الرئيسية / المكتبة الصحفية / تعليمات الدولة العميقة والإرشاد القومي والتوجيه المعنوي

تعليمات الدولة العميقة والإرشاد القومي والتوجيه المعنوي

حالما استقرت الأمور ظاهريا بعد ٢٣ يوليو 1952 بدأت السلطة الجديدة في إنشاء مؤسسات ذات طابع ثوري، لا أقصد بالطبع المحاكم التي كان من المفترض أنها ستؤدي دوراً ينتهي بعد حين من قبيل محاكم الغدر والشعب والثورة فضلاً عن المحاكم العسكرية وهي طرز أو أنماط مختلفة لما يُسمّى في أدبيات العدالة بالمحاكم الاستثنائية أو القاضي غير الطبيعي، وإنما أقصد المؤسسات التي تُعبّر عن الأفكار النبيلة على حسب عقيدة ذلك الجيل من الشباب الذي استقبل حركة سمّاها أصحابها حركة مباركة، ثم حوّلت هي نفسها اسمها إلى ثورة.

كانت أولى هذه المؤسسات هي وزارة الإرشاد القومي، وكما نرى فإن الاسم متأثر تماماً في الشق الأول بكيان الإخوان المسلمين، ومسمياتهم، ومتأثر نصفه الثاني بما كان لا بد منه من الحديث عن حركة قومية على عادة كل الدعوات الجديدة في منتصف القرن العشرين سواء سقطت هذه الدعوات بالحرب العالمية الثانية كالنازية والفاشية أو بدأت تنتعش بفضل إحراز الانتصار في الحرب، حتى لو كان انتصاراً شكليا كما هو الحال في كل بلدان العالم باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تلبث إلا قليلا حتى دفعها التيار هي الأخرى [بعد فترة قصيرة جدا] لتتبنى توجُّهاً قومياً صيغ بطريقة استبعادية أو نافية أو سلبية، نقصد مفهوم المكارثية الذي كان يعني اللاشيوعية.


من الإنصاف للذات أن نقول إن مفهوم الإرشاد القومي في مصر بدا أو برق أو تلألأ وكأنه أرقى بكثير من كلّ المفاهيم الموازية في العالم كله، وذلك لسبب واحد فقط هو الارتفاع الساحق في مستوى ثقافة ذلك الجيل من المصريين، ففي لمح البصر شغلت وظائف الإرشاد القومي بمفكرين على مستوى عالٍ وأدباء موهوبين، ومن ثم فقد تغلب طابع الثقافة على الإرشاد القومي حتى أننا الآن لا نكاد نتصور أن الوزارة التي أسست في 1952 كانت للإرشاد القومي، وإنما نكاد أن نتصور أنها منذ البداية تأسست باسم الثقافة والإرشاد القومي مع أن هذا لم يحدث إلا في 1958. وعلى سبيل المثال فقد كان نجيب محفوظ نفسه ١٩١١- ٢٠٠٦ واحداً من الذين نقلوا لهذه الوزارة الجديدة وكان يرأسه أديب أقدم منه في درجات الوظيفية هو يحيى حقي ١٩٠٥- ١٩٩٣ جاء نقلاً من السلك الدبلوماسي وكان يشغل وظيفة القائم بأعمال السفارة المصرية في ليبيا، ويرأس يحيى حقي من هو أقدم منه في الدرجات الوظيفية العليا الذي جاء من منصب مدير جامعة الإسكندرية بالنيابة ووكيلها وهو الدكتور حسين فوزي ١٩٠٠- ١٩٨٨.

أكتفي بهذه الأسماء الثلاثة وأنتقل إلى ما تطورت إليه الأمور في ظل حكم العسكريين من أن قبضة الدولة بدأت تُسيطر على الإعلام من خلال هذه الوزارة التي انقسمت فيما بعد إلى ثقافة وإرشاد، ومن خلال جهاز آخر أو أجهزة أخرى يختلف اسمها من المخابرات إلى الأمن القومي إلى أحن هذه الأسماء لفظا وهو “التوجيه المعنوي” الذي أصبح الآن اسماً لإدارة الشؤون العامة أو الشؤون المعنوية في القوات المسلحة.

أقفز قفزة طولها 60 عاماً إلى الأيام الأولى من حكم الرئيس مرسي حين كانت الحرية تفرض نفسها بنفسها، فتدعو إدارة من الإدارات المرتبطة بالمجلس العسكري مجموعة من أصدقائها من العسكريين إلى حفل تقليدي يُشبه حفلات الوداع والاستسلام والتكريم، فإذا برئيس تحرير صحيفة مصرية مستقلة خاصة متقدمة في الترتيب يقف بكلّ صراحة ليقول بكلّ وضوح: يا حضرات السادة المسؤولين، إننا الآن في حيرة لا نعرف ماذا نكتب، وماذا ننشر، وماذا نمنع من النشر، لقد تعوّدنا على الأوامر والتوجيهات والآن نحن في الهواء الطلق حيارى و أحرار لكننا نريد أوامر وضوابط.

بالطبع لم يرد عليه أحد في الجلسة.. لكنه فيما بعد الجلسة طلبه من كانوا يُحضّرون للانقلاب ليُطمئنوه بأن كلّ ما سيطلبه سيتحقق قريبا، وأن الأمور ستكون كما يشتهي هو وأقطاب الثورة المضادة ممن يمولون الصحيفة التي يرأس تحريرها. وقبل أن يمضي أسبوعان كانت الصحف المصرية قد بدأت تعزف الحان التحرش والتنمُّر بالرئيس المنتخب وبالديموقراطية. يومها سألني واحد من أساتذة العلوم السياسية الذين لا يختلطون بالكتابة ولا بالكتاب، وبالأدق هي أستاذة فاضلة ذات نفوذ وحضور لكنها ليست مشتبكة بالواقع اليومي، سألتني هل لهذا الذي فعله رئيس التحرير “المرموق” جذور؟

أجبت هذه الأستاذة المرموقة بأني أخشى عليها من وقع المفاجأة حين تعرف أن الدور الذي قام به رئيس التحرير منذ أيام كان هو نفسه الدور الذي لعبه صلاح سالم بعد أن نتف الزعيم جمال عبد الناصر ريشه ولم يعد وزيراً للإرشاد القومي ولا الرجل الثاني أو الأول مكرر في الثورة، وبعد أن جندله الرئيس عبد الناصر في 1956 تماما وألقى به بعيدا عن المناصب الرئاسية والوزارية، ثم تكرّم عليه وتعطف بأن ولاه رئاسة جريدة الجمهورية، وحضر صلاح سالم الاجتماع الذي عقده الزعيم لإعلان “تأميم الصحافة” باسم مخاتل هو تنظيم الصحافة في 1960 باعتباره واحدا من الصحفيين رؤساء التحرير وإذا بصلاح سالم وهو المعروف قبل هذا في تاريخ الثورة بسلاطة لسانه ونفوذه وطغيانه يستجدي الرئيس عبد الناصر ويقول نفس ما قاله رئيس التحرير المرموق في 2012.


ولنقرأ رواية ناصر الدين النشاشيبي رئيس التحرير المصاحب لصلاح سالم والدكتور طه حسين في ذلك اليوم: “وما زلت أذكر في تلك الجلسة التي قرّر فيها الرئيس عبد الناصر تأميم الصحافة أنني سمعت صديقي الراحل صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة، يقول للرئيس الرئيس عبد الناصر عندما جاء دوره للكلام: نحن نشكو «يا ريس» من انعدام جهة واحدة رسمية مصرية نلجأ غليها في الحالات التي نواجه فيها أخباراً خطيرة، ومقالات مهمة، أو صوراً ليست عادية، ولا ندري هل يُسمح لنا بالنشر أم لا؟

“ثم أكمل صلاح سالم يقول للرئيس: نحن نعلم أن سيادة الرئيس قد اختار الأخ كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم لهذه المهمة الخطيرة، لكننا نبحث عن الأخ كمال الدين حسين في كلّ مكان وفي كلّ الأوقات فلا نعثر عليه”. “وتجاهل الرئيس عبد الناصر كلام صلاح سالم وانتقل إلى موضوع آخر”.

 

 

 

 

 


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com