كان من نعم الله على أنني عشت عشر سنوات من شبابي المندفع (الذي يجاملونني بوصفه بالواثق) قريبا إلى حد كبير من الدكتور حسين فوزي ١٩٠٠- ١٩٨٨ وهو مفكر وفيلسوف عربي نادر الوجود كان في عرف المثقفين أو بإجماعهم بمثابة واحد من أكبر مثقفي العرب المعاصرين إن لم يكن هو أكثرهم ثقافة. لا أزال مدينا للقراء بالحديث عن هذا العلم الفذ في كل شيء.
أما وقد بلغت من السن ما يتيح لي اصطناع الحكمة فإني أبدأ بالاعتراف بأن أكثر ما بهرني في الدكتور حسين فوزي، وما حاولت أن أتشبع به منه، وما لا أزال أتمثله حتى يومنا هذا هو زهد هذا الرجل، كان الدكتور حسين فوزي أزهد من عرفت في حياتي.. بل كان أزهد حتى من كل النساك الذين قرأت تاريخهم.. كان في وسع هذا الرجل دوما أن يضع اسمه حيث ينبغي له أن يوضع فلم يحرص على أن يضعه على الاطلاق.. ومع هذا، وهذا هو الغريب جداً في الأمر، فإن اسم الدكتور حسين فوزي لم يغب أبداً عن موقع كان ينبغي له أن يكون فيه وإنما تموضع بما يستحق.
لم يبحث الدكتور حسين فوزي عن المال، ومع هذا عاش مستوراً ومات مستوراً. جاءه في سنواته الأخيرة صاحب البيت الذي يستأجره في الإسكندرية يطلب إليه التنازل عن عقد الاستئجار فلم يمانع. وجاءه أقرباء زوجته الفرنسية يطلبون منه التنازل لهم عن إرث زوجته وكان يتمثل في شقة جميلة في حي راق ومحل للعاديات، وكان أمره كله إليه وبيده فلم يمانع.
وكانت له في أوائل الثمانينات سيارتان مرسيدس إحداهما حديثة، والأخرى موديل 1958 فلما أحس أنه يجدر به ألا يقود السيارات باعهما مرة واحدة لتاجر واحد. ولما أحس أن زوج السيدة التي تتولي الإشراف على شقته بحاجة إلى سيارة تاكسي يتكسب منها في المساء ساعده في شرائها مقابل أقساط مريحة يتقاضاها منه على هيئة اجر عن قيامه بتوصيلات له. وكان له معاش في نقابة الأطباء فلم يتقاضه أبداً.
لك أن تقول إن كل هذا لا يدل على زهد، ولكن ما بالك إذا قلت لك إن الدكتور حسين فوزي لم يبحث عن منصب أبداً – ربما شعر بالتأذي حين تخطته ثورة 1952 في منصب مدير جامعة الإسكندرية (بسبب زواجه من أجنبية) لكنه قام بالعمل بالفعل على سبيل النيابة.. ولكنه فيما عدا ذلك لم يسع أبداً إلى أي منصب ولم يأسف. وقد جاءه منصب مدير معهد علوم البحار بحكم كونه أول عالم مصري في هذا المجال في منتصف الثلاثينات. وقد جاءه منصب عميد علوم الإسكندرية بحكم كونه أنسب من يتولى هذا المنصب في 1942 ثم جاءه منصب وكيل جامعة الإسكندرية بحكم أقدميته في الاستاذية والعمادة، كما أصبح مدير الجامعة بالنيابة.
بعد منصب وكيل جامعة الإسكندرية ومديرها بالنيابة تولى منصب وكيل وزارة الإرشاد القومي عند انشاء هذه الوزارة لأنه كان لا بد لهذه الوزارة من مثقف كبير مثله (يتمتع بدرجة كبري من درجات موظفي الدولة) يضع أسس الثقافة الحقيقية في مصر الثورة وهي تبدأ عهداً جديداً للشعب فيه حقوق كثيرة. عرض عليه منصب مدير اكاديمية الفنون بعد أن تولي الاشراف على تأسيسها فكان حريصاً على أن يبقي في الأهرام متاحاً للقراء ورفض أن يتنازل عن الأهرام التي لم يكن له أي منصب رسمي فيها.. هكذا روي الدكتور ثروت عكاشة بنفسه في مذكراته وهو آسف على أن الدكتور حسين فوزي لم يؤثر المنصب على الأهرام. وعلى صعيد المناصب العلمية واللجان العامة والرياسات الدورية كانت هناك مساحة أكبر من المناصب التي لم يسع الدكتور حسين فوزي أبداً إلى فرض نفسه عليها، ومع هذا كان مقامه محفوظاً. لك أن تقول إن كل هذا لا يدل على زهد.. وقد أوافق على ما تقول. ولكن ما بالك إذا قلت لك إن الدكتور حسين فوزي لم يطمع أبداً في الثمار المشروعة لأي ماض حققه!
انتهي من نيابة جراحة العيون ووجد فرصة بعثه في غير جراحة العيون فلم يأسف على ما تعلمه في جراحة العيون مما كان كفيلا بأن يدر عليه الأموال الطائلة – وآثر أن يسافر إلى الناحية الأخرى من البحر الأبيض حيث الحضارة التي كان يحلم بها. وحين كان في وسعه أن يعود إلى ممارسة طب العيون فإنه لم يفعل. بلغ في تخصصه العلمي في الجامعة أرفع المستويات العلمية: عميد قديم ووكيل جامعة وأستاذ قديم في تخصص يكاد تكون استاذيته الاولي حكراً عليه.. ولكنه لم يكن أبداً من الذين يكتفون بان يكونوا سدنة العلوم، بقدر ما كان حريصاً على إشباع ذهنه الحي بالمعارف المتنوعة واحدة بعد الأخرى.
بلغ في أدائه للموسيقي وفهمه لها قدراً عظيماً كان يتيح له الشهرة كموسيقي ممتاز (ولن نقول الاحتراف أو الرزق الوفير) ولكنه آثر أن يكون الهاوي المستمتع لنفسه والشارح المحلل لجمهور عريض من محبي الفن الرفيع. كان في شبابه من رواد القصة القصيرة وكان في وسعه أن يواصل انتاجه فيها فيحتفظ بمكانة عالية بين الأدباء بحكم الريادة والتجويد بعد ذلك ثم طول العمر.. ولكنه كان سعيداً أنه رفع راية تسلمها من بعده آخرون.
كان في شبابه كذلك واحداً من رواد ما سمي بالمدرسة الحديثة لناظرها احمد خيري سعيد وهي المدرسة التي ضمته هو ويحي حقي ومحمود طاهر لاشين وكانت لهم أفكارهم التي تبناها بعد ذلك آخرون واشتهروا بها.. ومع هذا كان الدكتور حسين فوزي سعيداً بما قدم في فترة من حياته تناسب هذه الأفكار ولم يكن حريصاً أبداً على لقب أنه أول من نادي بهذا التوجه أو ذاك حتى لو كان هذا مما يحبب الناس إليه. لك أن تقول إن كل هذا لا يدل على زهد.. وقد أوافق على ما تقول. ولكن ما بالك إذا قلت لك إن الدكتور حسين فوزي كان بإمكانه أن يوسع من دائرة قراءه بشيء من التبسيط أو التقريب ولكنه لم يفعل وآثر أن يبقي إنتاجه ونشاطه متاحا لمن يحبون الفكرة النبيلة كما هي ومن دون أن توظف أو تؤقلم مع مقتضيات التحول السياسي والاجتماعي.
كان في وسع الدكتور حسين فوزي أن يحظى بحب كثير من المتمذهبين على شتي مذاهبهم بشيء من التصنع في صياغة آرائه الحادة أو الواضحة ولكنه آثر أن يكون هو ضحية للفكرة وألا تكون الفكرة ضحية له. كان في وسع الدكتور حسين فوزي أن يحظى بإعجاب أكثر من كل معارضيه إذا حرص في صياغته لبعض آرائه على أن يترك الفرصة للقارئ كي يستثني ما يشاء من أحكامه، أو أن يضع [قد] فيما يدل عي تفتحه للآراء الأخرى ولكنه بسبب قوة شخصيته وعقيدته لم يتسامح أبداً فيما اعتقد أنه الصواب.
كان في وسع الدكتور حسين فوزي أن يكون أقرب إلى قلوب الحكام ولكن هذه القلوب لم تكن تعنيه على الإطلاق. كان في وسع الدكتور حسين فوزي أن يتحفظ في إعلانه عن سعادته بمبادرة السادات الي السلام، ولكنه كان حريصا على أن يكون هناك صوت مفكر عربي يعلي تماماً من قدر القيم الانسانية في خضم السياسة والدبلوماسية، في وسط الضجيج المعادي للإسلام والعروبة والشرق رغم أنه كان يعرف تماماً أنه يخسر بهذا الذي يفعله عن اقتناع ويبدو في اقتناعه وكأنه يندفع إليه، وهو الرجل العاقل المسن الرزين – ولكنه كان يريد أن يعبر عن فرصة حقيقية بتحقق حلم جميل حتى وإن أضاع ذلك منه كثيراً من التقدير.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا