كان من المحفوظات الإجبارية أن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي جعل التعليم بالمجان، ومع مضي الوقت أصبحت الأجيال الجديدة تسخر من هذه العبارة سخرية مرة تطورت بعد ثورة ٢٥ يناير ومكاشفاتها لتتناول شخص الرئيس نفسه الذي تعلم بالمجان تعليما لم يعد متاحا بفضل الآثار الجانبية التي خلفتها وخلقتها سياساته الدعائية القاصرة، ويتعدى الأمر في سخرية الأجيال الجديدة السخرية من الرئيس عبد الناصر إلى الحديث أيضا عن الرئيسين اللاحقين بالرئيس عبد الناصر ومهن آبائهم.. إلخ.
في هذا المقال لسنا بصدد الحديث عن قصة المجانية وأمجاد وزارات الوفد في تحقيقها بدأب واتقان ومن دون أن يتواكب نشر المجانية مع خفض مستويات التعليم على نحو ما حدث في عهد وزارات ١٩٥٢، ومعروف أنني كنت ولا أزال أقول بأن التزييف وحده هو الدافع وراء القول بالربط بين المجانية وانخفاض أو تدني مستوى التعليم. ولا أزال أيضا أدلل على أن السبب في دخول التعليم مرحلة الانخفاض والتدني والمحاق لم يكن هو المجانية ولا التمويل وإنما يكمن السبب في سوء السياسات الحاكمة للعملية التعليمية على نحو ما سارت سياسات حكومات الرئيس جمال عبد الناصر في الاقتصاد الإنتاجي.
والواقع أن تحليل أرقام الحكومات الناصرية المعلنة كفيل بلا تأويل على أن يدلنا على مدى العبث والنزق الذي سارت به الحكومة في موازنات التعليم ومخصصاته، فقد ابتدأ تطوير التعليم الذي فاخر به كمال الدين حسين ومن قبله إسماعيل القباني يدخل علنا في مراحل انكماشية شديدة. سأبدأ بمثل دال وواضح الدلالة، فقد كانت ساعات دراسة اللغة العربية مثلا في الأسبوع أول ما تعرض للتخفيض بسبب ما تم تصويره على أنه نقص في أعداد المدرسين لذهابهم إلى جبهة الحرب، ولم يكن مبدأ مد الخدمة بعد الستين واردا، ولا الاستعانة بحديثي التقاعد، وهكذا بدأ اللجوء مباشرة تخفيض ساعات المقررات، وسرعان ما تفاقم هذا التخفيض الذي سيدهش القارئ من أن بعضه لا يزال ساريا حتى يومنا هذا، ويتم تجديد قرار خفض ساعات المقررات، وربما أن بعض كبار المسئولين في وزارة التربية نفسها لا يعرفون هذا.
وجاءت سياسة الفترتين ثم الثلاث فقرات (والأربع فترات في بعض مدارس القاهرة الكبرى) لتكرر تخفيض الوقت المخصص للتدريس عموما إلى أقصى ما هو ممكن بل إلى أقصى مما هو مقبول تربويا. وحتى أصور لك الأمر تصويرا قادرا على شرح الحالة فإننا في السنة التعليمية التالية لوقوع هزيمة ١٩٦٧ أي في العام الدراسي 67/1968 بدأنا نعرف سياسة الفترتين في بعض مدراس المرحلة الابتدائية في دمياط والدقهلية والشرقية والقاهرة والجيزة وهي الأقاليم التي استوعبت بأكثر من غيرها هجرة أهالي سيناء القناة (الإسماعيلية وبورسعيد والسويس) وكانت هذه الهجرات هجرة كاملة حيث تركوا بيوتهم ومتاعهم وانتقلوا إلى محافظات أخرى وظلوا كذلك حتى 1974 حيث بدأت عودتهم التي كانوا يتلهفون عليها، ولولا حرب أكتوبر لكان هؤلاء قد ظلوا في مخيمات كاملة منذ ذلك الحين.
قلت إن بعض “المدارس” عرفت سياسة الفترتين أي أن مدرسة أو إثنين من مدارس المدينة كانتا فترتين على حين بقيت المدارس الأخرى فترة واحدة، لكن الزيادة السنوية في التلاميذ والنقص السنوي في المباني الصالحة للدراسة جعل ظاهرة الفترتين تزحف عاما بعد عام حتى تشمل كل المدارس لا بعضها فحسب، وسرعان ما لجأت الحكومة مع محدودية المدارس إلى سياسة الثلاث فترات.
كانت مدارس القاهرة جميعا تعرف نظام تعدد الفترات، وكنا في مدرسة المتفوقين نعرف سياسة اليوم الكامل، وهكذا كنا نشاهد في طريقنا إلى وسط القاهرة في نهاية الأسبوع خروج التلاميذ من مدارس الفترة الثالثة والرابعة أحيانا، أما الفترة الثانية فكانوا يخرجون قبل المغرب، وهكذا أصبح زمن حصة الدراسة ثلاثين دقيقة بدلا من خمسين، وأحيانا ما كانت الحصة تنخفض إلى خمس وعشرين دقيقة واقتضى هذا تخفيض المناهج وتقليص الاختبارات الدورية والأنشطة المدرسية
وأستطيع أن أقول بكل اطمئنان إن مواليد السنوات 1962 وحتى 1972 (أي عقد كامل من الزمان) تعرضوا لأسوأ ظروف تعليمية يمر بها جيل جديد من ناشئة وطن ما إلا أن نستثني من هذا مجتمعات الحرمان من التعليم. ولم يكن في وسع الرئيس جمال عبد الناصر ولا في وسع حكومات الرئيس جمال عبد الناصر أن يفعل شيئا في هذا الوضع المأساوي الذي نشأ عن قصور موارد الدولة عن الوفاء بالخطة منذ دخلت مصر حرب اليمن أي من قبل 1967 بخمس سنوات، وقد عوضت الموارد المؤممة عجز الميزانية عاما واثنين ثم عجزت تماما في 1965 وجاءت 1967 لتظهر العجز بمنتهى الوضوح.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
%MCEPASTEBIN%