بهذه العجالة إلاّ أن ألفت نظر السائل الباحث وجميع المسلمين إلى وجوب الاعتقاد بأنّ الأئمّة الأربعة كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، وأنّهم من الكمال وعناية الله بهم بحيث لا يقاس عليهم غيرهم».
التسامح
كانت للأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي كتابات كثيرة تعد نموذجا مبكرا للتعبير عما عرف بعد ذلك بمصطلح التسامح ، و قد وردت كثير من هذه الآراء في كتب كثيرة من كتبه منها «إرشاد الأمة إلي أحكام أهل الذمة»، وهو كتاب ينصف الإسلام ممن أشاعوا عنه التعصب والعداء لغيره .
موقفه من الشيعة و أمة الفرس
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي في نظرته إلى الفقه الشيعي يواصل الدعوة التي بدأها الشيخ محمّد عبده، و الشيخ رشيد رضا، ثمّ أصبحت بمثابة رسالة لجماعة التقريب في القاهرة، بقيادة الشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمود شلتوت من بعده ، كما ناظرها المجمع العالمي للتقريب في طهران .
وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه «رفع الأغلاق عند مشروع الزواج والطلاق» حين تحدّث عن المسائل الخلافية والعمل بها وأنّ أحداً لا يستطيع أن يمنع أحداً من أن يعمل بمذهب من المذاهب : «ألا ترى أنّ الإمامية الموجودين في القطر المصري يعملون فيما بينهم بما يعتقدون مذهباً لهم بدون حرج ؟ !”.
كذلك فقد كان من ضمن الردود التي ردّ بها الشيخ محمد بخيت المطيعي على الفيلسوف الفرنسي رينان ١٨٢٣- ١٨٩٢ في افترائه بأنّ أُمّة الفرس شيعية وليسوا بمسلمين، قوله : «والله، يعلم ويشهد إنّه لكاذب فيما يقول. أمّا الفرس فمنهم سنّيون وشيعيّون، ولكنّهم مسلمون قبل كلّ شيء، وها هم علماء الفرس وأئمّتهم قديماً وحديثاً يعتنقون الإسلام، ويحجّون بيت الله الحرام ككلّ المسلمين، ويصلّون صلاة المسلمين إلى قبلة المسلمين، ويصومون كما يصوم المسلمون، وهذه كتبهم ومؤلّفاتهم المخطوطة والمطبوعة تملأ البلاد، وهي كتب إسلامية أُصولاً وفروعاً”.
ويقول أيضاً: “ومنهم كثير من أفاضل العلماء المجتهدين في فقه الشريعة الإسلامية، وفي فقه الحنفية خصوصاً”.
موقفه من نجاح الثورة البلشفية في روسيا
حين قامت الشيوعية رسميا بنجاح الثورة الروسية سنة 1917. كتب الشيخ محمد بخيت المطيعي فتواه مصدرة ببحث تاريخي عن شبيه هذه الدعوات في فارس حين نادت المجوسية لفترة ما، بإباحة الأموال والأعراض للجميع، فعجلت بانتشار الفوضى في ربوع فارس لأمد غير قصير، حتي جاء الإسلام، فنظم العلائق الاجتماعية، وشرع العقود الناقلة للملك من هبة وبيع ووصية، وبيّن المواريث، وحدد لكل وارث نصيبه المعلوم، وبيّن أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وجاءت خطبة حجة الوداع دستورا إنسانيا يحمي الحرمات ويحفظ الحقوق.
و ذهب الشيخ محمد بخيت المطيعي كذلك إلى أنّ البلشفية تهدم الشرائع السماوية، وتجعل الناس فوضى في معاملاتهم، فهم يهدفون إلى هدم الكيان الاجتماعي، ويحرّضون الطبقات الفقيرة لتثير حرباً عواناً على كلّ نظام اجتماعي يستند إلى قواعد الفضيلة والآداب. وإذا كان هؤلاء لا يعتقدون في شريعة من الشرائع الإلهية ولا يعتقدون ديناً سماوياً فهم كافرون.
دوره في محاربة التبشير
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي من أوائل من نبّهوا إلى ذلك الخطر، وحذّر من مغبّة التغاضي عن مقاومته، وممّا كتبه في هذا ما نشر تحت عنوان “التبشير وكيف نقاومه ونأمن غوائله “. وقد عدد الشيخ محمد بخيت المطيعي من الأسباب المشجعة على التبشير أربعة ، هي :
1 ـ أولياء أُمور الطلبة من الأغنياء المفتونين بأُوروبّا والثقافة الغربية بإدخال أولادهم المدارس الأجنبية، فهذه المدارس لا تهتمّ بالثقافة الإسلامية، ومن ثمّ تجرّد طلاّبها من الغيرة الدينية، ويصبح ولاؤهم للدول التي أنشأت هذه المدارس أكثر من ولائهم لوطنهم وقوميتهم، وبذلك تستحيل عواطفهم وأفكارهم وعاداتهم إلى عواطف غربية وأفكار أُوروبّية وميول وعادات إباحية.
2 ـ قلّة الملاجئ والمستشفيات والمستوصفات لدى المسلمين مع وفرتها وكثرتها لدى المبشّرين، والحاجة الملحّة هي التي تدفع بالفقراء والضعفاء واليتامى إلى ملاجئ ومستشفيات التبشير، وفيها يقوم التبشير بمهمّته في جذب الفقراء ونحوهم إلى التنصير بما يبذله من مال ورعاية صحّية.
3 ـ عدم الرقابة الكافية من الحكومة على ما يدرّس ويعلّم ويجري بين جدران تلك المدارس التبشيرية، وبخاصّة المؤلّفات والكتب التي تشتمل على كثير من الشكّ والتشكيك في عقائد المسلمين، والحطّ الجارح من قدر النبي الكريم، وكذلك عدم الرقابة على ما يجري في الملاجئ والمستشفيات والمستوصفات من محاولات لإغراء الضعفاء بالتخلّي عن عقيدتهم و قوميتهم.
4 ـ ضعف المسلمين وتنازعهم أتاح لأعدائهم فرصة إحياء النعرة الوطنية والنزعة الإقليمية بينهم، وإحلالهما محلّ الأُخوّة الإسلامية، ممّا ترتّب عليه زوال التعاون والتناصر والتعارف، ومن ثمّ تفرّقوا واختلفوا وتنازعوا على الحدود، فلا غرو أن طمع فيهم الأجنبي وغزاهم المبشّرون في عقر دارهم.
تصديه للقائلين بالاختلاف في صفة زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام
صادف في حياته اللغط حول الصفة الشرعية لزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم )، و قد وجد أن من العلماء الذين أثبتوا بالدليل أنّ هذه الزيارة مشروعة قاضي القضاة الخزرجي والد التاج السبكي صاحب الطبقات ( ت : 756 هـ )، وقد ألّف كتاباً اسماه” شفاء السقام في زيارة خير الأنام”. رأى الشيخ المطيعي أنّه واف بالغرض للرد على اللغط القائم يومها ، فاهتمّ به ونشره، وكتب له مقدّمة بلغت نحو عشرين صفحة، أطلق عليها : «تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد”. فكتاب «شفاء السقام» لقاضي القضاة السبكي، ولم يكتب الشيخ تعليقات أو حاشية عليه، وإنّما اكتفى بالمقدّمة التي كتبها، وحمل فيها على من أنكر الزيارة، وآثر لها عنواناً يشير إلى أنّ الأفئدة التي بنت القول بعدم مشروعية الزيارة تحتاج إلى مراجعة نفسها لتتطهّر ممّا شابها من الفهم السقيم أو ممّا يشين صفاءها ونقاءها.
ثناء العلامة ابن باديس عليه
أثبت الأستاذ محمد شعبان أيوب نص مقال ابن باديس في رثاء الشيخ في مقال نشره في رواق بعنوان ” المطيعي.. مفتي الديار المصرية الذي نعاه به ابن باديس “
ومما قاله الأستاذ عبد الحميد بن باديس في نعيه:
” ما كاد يندملُ جرح العالم الإسلامي بوفاة حجة الإسلام السيد رشيد رضا، حتى فجع بوفاة مفتي الإسلام الشيخ محمد بخيت المطيعي في رجب الماضي، ونحن نكتب اليوم كلمة عن فضيلته كما كتبنا من قبل عن السيد رشيد رضا وما كان قلمنا القاصر ليوفي واحدا منهما حقه. نال المطيعي شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة 1339هـ وتصدى لخدمة العلم والازدياد منه بالتدريس بجد منقطع النظير ومداومة ليس فيها فتور؛ فكان علما في سائر العلوم الأزهرية، وكان ممتازا بين كبراء الأزهر بتحقيق الأصلين علم الكلام وأصول الفقه، وكان بسعة علمه وقوة إدراكه وتمييزه يرفع الخلاف في كثير من أمهات المسائل، ويبين أن الخلاف فيها لفظي وأن أصل المسألة محل اتفاق”.
” دُعي إلى الاشتغال بالقضاء فتقلد وظائفه وتنقل بينه وبين الفتوى حتى بلغ أعلى درجاتهما فلما بلغ سن التقاعد تفرغ للإفتاء العلمي، فكانت ترد عليه الأسئلة من جميع أقطار العالم الإسلامي فيجيب عليها، وكان له كُتاب يتولون له كتابة ما يحرره ويمليه ويرسلونه إلى السائلين، وينفق هو على ذلك كله من خالص ماله.
” ولما رجعتُ من المدينة المنورة على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة 1332هـ/1914م جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها رحمه الله، جئت من عنده بكتاب إلى الشيخ بخيت وكان قد عرفه بالإسكندرية لما مر بها مهاجراً، فعرجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان مع صديقي الأستاذ إسماعيل جغر المدرس اليوم بالأزهر فلما قدمت له كتاب شيخنا حمدان قال لي “ذاك رجل عظيم”، وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده، رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزى العاملون الناصحون.”
ثناء الأستاذين محمد كرد على و أحمد حسن الزيات
وكان علامة الشام ومؤرخها الكبير الأستاذ محمد كرد علي يذكره ويذكر أعماله بالثناء في مجلة “المقتبس” التي كان يُشرف عليها، وينوه فيها بالمصنفات التي كانت تُهدى إليه في ذلك الوقت.
وصفه صاحب الرسالة الأستاذ أحمد حسن الزيات فقال ضمن ما قال: “كان في الشيخ مكانة شاهدة ودعابة لطيفة؛ وطموح إلى مساماة الإمام (محمد عبده) في منصبه ونفوذه وشهرته؛ حرّك فيه الأخذ بنصيب من الأدب والثقافة العامة، ولعله كان أعلم أهل جيله بدقائق الفقه الحنفي، وأبسطهم لساناً في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة”
كتاب الدكتور محمد الدسوقي عنه
كتب الدكتور محمد الدسوقي كتابا قيما عنه بعنوان “الشيخ محمد بخيت المطيعي شيخ الإسلام والمفتي العالمي ” نشرته دار القلم في دمشق .
آثاره العلمية
(السنوات المذكورة بالتاريخ الهجري إذ كانت المطابع الناشرة لكتب علوم الدين لاتزال تتمسك به منفردا)
مؤلفاته في الفقه وأصوله
الفتاوى الفقهية في أربع مجلدات
شرح جمع الجوامع في أصول الفقه.
البدر الساطع على جمع الجوامع، في أصول الفقه.
القول الجامع في الطلاق البدعي والمتتابع.
إرشاد الأمة إلى إحكام الحكم بين أهل الذمة.
أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام. طبعت بمطبعة الشعب بالقاهرة سنة 1320، ثم في مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة 1329.
الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي. طبع المطبعة الخيرية بالقاهرة.
إزاحة الوهم وإزالة الاشتباه عن رسالتي الفوتوغراف والسوكرتاه. طبع مطبعة النيل بالقاهرة سنة 1324.
أحسن القراء في صلاة الجمعة في القرى. طبعت بالمطبعة الشرفية بالقاهرة سنة 1327.
إرشاد القارئ والسامع إلى أن الطلاق إذا لم يضف إلى المرأة غير واقع. طبع المطبعة السلفية بالقاهرة 1347.
متناول سبيل الله في مصارف الزكاة. فرغ من تأليفها سنة 1348، طبع مطبعة الترقي بدمشق الشام سنة 1348
رفع الإغلاق عن مشروع الزواج والطلاق. فرغ من تأليفه سنة 1345، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1346.
إرشاد العباد إلى الوقف على الأولاد. طبع مطبعة الرغائب بالقاهرة 1334.
محاضرة في نظام الوقف. طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1345.
المرهفات اليمانية في عنق من قال ببطلان الوقف على الذرية. طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1344.
إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة. فرغ من تأليفه سنة 1329هـ، طبع بمطبعة كردستان العلمية بالقاهرة سنة 1329.
مؤلّفاته في علم العقيدة أو التوحيد.
تتضمن مؤلّفات الشيخ محمد بخيت المطيعي في العقيدة ثلاثة أعمال مهمة أولها شرح لمنظومة أو حاشية على شرح تحت عنوان ” رسالة القول المفيد على وسيلة العبيد” . وهذه الرسالة شرح لمنظومة الطاهري ، وقد طبعت لأوّل مرّة بالمطبعة الخيرية سنة 1326 هـ في 104 صفحة من القطع الكبير. وجاء في مقدّمة هذا الشرح : «قد طلب منّي حضرة الأُستاذ أحمد بك الطاهري من أعيان بندر المنصورة أن أشرح منظومة والده الشيخ محمّد الإمام الطاهري في علم التوحيد التي سمّاها وسيلة العبيد، فأجبت الطلب، وشرحتها .
وثاني هذه المؤلفات هو حاشية على شرح العلاّمة أبي البركات أحمد الدردير على منظومته في العقائد المسمّاة بالخريدة البهية في علم العقائد الدينية.
والثالث هو رسالته التي أشرنا إليها من قبل : «تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد”. التي تعتبر بمثابة مقدمة لكتاب ” شفاء السقام في زيارة خير الأنام” الذي ألفه قاضي القضاة الخزرجي والد التاج السبكي صاحب طبقات الشافعية.
مؤلفاته في علوم القرآن
حسن البيان في إزالة بعض شبه وردت على القرآن.
الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن.
حجة الله على خليفته في بيان حقيقة القرآن وحكم كتابته وترجمته.
تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية.
توفيق الرحمن للتوفيق بين ما قاله علماء الهيئة وبين ما جاء في الأحاديث الصحيحة وآيات القرآن.
مؤلفه في مجال علوم الحديث
تتضمن مؤلّفات الشيخ محمد بخيت المطيعي كتابا بعنوان “الكلمات الطيّبات في المأثور من الروايات عن الإسراء والمعراج”.
عنايته بالألعاب الشعرية في مؤلف أدبي غير مشهور
تتضمن مؤلّفات الشيخ محمد بخيت المطيعي رسالة بعنوان “حلّ الرمز عن معمّى اللغز” وهي رسالة قصيرة تتناول حلّ لغز أدبي(18 صفحة من القطع الصغير) وهذا اللّغز بعث به صاحبه نظماً، وينهض حلّه على ما يسمّى بحساب الجمل، وهو ضرب من الحساب يَجعل فيه لكلّ حرف من الحروف الأبجدية وفق ترتيب أبجد، هوّز، حطّي، كلمن.. الخ، عدداً من الواحد إلى الألف. ويدلّ حلّ اللغز على أنّ الشيخ المطيعي كان على معرفة دقيقة بحساب الجمل وتأويله العلمي للرموز التي وردت في السؤال، وأنّه مع حلّه نثراً صاغ هذا الحلّ شعراً،.
مؤلفاته الأخرى
الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية. أجاب فيها عن أسئلة وردت إليه من الشيخ محمد العروسي السهيلي الشريف المتطوع بالجامع الأعظم بتونس. طبعت بمطبعة النيل بالقاهرة سنة 1324.
الدرر البهية في الصلاة الكمالية.
الكلمات الطيبات في المأثور عن الإسراء والمعراج.
المخمسة الفردية في مدح خير البرية.
الدراري البهية في جواز الصلاة على خير البرية. طبع مطبعة الآداب البهية بالقاهرة 1307.
وفاته
توفي الشيخ محمد بخيت المطيعي في ٨أ كتوبر ١٩٣٥
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا