أبدأ المقال بأن أسبح بحمد الله الذي يُسخّر الأكوان من حيث يظن أصحاب العقول أنهم قادرون على أن يصنعوا ما يريدون بتخطيط وتدبير، فقد رأت معاهد ومختبرات الدراسات الاجتماعية المتقدمة في المجتمع الغربي أن الوسيلة المثلى في محاربة المجتمعات الإسلامية الصاعدة منذ نصر أكتوبر 1973 هي تفريغ ذهنية هذه المجتمعات من فكرة الجهاد، وما تعنيه هذه الفكرة من لقاء العدو في نزال يظهر قوة عقيدتها، وقدرة هذه العقيدة على تحقيق إنجازات لا يُمكن التنبؤ بها من خلال الحسابات العلمية، حتى لو كانت هذه الإنجازات قابلة للإجهاض أو الفعل المضاد أو الثورة المضادة أو للتشويه والتقليل والتزييف فيما بعد.
رأت هذه المختبرات والمعاهد ضرورة وحتمية البدء في سلسلة من السياسات الكفيلة بكبح هذه الرغبة الإسلامية الروحية في النزال عند ما تتعقد الأمور بسبب المؤامرات الغربية المحمكة، وبخاصة أن هذه الرغبة الروحية العملية سرعان ما عبّرت عن نفسها قبل مضي 6 سنوات على نصر أكتوبر تعبيراً لم يكن أحد يتوقعه في دولة ذات موقع متميز هي أفغانستان، وكان الدافع الذي لم يختلف أحد على الإقرار بوجوده، وتسيده على الدوافع الأخرى هو أن هذا الشعب المسلم لم يشأ أن يخضع لما خضعت له شعوب مجاورة له في مرحلة مبكرة من القبول بتغييب الإسلام والاندماج في شيوعية الدولة الواسعة الشاسعة ذات الأنياب المفترسة القائمة حينذاك تحت اسم الاتحاد السوفيتي.
كانت روح الثقة في الإسلام وفي الانتصار الإسلامي الذي تحقق في نصر ١٩٧٣ تدفع المشاعر الشعبية إلى أن تكون مشبوبة في تلك الشعوب الإسلامية المُعتزّة بتاريخها وهو التاريخ الذي شهد دلائل العزة والكرامة في وجه الآخر، وهكذا كان الجهاد الإسلامي في أفغانستان تعبيراً حيّاً وإن كان مفاجئا عن ثقة حقيقية وجدها الأفغان في قدرة النفس المؤمنة، وتأكدت عندهم العلاقة بقوة متضاعفة للإيمان إذا ما قورن بغيره من مكوّنات الثقة في الذات من تسليح أو تخطيط أو تدريب، وهنا بقي جوهر الإسلام في محله الأول والأعلى باعتباره هو نفسه الذي هيأ النفس المؤمنة لفعل الجهاد وممارسته.
درست المختبرات والمعاهد الغربية نمط هؤلاء المسلمين المجاهدين على مدى أكثر من عقد من الزمان، وبدأت في البحث عن مصادر القوة التي يُمكن اختراقها من أجل توهين صلابة الطاقة والقدرة المتولدتين عن اليقين النفسي، وتوصلت هذه المختبرات والمعاهد بحسابات علمية إلى أن “الشكلانية” في السلوك الشخصي هي باب واسع لكثير من الالتزامات الذكية والمميزة لقطاع عريض ممّن جمعهم الجهاد الإسلامي، وعلى نحو ما هو معروف في تقييم برامج الحياة اليومية عند الغربيين، وبرامج الحياة على مدار الفصول فقد بدأت صناعات كاملة تزدهر على الإفادة من الحاجة إلى تقديم الخدمات “المعنوية” لتيار كبير هو التيار السلفي الجديد الذي يمكن استنراقه بأخلاقياته والتزاماته بعيداً عن السياسة ومن ثم يتم استنراقه بعيداً عن الجهاد.
وعلى سبيل المثال فقد كانت مؤسسة الكاسيت هي إحدى المؤسسات التي ازدهرت بفضل هذا التيار، حتى أصبح هذا التيار هو المتحكم سرا (من دون قصد منه ولا تخطيط ولا رغبة) في اقتصاديات ولوجسيتات نشر الأعمال الفنية المغناة والمؤداة عن طريق الكاسيت. لكن الأهم من هذا كله، تمثل في اكتشاف عبقري في الالتفاف الغربي الواسع من أجل منع الجهاد وما يُمثله من سلاح للمسلمين والإسلام وذلك من خلال منع الاشتغال بالسياسة لا بالنص البات وحده، ولكن عبر الانشغال بأخلاقيات السلف وتقاليدهم والسعي لأن يكون هذا الانشغال من النوع المكثف المستغرق لكل الوقت.
كان هذا التفكير العبقري في شيطنته هو أبرز نجاح حقّقته المختبرات الغربية العاملة في مجال عداء الإسلام والتحسب لأيّ صحوة إسلامية ونتائجها الحتمية في أن ينال المسلمون حظهم من الدنيا، بدلاً من أن يظل هذا الحظ بعيداً عنهم. وباختصار شديد فقد انتقلت الفكرة إلى ما عُرف بعد هذا باسم مجتمع وزراء الداخلية العرب، وصناعة الاستراتيجية الأمنية العربية، وما تطور من الممارسة اللاحقة على يد الأمن المصري في ألفاظ عملية واضحة تشمل العمل على احتواء السلفيين، طالما ظلوا بعيدين عن الإخوان المسلمين (وما يشبههم من تيارات الإسلام السياسي على حد الوصف الذي تسلل إلى الأدبيات والتقارير) ومحاربتهم إذا اقتربوا من الإخوان المسلمين (وما يشبههم من تيارات الإسلام السياسي) أو ساروا في طريقهم، وفي مقابل هذا تشجيعهم بل وتمويلهم وحمايتهم إذا دخلوا في أي نزاع محلي مع الإخوان المسلمين.
اعلان
وقد تطورت الأمور على نحو ما نعرف مما لا حاجة لنا إلى شرحه، وحدثت موجات كبيرة من ابتعاد معلن للتيار السلفي عن مسار الجهاد إلى المسار المتعقل كما حدث العكس بنسبة لا تكاد تذكر. جاءت ثورة يناير 2011 لتثبت للتيار السلفي نجاحات لم يكن يحلم بها أقصى من كانوا يُحبونه، أو يتبنونه، ولا كان يتوقعها هؤلاء الذين بنوا سياساتهم على الاعتماد عليه في توجهات تنحاز إلى سلطة مبارك القائمة برسوخ فيما قبل الثورة. ثم مضت الأمور في الاتجاه الموجي المتقلب ما بين موجات صاعدة بالتيار، وموجات أخرى حاسرة به، أو متكسرة من الصعود السابق حتى جاءت اللحظة الفاصلة التي حشدت لها الثورة المضادة كل ثروات العالم وكل طغيان العالم بلا مبالغة وهي لحظة ٤ يوليو اليوم التالي للانقلاب السعماراتي.
وأصبح السلفيون في تلك اللحظات الفاصلة ما بين قائل: «لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده»، وما بين قائل باعتزال الفتنة، وما بين مغالط لنفسه بالقول بالشرعية للأقوى أو للمتغلب فضلاً بالطبع عمن كانوا في الأصل من العملاء أو الطابور الخامس الذي لا تخلو منه أية جماعة بشرية وفضلا عن الشامتين في الإخوان المسلمين (وما يشبههم من تيارات الإسلام السياسي).
وهنا كان لا بد من وجه مضيء في وسط هذا الظلام. كان فوزي السعيد (وعدد لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة مدّ الله في أعمارهم) هو هذا الوجه المضيء الذي حفظ للأمة ثقتها في تياراتها الحقيقية، بمسلكه ومسلك أمثاله أثبت الشيخ فوزي السعيد أن السلفية هي القبض على الحق وليست القبض على المال، وهي الخضوع للقرآن لا للسلطان، وهي الخنوع لله لا للقوة، وهي اليقين لا الترتيل، وهي القراءة لا الترديد، وهي الانعدال لا الانقلاب، وهي الاعتدال لا التعدل.
وبعيدا عن التقسيمات الفلسفية والكلامية والأصولية والفقهية والسياسية والاجتماعية فإن السلفية في ذهن المثقف العادي اختزلت تماما طبقا لقاعدة إما وإما، نوع كالسلف الصالح كأخي في الله الشيخ فوزي السعيد وأنواع كالسلف الغابر يمثلها أعلام يحظون بالضجيج من قبيل برهامي وحسان ورسلان والسديس. ولا شك في أن الحشود التي خرجت في جنازة الشيخ فوزي السعيد قد غيرت من بوصلة ما في جهاز ما.
لهذا كله، أصبح من واجب كل مسلم أن يترحم على الشيخ فوزي السعيد، فقد كان رحمه الله من خيرة السلفيين العاملين، واعيا بالمقاصد مجيدا للقياس متمرسا بالاستنباط، ممتلئا بالفقه مكسوا بالسنة متظللا بالسيرة، ناطقا بالحكمة نابضا بالحق حافظا بالسند. وقد عاش رحمه الله لربه وإسلامه وإخوانه ونهجه، غير مبدل ولا متبدل، باذلا غير متبذل، غيورا غير متأقلم، سيفا غير مترخص. رحمه الله رحمة واسعة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا