من دلائل الانحطاط الحضاري والفكري أن تجد بين المثقفين العضويين من يتبنى طرح السؤال عن إمكانية تصور جدوى لمجانية التعليم في ظل اقتصاد مثقل يعاني من عجز في الموازنة، وعجز في ميزان المدفوعات، وعجز في الميزان التجاري، وعجز في قدرة الحكومات على الصرف على الخدمات الأساسية وعلى التمويل؟ وفي ظل أوضاع اجتماعية باتت معقدة وستصبح أكثر تعقيدا؟ وفي مقابل هذا الإحساس اليقيني بالانحطاط الفكري والتدهور الخلقي فربما تكشف لنا الإجابة المتأنية عن مثل هذا السؤال عن مدي حظوظنا من الوعي التاريخي والفكري الذي ينبغي أن يصوغ أفكارنا وتصوراتنا للمستقبل.
وأبدأ فأقرر أنني لو خيرت بين أن أنفق موازنة محدودة لدولة من الدول على عناصر متعددة تشمل استثمارات مضمونة العائد، واستثمارات طويلة الأمد، وزيادة الأجور، وخدمات عاجلة، وخدمة الديون… إلخ، لانصرفت عن هذا كله إلى ما هو أهم من كل الاستثمارات مضمونة العائد وطويلة الأمد والخدمات العاجلة، وخصصت تسعين في المئة على الأقل من الموازنة للإنفاق على تعليم حقيقي ومتميز لأبناء هذه الدولة محدودة الموارد ومحدودة الموازنة. ولن تكون خلفياتي الحاكمة في هذا القرار السياسي الخطير شاعريتي ولا رومانسيتي، وإنما ستكون الخلفية الحاكمة هي العقلية الطبية التي تدرك سببا دفينا كفيلا بشفاء كل الأعراض المتعددة والمتنوعة والمتناثرة لحزمة من الأمراض الاجتماعية الاقتصادية التي لا تزال تتفاقم يوما بعد يوم..
أول المفاهيم سريعة الهضم والتمثل: محاربة البطالة
ربما تقتضيني الفكرة السابقة بعض الإيضاح أو التوضيح، ولهذا فإني أوثر أن أقدم هذه الإيضاحات في صورة مفاهيم سريعة الهضم والتمثل: المفهوم الاول هو ان التعليم الحقيقي هو الضمان الأمثل والأكثر أمانا ضد البطالة، والمتعلم الحقيقي المتمكن من القراءة والفهم قادر علي أن يجد وظائف عديدة في جميع أنحاء المعمورة من خلال الصحافة والإنترنت، وهو من ناحية أخري قادر علي أن يجد الوسيلة لتحويل ما في يديه من موارد بسيطة إلى مصدر رزق..
ويكفي في هذا المقام أن أشير إلى أن السبب الحقيقي في إحجام الشباب عن المشروعات الصغيرة التي لا تتطلب رأس مال كبيرا لبدايتها يكمن في عجزهم عن التواصل مع الوسائل التعليمية المساعدة على إقامة أو إدارة مثل هذه المشروعات. ولو أن طبقات الشباب المُشهَّد (أي الحاصل على شهادات.. وهو تعبير أدق من الوصف بخريجي الجامعات والمعاهد) تلقي تعليما حقيقيا لكان هذا التعليم الحقيقي قد تكفل له بضمان القدرة على التواصل مع المشروعات الصغيرة القابلة للنمو والانتشار، والذي أصبح وطننا يخلو منها الآن مع أن اقتصاده في الماضي كان يستند إليها.
الدفاع الاجتماعي
أما المفهوم الثاني فيقول بما علمه لنا التاريخ من أن التعليم الحقيقي هو الضمان الحقيقي في وجه المشكلات الاجتماعية الطارئة المرتبطة بزيادة معدلات بعض الجرائم، وبانتشار الإرهاب، وبتفشي ظواهر الاحتيال، وتوليد الدولارات، وتعاطي المخدرات.. إلخ. وبتعبير مختصر فإن التعليم هو أقوى وأسرع وسائل وعناصر الدفاع الاجتماعي.
ومن الإنصاف هنا أن نشير إلى أن الإصلاحيين الجدد جميعا يدركون حجم ما تكلفه هذه الاختلالات الاجتماعية من موازنات الدولة وما تعوق به أي إنجاز تنموي، بل ما تحيل به الإنجازات التنموية إلى مصدر للاستنزاف الذي لا نهاية له، لكنهم في الغالب لا يدركون الجزئية الأهم، وهي أن التعليم الحقيقي يمثل المصل الواقي من كل هذه الاختلالات.
وليس هذا الفهم الغائب بغريب على الفكر الإنساني، ذلك أنه مع أن الأمصال واللقاحات وصلت في فعاليتها إلى ما يقارب مئة في المئة، إلا أننا نقابل كثيرين من طبقات مرفهة (!!) فنجدهم يبحثون عن وسيلة لتجنيب أولادهم تعاطي هذه الأمصال نتيجة لما سمعوا عنه أو خبروه من أعراض الحساسية التقليدية التي قد تصاحب تعاطي بعض الأمصال.
التربية السياسية الداعمة لخطط الإصلاح الاقتصادي
وأنتقل إلى المفهوم الثالث القائل بأن التعليم الحقيقي (وحده) هو الكفيل بتفعيل كل التفصيلات الدقيقة في التربية السياسية الداعمة لخطط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي على جميع المستويات، شريطة أن تتوجه هذه الخطط نحو الأنسنة لا نحو التسلط.
ولعلي أضرب على هذا مثلا بممارستنا لبعض حقوقنا السياسية في الانتخاب الحر المباشر، وسأتحدث عن تجربة إحصائية بسيطة قمت بها في نهاية الثمانينيات ولا تزال تفصيلاتها للأسف قابلة للتكرار، فحين كان الأمر يتعلق بانتخاب عميد للكلية حضر الانتخابات تسعة وسبعون من أعضاء هيئة التدريس الذين كان القانون يعطيهم حق التصويت ولم يتغيب إلا عضو واحد كان قد أجري عملية جراحية مفاجئة صباح يوم الانتخابات.
بينما أن أكثر من أربعين من هؤلاء الثمانين تكاسلوا عن المشاركة في انتخابات نادي أعضاء هيئة التدريس على مستوي الجامعة. ونأتي إلى المفاجأة الكبرى وهي أن سبعة منهم فقط هم الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي أجريت بعد انتخابات العمادة بأسبوع واحد فقط! وقد حدث هذا بالفعل على هذا المستوي الذي يوصف وبحق بأنه أعلي مستوي فكري!
بقي للقضية وجه آخر، وهو أني بطريقة غير تقليدية تمكنت من أن أدعو طائفة عمال موسميين في مستشفي الجامعة نفسها لإبداء رأيهم في اختيار مدير مسئول لمستشفي صغير من مستشفيات الجامعة كانوا يعملون فيه بصفة يومية لأكثر من ثلاث سنوات، وقد تماديت في تيسير الأمور عليهم إلى حد أن أصبح الاختيار محصورا بين اثنين يعرفونهما جيدا، لكن أحدا من هؤلاء لم يكن قادرا على أن يمارس حقه ولا حتى علي أن يتصور أن هذا حقه.. وكيف يمكن له أن يتصور هذا وهو عاجز حتى عن أن يضع علامة تعبر عن اختياره لهذا أو ذاك!
هكذا فإن المشكلة كمنت في حقيقة بسيطة وهي أن عنصر «السرية» في الاقتراع كان غير قابل للتطبيق لأن الأمي بطبعه يظل عاجزا عن أن يتفاعل مع أي نظام يعطيه حقه السياسي والديمقراطي، بل يعطيه أي حق أساسي من حقوق الإنسان. ومع هذا فإننا لا نزال نجد في بني قومنا مَنْ لا يزال يجادل في أهمية مجانية التعليم.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا