رحم الله الصديق الكريم والمؤرخ العظيم الدكتور محمد فريد الشيال، الأستاذ ابن الأستاذ كما كنت أحبُّ أن أناديه، فقد مضى هذا الأستاذ العظيم على خطى والده العظيم الأستاذ العميد الدكتور جمال الدين الشيال ١٩١١- ١٩٦٧ وقدم لأمته كثيراً من الجهد الصادق المُخلص الذي لم يحرص على أن ينسُبه إلى نفسه، لأنه آثر به وجه الله سبحانه وتعالى، وقد آثر هذا السلوك المنكر للذات في عصر كان الباحثون وأصحاب القلم فيه حريصين على إثبات كلّ فضل ممكن لأنفسهم، حتى وصلوا إلى مرحلة الذين وصفهم الله جلّ جلاله بأنهم «يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا»، أما هذا الرجل العظيم فإنه كان يفعل ما لا يعرف أحد أنه صاحبه ولا منجزه، ولا أنه من سهر فيه الليالي حسبة لوجه الله سبحانه وتعالى وإخلاصا للجماعة الوطنية المصرية على الرغم من أن عاش معظم سنوات عطائه في خارج الوطن.
الدراسة المزدوجة
درس الدكتور محمد فريد الشيال الهندسة الكيمائية، ونال درجة البكالوريوس فيها في عصر كانت الهندسة تبدو فيه بمثابة المهنة الواعدة لوطنه وجيله بل كانت بمثابة الاختيار الأول لكل الذين رزقوا التفوق في التعليم العام، لكنه مع هذا التحقق لم ينقطع بثقافته وتثقيفه لنفسه المتحضرة عن جذوره وهويته، ولم يفقد أيي قدر ولو ضئيل من روح الانتماء ولا نعمة الأصالة، وهكذا فإن الحنين المعرفي قاده إلى دراسة التاريخ دراسة أكاديمية منهجية، ووجد نفسه مدفوعاً بالحب إلى استكمال دراساته العليا في التاريخ، وإلى ما بعد دراساته العليا، وقد كان في واقع الأمر يمتلك كلّ أسباب النجاح والتفوّق في التاريخ، من عقلية يقظة، وذاكرة واعية، وذائقة تحب الحق، وبيان يعشق الوضوح، وايمان بدور المجتمع والشعوب، وتقدير لدور القوى الاجتماعية في صناعة التاريخ كما أنه كان يجيد التسجيل والمقارنة، ويوظف الاستدعاء والتشبيه، ولا يفرط في احترام للوثيقة، ولا يكف عن إظهار الالتزام الواجب بالتسلسل المنطقي والفهم الموضوعي.
نال الدكتور محمد فريد الشيال درجة الليسانس في التاريخ من جامعة الإسكندرية ثم نال الماجستير في الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية من جامعة تورنتو بكندا، ثم نال درجة الدكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية من جامعة أدنبرة ببريطانيا، وقد تناولت دراساته البحثية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه التاريخ من زوايا مرتبطة بالجغرافيا والسياسة والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية ومكنته إجادته لأدواته من أن يكون مرجعا على نحو ما كان أستاذا أن يكون قائدا للبحوث على نحو ما كان قدوة للباحثين.
يجيد الحكم في الأمور الخلافية
وإذا ما تأملنا إنجاز الدكتور محمد فريد الشيال الفكري بعين منصفة فإننا نستطيع أن نلحظ أنه كان قادراً على إجادة الحكم على الأمور الخلافية، وعلى الاستناد في حكمه المتئد إلى الأدلة والبراهين والروايات والمرويات بعد وزنها وتقييمها ونفي خبثها، ولم يكن يشغل باله بالانفماس في تفنيد دعاوى الزيف التي سيطرت على توجهات معينة في التأريخ لمرحلة معاصرة، وإنما كان من المؤمنين إيمانا عميقا وعمليا في الوقت ذاته بأن تقديم العمل الجيد المتكامل كفيل في حد ذاته بإسقاط الأكاذيب بالسرعة التي لن يصل إليها التفنيد عن طريق النفي، ومع أن هذا الفهم حقيقي وبارز ومؤثر في دلالاته فإن الدكتور الشيال لم يكن بحكم معيشته في الأوساط الأكاديمية الغربية يتصور مدى ما أصاب العقلية الاكاديمية في مصر ومن يحذو حذوها من شقيقاتها من شلالات التشوهات اللفظية والفكرية التي نشأت عن الترديد المتصل للأكاذيب وأسانيد الأكاذيب في ظل سلطات شمولية حالمة ومقصرة لم يكن أمامها إلا الاضطرار إلى انتهاج هذا السلوك المدمر للعلم والحقيقة والتاريخ أيضا وهكذا ضاع التاريخ مرة بالأمر المباشر وأخرى بالاضطرار المهين ومرات بالتعود والقصور الذاتي.
صفاته النبيلة
كان الدكتور محمد فريد الشيال أستاذاً ودوداً لبقاً صريحاً مُستوعباً هادئاً قادراً على تقبُّل الآخر بدون حرج ولا إحراج وقادراً على تصحيح الخطأ بدون قسوة أو تسفيه. كان الدكتور محمد فريد الشيال يُجيد الاستماع على الرغم من أنه يعرف أن كثيراً ممّا يُقال لا يليق بالقول، لكنه كان يعيش عصره غير متضجّر ولا ساخط لأنه رزق الرضا النفسي الذي لا يحظى به كثيرون، كانعونا لأهل العلم كما كان مرجعا لأهل العطاء وقدوة لأهل التعاون.
شغل الدكتور محمد فريد الشيال منصب المدير العام لمؤسسة “وعي” للبحث والتنمية، كما كان في أخريات حياته يشغل منصب الأستاذ غير المتفرغ بجامعة لندن، وقد ساهم في سنوات حياته الأخيرة بالعمل الطوعي في عدد من المجالات الإعلامية والبحثية بإخلاص العاشق للحقيقة والمحب للعلم. وعلى مدى حياته شارك الدكتور محمد فريد الشيال بالتدريس والعمل في اثنتي عشرة جامعة في مصر وكندا وبريطانيا والمملكة العربية السعودية، ونال العديد من الجوائز في التاريخ والتاريخ الإسلامي. توفي الدكتور محمد فريد الشيال في العاصمة البريطانية لندن بعد صبر على المرض.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا