في ساعة صفاء استدرجني مجموعة من أساتذة التاريخ والباحثين فيه للحديث عما أعتقد أنه السبب في تفوّق كتبي عن تاريخ الحكومة المصرية . والوزراء عن الكتب الأخرى التي عالجت هذا الموضوع، مع ما قد يبدو من سهولة هذا الموضوع وسهولة التأليف فيه، ومع أني لم أكن براغب في أيّ حديث في هذا الموضوع مكتفيا بما حققته مجموعة كتبي السبعة عن الحكومة المصرية من توفيق ونجاح وذيوع، بل وبتكرار التجربة في بعض الدول العربية، فإنني وصلت إلى حل وسط بأن أروي بضعة أمثلة للنماذج المعرفية الطريفة في موضوع هذه الكتب مع تأصيل الحديث عن أسباب النجاة من القصور أو الخطأ، ومن الإنصاف أن أشير إلى حقيقة مهمة وهي أن مجلدات كتب أخرى عن الوزارات لم تستفد الإفادة الكاملة من كتابي عن الوزراء على الرغم من أنها صدرت بعد “التشكيلات الوزارية في عهد الثورة” الذي صدر في الثمانينيات و”الوزراء” و”البنيان الوزاري” و”المحافظون “الذي صدرت طبعاتها الأولى في 1996، والسبب في هذا مشرف لمن أعدوا هذه الكتب فهم طبقا للمنهج العلمي التزموا بأسلوب واحد في الرصد والتسجيل، ولم يلجئوا إلى ما لجأت إليه من تنوع وتعدد في وسائل الحصول على المعلومات، وصحيح أن القارئ أو الباحث سيفضل الرجوع إلى كتبي بما تحتويه من معلومات كاملة لكن هذا لا يبخس حق من عملوا والتزموا بمنهج الرصد لما هو متاح أمامهم من وثائق رسمية فحسب.
النموذج الأول: التعديل في القرارات الجمهورية بدون الإشارة اللازمة إلى هذا التعديل وسأضرب على هذا النموذج مثلين: المثل الأول حدث في بداية عهد الثورة بعد أن تم تشكيل وزارة الرئيس عبد الناصر الأولى في فبراير ١٩٥٤ (بناء على الإعلان الدستوري الصادر في 10 فبراير) حيث صدرت الصحف بالتشكيل الذي وقع عليه أعضاء مجلس قيادة الثورة على نحو ما كان التقليد يسير في تلك الأيام، وفي اليوم التالي وجد أولو الأمر أن الوزارة ينقصها وزيران: أحدهما هو صلاح سالم والثاني هو الدكتور على الجريتلي فصدر الأمر الخاص بتضمين اسمي هذين الوزيرين في اليوم التالي لتشكيل الوزارة، وتم تعديل الأمر الأول بإضافة الاسمين بطريقة أحبار التصحيح القديمة مع إضافة هامش في نهاية القرار يُشير إلى أن هذين الوزيرين عُيّنا في اليوم التالي.
أما المثل الثاني لهذا النموذج فمثل طريف إلى أبعد الحدود لأنه حدث في عهد الرئيس مبارك بعد أن كانت أمور الديوان الجمهوري قد استقرت إلى أقصى حد، وذلك أنه كان هناك تعديل وزاري شمل تعيين أربعة وزراء كما شمل تعيين نائب لرئيس الوزراء، وبعد انتهاء مراسم حلف اليمين وانصراف الوزراء والإعلام، حدث شيء لا يزال يُروى بدون وثيقة، وذلك أنه تم رصد مكالمة هاتفية بين أحد الوزراء القدامى وأحد المهنئين له على استمراره في موقعه من دون أن يشمله التعديل، فما كان من هذا الوزير المغرور إلا أن وصف ما تم من التعديل الوزاري بأنه ترقيع وزاري ليس إلا !! وكانت النتيجة الحتمية تقتضي إقالة فورية لهذا الوزير الذي لم يكن أهلاً تماماً للثقة، وتعيين أكبر رجال وزارته في مكانه، وكان هذا في واقع الأمر تغييراً للأفضل على كل المستويات الفنية والهندسية والمالية، لكن هذا التعديل تمّ بطريقة هادئة وسريعة وبدون استدعاء الوزراء الذين شملهم التعديل وأدوا اليمين منذ ساعات بل وصدر بهم القرار الجمهوري. وهكذا طالع الناس في الصباح التالي أخبار وصور الوزراء وهم يحلفون اليمين ومنهم هذا الوزير الذي أجريَ له تعديل استثنائي، وقد تجاورت أو تعاقبت بما لم يشهده الوزراء الأول أنفسهم، وعُرفت القصة، وتمّت إضافة الاسم في القرار الجمهوري في وضعه الطبيعي بعد الوزراء الذين كانوا قد حلفوا اليمين، ومن الطريف أن اثنين منهما كانا قد عُيّنا بأقدمية خاصة.
القصتان اللتان قصصتهما لتوي قديمتان، لكن قصة شبيهة بهما حدثت فيما بعد سنوات من حديثي لأساتذتي في التاريخ، وتتعلق هذه الواقعة بوزير كان قد تمّ استبعاده، وترشيح من يحل محله، وقبول هذا الترشيح، وتأكيده، ووضع اسمه في القرار الجمهوري بتشكيل الوزارة، لكن الوزير القديم المُستبعد كان على علاقة وثيقة جدا بالدولة العميقة جعلته يلعب من خلالها دوراً في إحراج الرئيس المنتخب بأن وضعت هذه الأجهزة على الفور على مكتب الرئيس ملفات الا تسمح لضميره بأن يمضي في تعيين الوزير الجديد لا لعيب حقيقي في الوزير الجديد، وإنما لاضطراب مناطق نفوذ الهيئات الرقابية التي كانت ثلاثا وصارت بعد ثورة يناير ثلاثاً ونصف.. ولما كان الرئيس المنتخب حريصا على أن يكون منجزاً ونزيها، وكانت الدولة العميقة حريصة على أن تظهر ما يدل على تدخلاتها في الوقت الضائع، فقد تمّ استبعاد الوزير الجديد واستعادة الوزير القديم ولكن في غير موضع الوزير القديم من البروتوكول، وإنما وضع اسمه في الموضع الذي كان يحتله الوزير الجديد بحكم القواعد التي يتم الأخذ بها عند ترتيب الوزراء الجُدد.. وهكذا صدر القرار الجمهوري (ونقلت الصحف محتواه) كاشفاً عن هذه القصة التي هي من المفترض قصة غير معروفة وغير معتادة النشر. ومن الطريف أنه فيما بعد عهد مبارك تكرّر هذا الأسلوب في إثبات الذات في كثير من المواقف البيروقراطية كثيراً جداً، وهو على كلّ الأحوال أسلوب مفيد في الرصد التاريخي لصراعات الأجنحة.
وزير جديد في كل يوم
النموذج الثاني يتعلق بتأثير ضغط العمل الكفيل (إذا ما زاد عن حده) بتغييب القرارات الجمهورية عن أن تأخذ مكانها في سياقها الطبيعي، لا أنكر أن هذا التعبير المهذب الذي أصف به الحالة يبدو وكأنه يمثل مبالغة زائدة على الحقيقة، لكن الحقيقة التاريخية هي التي تقول بهذا التشخيص بالرغم من غرابته وطرافته، والأدلة على هذا النموذج في تاريخنا الوزاري في عهد الثورة كثيرة جداً، سأكتفي منها بما حدث في أسبوع حركة مايو 1971 التي سمّاها الرئيس أنور السادات بالحركة التصحيحية وسُمّيت بعد هذا بثورة التصحيح.
فبعد أن تمّ تشكيل الوزارة وأداء اليمين الدستورية قام مجلس الأمة (الشعب فيما بعد) بما سُمي حركته التصحيحية التي أصبحت بعد هذا مُبرّراً لأن يُسمى 15 مايو بعيد مجلس الشعب، وذلك أن هذا المجلس الموقر أسقط العضوية عن رئيسه ووكيله وعدد من الأعضاء الذين كانوا مشاركين فيما سُمي بمؤامرة مايو، واختار المجلس أحد أعضائه البارزين ليكون رئيساً للمجلس، وكان هذا العضو هو حافظ وزير الشئون الاجتماعية، ومن ثم كان لا بد من تعيين وزير جديد للشئون الاجتماعية. وعيّن الوزير الجديد بالفعل وبقي طيلة عهد هذه الوزارة لكن اسمه لم يظهر في الوزارة التالية بسبب طريف وهو أنه اختير مستشارا لرئيس الجمهورية قبل أن يصبح وزيراً اتحاديا، وبهذا فإن هذا الوزير الذي هو أستاذ علم السياسة الدكتور محمد فتح الله الخطيب لم يحلف اليمين ضمن وزارة مصرية كاملة على الرغم من عمله كوزير للشئون الاجتماعية ما بين مايو 1971 وسبتمبر 1971.
و لم يتوقف الأمر في ذلك الأسبوع عند هذا، وإنما حدث أن اكتشف الرئيس أنور السادات أن وزير المواصلات كان قد أرضى المجموعة المضادة له فاستقال في إطار ما كانوا خططوا له من الاستقالات الجماعية، لكنه من باب إرضاء الطرفين (ولا نقول اللعب على الحبلين) أعطاهم صورة الاستقالة وأرسل الأصل بالبريد المسجل بعلم الوصول، وعلى الرغم من أنه هو نفسه وزير المواصلات الذي تتبعه هيئة البريد فإنه عجز بكل وسائله عن استرداد الرسالة التي بعث بها لرئاسة الجمهورية متضمنة الاستقالة.. وعلى غير عادة البريد المصري وصلت الرسالة بسرعة، ورفعت ضمن بريد الرئيس أنور السادات، فما كان منه إلا أن استدعى أكبر موظفي هذه الوزارة ليُقسم اليمين وزيراً لها بدلا من الوزير المستقيل بالبريد المستعجل بعلم الوصول، ومن الجدير بالذكر أن الوزير الجديد كان هو صاحب الحق الأصيل في الوزارة بل كان قبل هذا عضواً في مجلس للوزراء بدرجة نائب وزير لهذه الوزارة، لكن الوزير المستقيل الذي كان زميل دفعة الرئيس عبد الناصر كان قد ألح على زميله الرئيس كي يُعيّنه وزيراً فاختار له هذه الوزارة التي كان العسكريون يعتبرونها بلا صاحب ـ شأنها شأن كثير من الوزارات الأخرى.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا