الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / الهلالي باشا: أستاذ القانون الذي عزف مقدمة موسيقية أمريكية لثورة ١٩٥٢

الهلالي باشا: أستاذ القانون الذي عزف مقدمة موسيقية أمريكية لثورة ١٩٥٢

أبدأ الحديث عن أحمد نجيب الهلالي باشا 1891- 1958 بداية مختلفة بعض الشيء عن حديثي عن نظرائه من رؤساء الوزارات ، فأقول إن التاريخ المكتوب والباقي لهذا السياسي البارز والقانوني أجاد تصويره محظوظاً في ذريته وبذريته، فابنه هو الفارس اليساري النبيل الأستاذ نبيل الهلالي المحامي الذي شَهِد القاصي والداني له بالعظمة .
والد القديس

كان الابن الأستاذ نبيل الهلالي المحامي بمثابة روح العدالة الواقفة التي تنحاز بكل ما هو ممكن من الإنجاز والقوة والعلم والعمل إلى حق الإنسان مهما كان مدانا من السلطة ، بل وتعمل لمصلحة حق الإنسان مهما كان خصماً، ولا يزال الذين حضروا بعض مواقفه يذكرونه بما يستحق من الإشادة والتقدير والإعجاب بل والاعتراف بأنه لم يكن له نظير في نُبله ولا سُموِّ خُلُقه ولا صفاء روحه ولا نقاء سريرته ، ولم يكن من الكثير عليه أن يلقب بالقديس.
والسؤال الطبيعي في مثل هذه الظاهرة هو : وإذا لم يكن للأب فضل في هذا كلّه فلمن يكون؟
أما زوج ابنة أحمد نجيب الهلالي باشا فهو أستاذنا الدكتور محمود محفوظ السياسي القدير ، والطبيب الألمعي وأفضل وزراء الصحة في عهود الشمولية جميعاً، وهو الطبيب المفكر ، والعالم العامل ، و رجل الإنجازات والمواقف.
ولما كان الشئ بالشئ يذكر فإني أستطرد في هذا المقام لأذكر بعضا من حظ ؤساء الوزارات السابقين على الهلالي باشا في أولادهم النوابغ ، فأذكر ابنا شهيرا لمحمد محمود باشا وهو العلم البارز محمود محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة الأشهر، وهو الوزير الذي لم يدم عهده بالوزارة إلا يومين في سبتمبر 1952 أي في نهاية عهد وزارة علي ماهر الأخيرة.
وصوله لرئاسة الوزارة

كان أحمد نجيب الهلالي باشا آخر من وصل إلى رئاسة الوزارة في عهد الليبيرالية، و مع هذا فقد كان أول رؤساء الوزارة في عهد الليبرالية ١٩١٩- ١٩٥٢ ممن تألقوا في تدريس علوم القانون في كلية الحقوق . ومن الطريف أنه درّس للواء محمد نجيب، وهكذا فإنه في ليلة قيام الثورة 22/23/7/1952 كان (وهو رئيس الوزراء الجديد في وزارته الثانية) يتفاوض أو يتكلم مع قائد حركة الجيش الذي هو الفريق محمد نجيب باعتباره أستاذه ، أو مذكراً له بأنه أستاذه.
وهنا لابد من ذكر شيء طريف يتعلق باثنين من زملاء أحمد نجيب الهلالي باشا في دفعته في كلية الحقوق وهما قانونيان بارزان لامعان اشتغلا بالقانون والإدارة هما على أيوب بك ومحمد حسن العشماوي باشا وقد توليا الوزارة أيضاً. فمن الطريف أن هذه الدفعة ضمت ثلاثة من الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة مع فارق 6 سنوات بين كلٍّ منهم فقد أصبح الهلالي (المؤيد بالوفد) والمرشح من قبله وزيراً في 1934 ، وأصبح علي أيوب وزيراً سعدياً في 1940 وأصبح محمد حسن العشماوي وزيراً مستقلاً في 1946.
لا يعرف قيمة الشعب

في جميع الأحوال فإن أحمد نجيب الهلالي باشا هو نموذج السياسي الطموح الذي لا يعرف قيمة الشعب، كما أنه نموذج لذي القدرة الفنية التي تفتقد إلى الجماهيرية، ونموذج الانسان الذكي الذي يفشل في أن يكون جزءاً من حزب ومن ثم فإنه يصعب عليه أن يشكل حزباً ناجحاً ، وإن كان بإمكانه بالطبع ان يشكّل فريقاً صوريا أو ما يسمى في اللغة أي فريق.
هل كان الهلالي باشا قادراً على أن يستمر في الرئاسة

هل كان أحمد نجيب الهلالي باشا قادراً على أن يستمر رئيساً للوزراء عاماً او عامين لو لم تقم ثورة 23 يوليو 1952؟ لا اعتقد ان هذا كان ممكناً فقد كانت الأزمات المحلية كفيلة بأن تنهش جسد وزارته و كيانها على نحو متسارع حتى يفقد بعض أعضاءها بالفشل ، وبعضها الآخر بالخوف ، ولا يبقى معه إلا من تعود الخضوع لتأثير القصور الذاتي ممن لا يؤثر الراحة إلا بخروج يجبر عليه ، ، ومن ثم تتحول الوزارة إلى مجرد صورة تشغل حيّز مجلس الوزراء ومكاتبهم.
كان أداؤه حلقة متوسطة بين الليبراليين والشموليين

كان أحمد نجيب الهلالي باشا في توليه و أدائه لرئاسسة الوزارة بمثابة حلقة وسطى بين وزراء الطابع الليبيرالي ووزراء الطابع الشمولي فلم يكن حتى لو امتد به الزمن في رئاسة الوزارة إلى ثلاث سنوات قادرا على أن يحقق مكانة أكبر من تلك التي وصل إليها ، فهو بالطبع لم يكن قادراً على الوصول إلى مستوى الزعامات القومية (سعد باشا والنحاس باشا ) و لا إلى مستوى الزعامات الأوتوقراطية التي جاءت بمسمى الثقة و التفويض لقدرة صاحبيها (عدلي باشا يكن، وعبد الخالق ثروت باشا ) ولم يكن يحظى ببريق زعماء المعارضة والأقلية (من قبيل محمد محمود باشا وصدقي باشا وعلى ماهر باشا ) أو المنشقين على الوفد( أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا وإبراهيم عبد الهادي باشا) ، كما أنه لم يكن بالطبع قادراً على أن يصل إلى مستوى رجال القانون البيروقراطيين الذين مارسوا السياسة بعدما وُجدوا في الموقع السياسي الأول في ظل الشمولية (من قبيل حسن رشدي باشا ومحمد سعيد باشا ) ولا حتى من قبيل رباعي المستشارين الذين تولوا رئاسة الوزراء باعتبارها عملا إداريا على أفضل تقدير ( محمد توفيق نسيم باشا ويحيى إبراهيم باشا وأحمد زيور باشا ويوسف وهبة باشا ) .
ربما كان نجيب الهلالي باشا قادراً على أن يصل إلى مستوى حسن صبري (الذي تولى الوزارة 1940) لكن حسن صبري كان يتميز عنه بعلاقة عملية و فعلية أوثق بالبريطانيين، وربما كان قادراً على أن يصل إلى مستوى عبد الفتاح يحيى باشا ، لكن عبد الفتاح يحي لم يأت إلى منصبه من باب ضيق هو باب الاستفزاز للوفد وللحركة الوطنية على نحو ما جاء أحمد نجيب الهلالي باشا ، وإنما جاء من باب قريب إلى التوافق والتوفيق .
مقارنته التفصيلية برؤساء الوزراء في نهاية عهد الملك فاروق

لا جدال في أن أحمد نجيب الهلالي باشا كان بالطبع أقل كفاءة من سلفه المباشر علي ماهر باشا بكلّ ما يُمثله علي ماهر باشا من تاريخ وخبرة وسمعة في مجال حكم الأقلية ومواجهة الأغلبية والالتفاف عليها، ومن الطريف أن سلفه في وزارته الأولى أصبح هو نفسه خلفه في وزارته الأخيرة وكأن الهلالي كان تجربة عابرة بين قوسين و كان القوسان هما على ماهر باشا.
كذلك كان أحمد نجيب الهلالي باشا باشا بلا شك أقل بكثير في حضور زعامته من زعامة من طراز إبراهيم عبد الهادي باشا رغم ان أحمد نجيب الهلالي باشا أكبر من إبراهيم عبد الهادي سنا، واسبق منه في الوصول إلى المنصب الوزاري، فضلاً عن أستاذيته في الحقوق ، لكن إبراهيم عبد الهادي كان يستند على حزب حتى لو كان حزب أقلية، كما كان صاحب رؤية جعلته قادراً على ألا يستمر في الطغيان المقنن والمبرمج الذي كانت القوى الغربية تُشجعه على أن يتمادى به في بدء موجة من القهر وخلط الأوراق تؤهل لعصر محاربة جماعات سياسية صاعدة بسرعة (بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) كما كان الحال في مصر مع جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال .
ولهذا فقد قبل أحمد نجيب الهلالي باشا ما كان مطلوبا منه من التحرش بالحركة الوطنية وهو ما لم يقبله إبراهيم عبد الهادي باشا وما لم يكن أحد يتصور أن يقبله إبراهيم عبد الهادي باشا.
لكن أحمد نجيب الهلالي باشا مع ذلك كله كان أفضل من حسين سري باشا الذي كان موظفا كبيراً فحسب ولم يكن له من مقومات الزعامة ما كان متاحاً للهلالي باشا من قدرة على الحديث والحوار والخطابة والاقناع والجدل والمناقشة والابداع وتسمية الأشياء بأسمائها وطرح الرؤى الجديدة.
والدليل على هذا الذي أقول إن أحمد نجيب الهلالي باشا ترك الوزارة في أول يوليو 19٥2 فخلفه حسين سري لمدة 3 أسابيع ثم عاد أحمد نجيب الهلالي باشا نفسه وكان حسين سري لم يكن إلا رئيس وزراء مؤقت ريثما يتم استغلال الوزارة في إنجاز شيىء ما ، ثم تعود الوزارة إلى ما كانت عليه، أو كأنما كان حسين سري في هذه الحالة تجربة عابرة بين قوسين (هما الهلالي ) على نحو ما كان الهلالي باشا نفسه عابرا بين قوسين يمثلهما على ماهر باشا .
وربما ان هذا هو السبب الذي جعل أحمد نجيب الهلالي باشا يقبل العودة رغم ان الظروف لم تتغير لكنه على كل حال كان أول (و آخر) رئيس وزراء يعود إلى منصبه رئيسا للوزارة بعد ثلاثة أسابيع فقط من تركه إياه.
ومع أن أحمد نجيب الهلالي باشا يتفوق على حسين سري باشا في مجمل شخصيته لكن سري باشا لم يكن فيما قبل ثورة ١٩٥٢ مجاهراً بعداوة الوفد والحركة الوطنية على نحو ما فعل الهلالي باشا ، وإن كان سري باشا قد تجاوز حدود بعد ثورة ١٩٥٢ مما أسقط اسمه ومكانته وساعد على أن يجعل الهلالي باشا سابقا عليه في الترتيب العام ، على أية حال ، و ليظل سري باشا قرب نهاية القائمة قريبا من بطرس غالي باشا الذي لم يكن كما وصفناه من قبل يدرك الفرق بين الزيادة والسيادة .
وهؤلاء الذين قارنا الهلالي باشا بهم هم جميع رؤساء وزراء مصر منذ ١٩٠٨
كان فكره السياسي يتصور أن النزاهة وحدها تكفي للنجاح

كان نجيب الهلالي رجلا نزيهاً لا شك في ذلك لكنه ظن أن النزاهة وحدها كفيلة بأن تكون بديلاً للأغلبية والشعبية والجماهيرية ، بل إنه اندفع في إثبات مذهب لا وجود له في الحقيقة وهو مبدأ نزاهة الحكم، مع أن الحكم نفسه لا يكون نزيهاً إلا بنزاهة الأشخاص والآليات ، لكنه ظن أن بوسعه كرئيس للوزراء أن يُمارس هذا المبدأ من خلال آلية أسماها آلية التطهير، وبدأ يسن ما عرف بعد ذلك بقوانين محاكمات الغدر و قانون التطهير، وهو القانون الذي وجدته ثورة 23 يوليو 1952 جاهزاً فبنت عليه قرارات كانت في أشد الحاجة إليها للانتقام من السياسيين السابقين عليها بالأسلوب الأمريكي الجديد (يومها ) الذي كان يجيد توظيف الإعلام في الحض على تشويه السياسيين بقسوة و هدمهم وتلويث تاريخهم .

صعوده القانوني والسياسي

ربما كان أحمد نجيب الهلالي باشا أكثر أقرانه وأبناء جيله تأهلا بالمهارات القانونية المتنوعة فهو عضو قضايا الدولة الوحيد الذي وصل إلى رئاسة الوزراء، وهو قبل ذلك قد بدأ حياته مشتغلاً بالمحاماة حيث افتتح مكتبا خاصاً به، ثم عمل في النيابة قبل أن يعمل في قسم القضايا الملكية ووصل إلى درجة المستشار في هذا القسم193١، وفي العام التالي قبل العمل أستاذا في مدرسة الحقوق ، وفي العام التالي قبل العمل سكرتيراً عاد لوزارة المعارف .
بدأ أحمد نجيب الهلالي باشا عهده بالوزارة عند تشكيل وزارة محمد توفيق نسيم باشا (نوفمبر 1934) وزيرا للمعارف، وقد أضاف إليها في 18 يونيو 1935 الوزارة الجديدة التي أسست للتجارة والصناعة، فهو بهذا أول وزراء التجارة، كما أنه أول وزراء الصناعة ، وقد بقى أحمد نجيب الهلالي باشا يتولى هاتين الوزارتين حتى نهاية عهد هذه الوزارة في يناير 1936.
ثم تولى أحمد نجيب الهلالي باشا وزارة المعارف في أثناء وزارة النحاس باشا الرابعة في 17 نوفمبر 1937، وبهذا كان أول عهده بوزارة من وزارات الوفد 43 يوما فقط.
ثم تولى وزارة المعارف طيلة عهد وزارتي النحاس الخامسة والثالثة (فبراير 1942 ـ أكتوبر 1944).
ثم رأس الوزارة دون أن يجمع معها وزارة أخرى في مارس 1952 ويوليو 1952.
و هو على سبيل النظرة الكلية واحد من رؤساء الوزراء الستة الذين بدأوا مناصبهم الوزارية بوزارة المعارف، لكنه يتميز عنهم جميعاً بأنه احتفظ بالمعارف العمومية في كل الفترات التي عمل فيها كوزير، كما أنه حين تولى رئاسة الوزارة لم يجمع معها أي منصب وزاري حتى ولا وزارة الداخلية، وهو بالمصادفة أيضا واحد من رؤساء الوزارات الستة قبل الثورة الذين لم يمروا بوزارة الداخلية ، ولا حتى تولوها حين أصبحوا رؤساء للوزارة.
و بعبارات تفصيلية فإنه تولى وزارة المعارف العمومية أربع مرات، كانت المرة الأولى مع محمد توفيق نسيم باشا في وزارته الثالثة و الأخيرة (1934 ـ 1936)، ويبدو أنه كان في هذه الوزارة بمثابة الذراع اليمنى لمحمد توفيق نسيم باشا على نحو ما توحي به بعض المذكرات السياسية التي تناولت تلك الفترة، ولنذكر أن مظاهرات الطلبة في 1935 كانت في عهد هذه الوزارة.
أما المرة الثانية التي تولى فيها وزارة المعارف فكانت ما بين 17 نوفمبر 1937 و30 ديسمبر 1937، وهى فترة قصيرة تقع في نهاية عهد وزارة النحاس باشا الرابعة التي كان عبدالسلام فهمى جمعة قد تولى فيها وزاراتي المعارف العمومية والتجارة والصناعة. وفى التعديل الوحيد الذي أجرى لهذه الوزارة دخل الهلالي باشا الوزارة وزيراً للمعارف (ليخلف بذلك عبدالسلام فهمى جمعة رئيس مجلس النواب )، وعلى حسين وزيراً للأوقاف (والتي كان محمود بسيوني باشا رئيس مجلس الشيوخ يتولاها عند تشكيل الوزارة).
المرتان الثالثة والرابعة اللتان تولى فيهما الهلالي وزارة المعارف العمومية كانتا متصلتين، وهما وزارتا الوفد أو وزارتا النحاس باشا الخامسة والسادسة فيما بين 4 فبراير 1942 و8 أكتوبر 1942،
بعد هذا لم يدخل نجيب الهلالي باشا الوزارة فلما عرضت عليه في وزارة الوفد الأخيرة في يناير 1950 اعتذر، وتجمع الروايات على أنه هو الذى رشح الدكتور طه حسين.
وكما أشرنا من قبل فقد تولى الهلالي باشا رئاسة الوزارة في أول مارس 1952 فقضى فيها أربعة شهور، ومرة ثانية في 22 يوليو 1952 ويقضى فيها يوماً واحداً أو يومين ، وكان هذا آخر عهده بالوظائف الوزارية بعد أن كان قد تولى المعارف 4 مرات مع رئيسين للوزراء فقط هما محمد توفيق نسيم باشا والنحاس باشا، والتجارة والصناعة مرة واحدة مع محمد توفيق نسيم باشا. وبعبارة أخرى فإنه قبل توليه الرئاسة عمل وزيراً لوزارتين فقط، وعمل مع رئيسين للوزراء فقط ، لكنه عمل في أربع وزارات قبل رئاسته لوزارتيه.
في وزارة المعارف

كان للهلالي باشا نشاط واسع في وزارة المعارف، حتى إن كثيرا من قوانين التطوير التي أخذت بها وزارة المعارف تحمل اسمه، وكان الدكتور طه حسين من معاونيه في هذه الفترة كذلك كان الدكتور محمد مهدي علام رئيسا للمكتب الفني في عهده.
وهو فيما درست واستنتجت رابع وزراء المعارف في حقبة الليبيرالية أهمية وإنجازاً بعد سعد زغلول باشا وأحمد حشمت باشا وعلي الشمسي باشا وقبل الدكتور طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل والدكتور السنهوري والنقراشي باشا ، وإن كان الصوت المتولد عن إصلاحاته التعليمية أعلى من أصوات من سبقوه بسبب عنايته المُبكرة وعناية عصره بالإعلام والتوثيق، وعلى سبيل المثال فإن تقرير الإصلاح التعليمي في مصر يحمل اسمه فيُقال في الأدبيات التربوية “تقرير الهلالي عن التعليم في مصر”، ولا شك في أنه قاد وأنجز خطوات ذات شأن كبير جدا في توسيع المجانية وتنظيمها، كما أنه هو الذي خفض سن القبول في المدارس إلى سن خمس سنوات (وكان سبع سنوات قبل ذلك) وفي عهده بدأ تحول الدبلومات الفنية في التعليم الزراعي من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات.
وفي عهده أيضا أضيف عام دراسي إلى مدارس البنات لتأهيلهن بمتطلبات تربوية ترتقي بأدائهن في وظائف الأمومة وتدبير المنزل ورقي الاسرة والمجتمع ، وهو ما ظهر أثره في سلوك سيدات ذلك الجيل اللائي تولين قيادة كثير من مؤسسات المجتمع باقتدار في كثير من المجالات.
ومع أن الدكتورطه حسين ليس في حاجة إلى أمجاد إضافية فإن كثيرين من المتياسرين في أفكارهم يأخذون أفكار الهلالي وينسبونها إلى الدكتورطه حسين من باب النكاية في الباشوات مع أن طه حسين نفسه كان يعتز بالباشوية أيما اعتزاز .
فضله في الاحتفال بالذكرى المئوية لوزارة المعارف

إلى أحمد نجيب الهلالي باشا يعود الفضل في هذا الاحتفال فقد ألف لجنة برياسة وزير المعارف العمومية ، وعضوية كل من وكيل الوزارة، ومدير الجامعة المصرية، ومرقص سميكة باشا، وأمين سامي باشا، ومحمد أسعد براده بك، ومحمد خالد حسنين بك، وإبراهيم درويش بك، ومحمد نصار بك، والأستاذ الخليل مطران لتحضير ما يلزم للاحتفال بالذكرى المئوية لإنشاء ديوان المعارف التي تقع في شهر فبراير سنة 1937 ووضع كتاب ذهبي تستعرض فيه سياسة التعليم ونظمه المختلفة في مصر منذ العصور الأولى.
النشيد القومي الرسمي

كان أحمد نجيب الهلالي باشا وهو وزير للمعارف صاحب الفضل في تشكيل لجنة لوضع شروط مباراة عامة لاختيار نشيد يحقق أغراض الأناشيد القومية ، نظراً لما للأناشيد القومية من الأثر القوي في إظهار جلال الأمة، والتنويه بعظمتها، وإيقاظ شعور الشعب حين يتناشدها، ونظرا للحاجة إلى نشيد من هذا النوع يلقى في المناسبات القومية والدولية، أسوة بالدول المتحضرة. وقد نص في قراره بتشكيل اللجنة على أنه لا يوجد لمصر في الوقت الحاضر نشيد قومي معترف به رسمياً مما يتعين معه المبادرة لسد هذا النقص بتشكيل هيئة يعهد إليها وضع شروط مباراة عامة لاختيار نشيد يحقق أغراض الأناشيد القومية .
ولست أدري السبب الذي جعل الهلالي باشا يقفز على ما ماكان موجودا بالفعل وهو نشيد اسلمي يامصر الذي نظمه الأديب والشتعر العبقري مصطفى صادق الرافعي .
وعلى كل الأحوال فقد تشكلت اللجنة من الأستاذ أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية رئيساً وعضوية كل من الأستاذ خليل مطران، الأستاذ علي الجارم المفتش بالوزارة، الدكتور محمود أحمد الحفني مفتش الموسيقى بالوزارة، وعبد الله سلامة أفندي مفتش التربية البدنية بالوزارة.
و نص القرار على أن تكون مهمة اللجنة هي وضع شروط مباراة عامة بين الشعراء والموسيقيين لنظم وتلحين نشيد قومي يكون صالحاً للاعتراف به رسمياً.
ثناء الأستاذ أحمد حسن الزيات على أفكاره التربوية في كتابه عن إصلاح التعليم في مصر

كتب الأستاذ احمد حسن الزيات ( دسمبر ١٩٤٣ ) في مجلة الرسالة التي كان يراس تحريرها مقالا قيما يثني فيه على ما ورد في تقرير التعليم في مصر الذي نشره الهلالي باشا ، و كان مما قاله في هذا المقال :
” لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يصدر عن وزيرها تقرير كهذا التقرير يجمع بين الرأي والعزيمة في تنفيذ خطة مرسومة لغاية معلومة. ومن قبل كانت سياسة التعليم في مصر نمطاً من سياستها العامة: سيراً على غير خطة، أو خطة إلى غير غاية. وكانت وزارة المعارف على الأخص قد عاهت (يقصد : أصيبت ) بالاستعمار فظل نباتها نكداً لا يغل ولا يظل. وكان البانون على أثر دنلوب يحاولون أن يرفعوا البناء فلا يرتفع، ويجهدون أن يدعموه بتقارير الخبراء ومباحث اللجان فلا يندعم؛ ذلك لأنهم كانوا يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم بروتين النظام حتى أصبح لهم فطرة.
” فإذا كان القائم على أمور الوزارة قوياً انطوت هذه الفئة انطواء القنافذ وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم والخبرة، فغيروا المناهج وقوموا الخطط ورسموا الغاية وبدلوا الكتب وبدأوا التجربة. وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة، ورجعيتها على كل تجديد، فاحتسبت الإرادات في الرءوس، واستقرت الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء بالتأليف المريب لجواز (يقصد مانسميه الآن : اجتياز ) الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة جيل يكون له العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. . .
“ذلك إلى أن القائمين على ثقافة هذا البلد قد اتسموا بميسم (أي بأسلوب )السياسة العامة، فحصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، ولم يشغلوا ذرعهم (أي بالهم) إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له ليضعوا سياستهم على مقتضيات حاله، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته.
“نعم، لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يتولاها وزير يريد أن يعمل ويدري كيف يعمل. وهذا التقرير الذي نشره نجيب الهلالي باشا هو المقدمة الممهدة للتاريخ الذي سيكتب بعد الحرب لمصر العالمة العاملة. وليست قيمة هذا التقرير الخطير فيما اشتمل عليه من خلاصة الآراء الفنية لأساطين التربية في إنجلترا وأمريكا؛ إنما قيمته العظمى في الروح الذي أوحاه، والغرض الذي توخاه، والعزم الذي انطوى عليه : وهل كانت تقارير الفنيين أمثال (مان) و (كلاباريد) تعوزنا حين كنا ندور على أنفسنا دوران أبي رياح لا نتجه ولا نسير، ولا نعرف قبيلاً من دبير(عبارة تناظر قولنا : ظهرا من بطن ؟
نهج معالي الوزير في تقريره الخطة المثلى لإصلاح التعليم وتجديده، ولم يعتمد في نهجه كما قال ، على الخيال والأماني، وإنما اعتمد فيه على تجارب مصر في نهضتها الحديثة، وتجارب الأمم الراقية التي سبقتها إلى النهوض في أوربا وأمريكا.
” وهذه الخطة تعتمد على أسس بلغت من الوضوح حد البداهة، لا في مصر وحدها، بل في العالم المتحضر كله، وهي أن التعليم حق للناس جميعاً. . . وأن المساواة ما دامت أساس الحياة الديمقراطية يجب أن تشمل حقوق الناس وواجباتهم كلها، والتعليم من أول هذه الحقوق لأبناء الشعب، ومن أول هذه الواجبات على الدولة. . . و أن هذه المساواة تستلزم إزالة الفروق بين القادر والعاجز؛ وسبيل ذلك [تيسير] التعليم للناس جميعاً بإلغاء مصروفاته شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الإلغاء عاماً. وتستلزم هذه المساواة كذلك أن يلاحظ المشرفون على التعليم مواهب المتعلمين وكفاياتهم، وأن يوجهوا كلاً منهم إلى أن ينفع وينتفع ويكون مواطناً عاملاً كريماً في وطن راق كريم.
” وعلى هذه الأسس الثابتة أقام الهلالي باشا دستور التعليم المقترح. وأقوى مبادئ هذا الدستور (أن الديمقراطية لا يتحقق معناها الرفيع إلا إذا اعتمدت على أساس راسخ من التعليم الصحيح)؛ و (أن التعليم ضرورة من ضرورات الحياة للأمة، وليس شأنه في سنوات الشدة بأقل من شأنه في سنوات الرخاء؛ فعليه يتوقف مصير كل أمة ويتضح سبيلها و[تتحدد] غايتها)؛ و (أن الغرض من التعليم هو أن تيسر للأبناء طفولة سعيدة، ويهيأ لهم أن يبدءوا حياتهم بدءا حسنا، وأن يوفر للشعب كله أوفى قسط ممكن من الخير والنعيم، وأن تدبر جميع الوسائل لتنمية المواهب المختلفة وحسن توجيهها. وأن يتاح للشباب كل الفرص الممكنة ليتعلموا ويتقدموا، وأن تبذل الجهود التي تفتح لهم أبواب العمل تأميناً لمستقبل الفرد ورفاهية الجماعة)؛ و (أن كل فرد يجب أن يتعلم التعليم الذي يؤهله لمواجهة تجارب الحياة العاملة ومشكلاتها)؛ و (أن الدولة محتوم عليها أن تسوي بين جميع طبقات الأمة فيما تتيح لهم من فرص التعليم)؛ (فلا يجوز بحال ما أن يعوق الفقر طالب علم عن إتمام تعليمه، ولا أن يحول بينه وبين المدرسة التي يهيئه لها استعداده العقلي)؛ (وأن الأمة لا يمكنها أن تحتفظ بمجدها الصناعي والتجاري إلا بالتوسع في التعليم الفني.
” هذه الأسس والقواعد وما بني عليها أو استند إليها معلومة في [بداءة] العقل فلا سبيل عليها لناقد؛ إنما سبيلنا وسبيل المخلصين أن ندعو لها الله أن يبقى الوزير في الوزارة، والمستشار في الاستشارة، حتى تخرج إلى النور، وتصبح في حمى الملك والدستور.
إنصافه للدرعميين

هذه فقرة طريفة من فقرات الدكتور زكي مبارك باسلوبه الشائق كتبها في سبتمبر ١٩٤٢ حين اعتمد الهلالي باشا وهو وزير بعض الترقيات لأبناء دار العلوم في وزارة المعارف العمومية :
” أمضى معالي الأستاذ أحمد نجيب الهلالي باشا قراراً بترقية جماعة من كبار الموظفين بوزارة المعارف إلى الدرجة الأولى الفنية وعلى رأسهم الأستاذ جاد المولى بك كبير مفتشي اللغة العربية، فالتفت الذهن إلى نصيب أبناء العلوم من الترقيات بوزارة المعارف، وقد طالت شكواهم من الإغفال والإهمال عدداً من السنين الطوال. والظاهر من البحث الذي بذلته في درس هذه القضية أن أبناء دار العلوم لم يفز منهم بالدرجة الأولى قبل جاد المولى بك غير رجلين أثنين: عاطف بركات وعبد العزيز جاويش.”
“ومع هذا فالطعم مختلف كل الاختلاف: فالمغفور له عاطف بركات رقَّته وزارة الحقانية لا وزارة المعارف، لأنه كان ناظر مدرسة القضاء الشرعي، وكانت تلك المدرسة تحت إشراف وزارة الحقانية، وكان مفهوماً أنها تملك في إنصاف الرجال ما لا تملك وزارة المعارف.”
“أما الشيخ عبد العزيز جاويش فلم يراع في منحه الدرجة الأولى أنه من أبناء دار العلوم، وإنما روعيت شخصيته العظيمة الفخيمة، وكان رجلاً ملء العين والقلب، وكان يتكلم الإنجليزية والألمانية والتركية بسهولة تستوجب الالتفات، وكان له في خدمة الوطنية تاريخ طويل عريض، فصار من الصعب أن تجعله وزارة المعارف في منزلة أي كبير من كبار الموظفين”.
“فكيف ظفر جاد المولى بك بالدرجة الأولى، وهو رجل لا يعرف غير عمله الرسمي وعمله الأدبي في هدوء وسكون، ولم يعرف عنه التقرب إلى هذا الحزب أو ذاك، ولو شئت لقلت إنه ضعيف الحيلة إلى أبعد الحدود؟ كيف ظفر بهذه الدرجة؟ كيف؟ كيف؟ وهو لا يرى وزير المعارف إلا إن دعاه للتشاور في بعض الشؤون، ولا يعرف من أندية القاهرة غير القهوة التي يَسمُر فيها مع بعض المفتشين بميدان الإسماعيلية في مساء كل خميس؟. . . تلك إلتفاتة نبيلة من الهلالي باشا أراد بها إعزاز اللغة العربية، ولعلها كرمٌ أضفاه الله على رجل يصلي ويصوم، في زمن جُهلت فيه آداب الصلاة والصيام عند بعض الكبار من الموظفين ، زاده الله فلاَحاً إلى فلاَح” .
تأييده لمعاهدة ١٩٣٦

يذكر لأحمد نجيب الهلالي باشا أنه كان من أنشط رجال الثقافة في تاييد معاهدة ١٩٣٦ والبناء عليها وهو الذي نظم سلسلة المحاضرات الت حملت عنوان ” واجبنا بعد المعاهدة” وكانت لجنة أسبوع المعاهدة قد تولت تنظيم محاضراتها التي تبحث فيما يجب أن يتجه إليه المجتمع المصري في عهده الجديد بادئة بمحاضرة للهلالي باشا و نفسه ومن المفيد لتاريخنا القومي والثقافي أن نسجل هنا الذين شاركوا معه في هذا البرنامج الذي كانت محاضراته على مدار ثلاثة أيام في الأسبوع في نهاية عام ١٩٣٦ وبداية عام ١٩٣٧:
السبت 5 ديسمبر
واجب الشباب بعد المعاهدة لسعادة أحمد نجيب الهلالي بك.
الاثنين 7 ديسمبر
فكرة عامة عن منشأ الحروب وواجبنا الحربي بعد المعاهدة لسعادة اللواء عزيز المصري باشا.
الخميس 11 ديسمبر
واجبنا الاجتماعي بعد المعاهدة لسعادة حسن نشأت باشا
السبت 19 ديسمبر
واجبنا الأدبي بعد المعاهدة للدكتور طه حسين بك
الاثنين 21ديسمبر
واجبنا نحو التعليم بعد المعاهدة للدكتور علي مصطفى مشرفة
الخميس 24 ديسمبر
واجبنا الصحي بعد المعاهدة للدكتور حامد محمود
السبت ٢٦ ديسمبر
واجبنا الزراعي بعد المعاهدة لحسين عنان بك
الاثنين 28 ديسمبر
واجبنا الرياضي بعد المعاهدة لصاحب السعادة محمد طاهر باشا
الخميس 31 ديسمبر
واجبنا القانوني بعد المعاهدة للدكتور عبد الرزاق السنهوري
الاثنين 4 يناير سنة 1937
واجبنا القومي بعد المعاهدة للأستاذ محمد توفيق دياب
الخميس 7 يناير
واجب الطلبة بعد المعاهدة للأديب فريد زعلوك
السبت ٩ يناير
واجبنا الصحفي بعد المعاهدة لأنطون الجميل بك
الاثنين 11 يناير
واجبنا نحو الفلاح بعد المعاهدة للآنسة ابنة الشاطئ
الخميس 14 يناير

واجب المرأة بعد المعاهدة) للسيدة استر فهمي ويصا.

وكانت هذه المحاضرات تلقى في قاعة يورت التذكارية . ومن الطريف أن نرى الدكتورة بنت الشاطئ التي كانت لا تزال طالبة في كلية الآداب وقد عوملت معاملة الباشوات الكبار والقدامى ، وهكذا كان طابع ذلك العهد الرائع .
ترشيحه لرئاسة الوزارة عقب حريق القاهرة
وصل أحمد نجيب الهلالي باشا إلى رئاسة الوزارة في أول مارس 1952، وروي كثيرون أنه كان مُرشح القصر الملكي لهذا المنصب عقب حريق القاهرة أي في 26 يناير 1952 وأنه هو وليس غيره الذي أشار بأن يأتي علي ماهر أولاً ثم يأتي هو.
بيد أني من مطالعة الوثائق والتقارير أوقن أنه لم يكن مرشح الملك فاروق وحده وانما كانت الحسابات الامريكية قد استقرت على تهيئة الظروف للاتيان به كمرحلة انتقالية تسبق ما حدث بعد ذلك مما كان مخططا له بعيدا عن إدراك المصريين من إتمام انقلاب من نوعية الانقلابات العسكرية الأمريكية الصنع التي بدات المنطقة تشهدها وتعاني منها .
نموذج الزعماء الذين تم تجهيزهم بالصناعة الأمريكية

قلت أكثر من مرة إن أحمد نجيب الهلالي باشا كان أبرز نموذج عربي غير مشهور للزعماء الصناعيين الذين تم تجهيزهم من خلال الصناعة الأمريكية في عصر صناعة الزعماء المحليين والإقليميين ، وهو العصر الذي سعت أمريكا إلى فرضه على دول العالم الثالث بعد انتصارها الساحق في الحرب العالمية الثانية ، حيث تشغل الجماهير عن طريق الإعلام بقضايا الفساد أو العلاقات العائلية المضطربة أو المرض عن قضايا الاستقلال والهوية و التنمية .
وصحيح أن الصناعة الأمريكية سرعان ما عدلت عن هذا العصر الذي كانت بدأته (باقتناع و دراسة ) إلى عصر تشجيع الطغاة العسكريين، وكان السبب في هذا التحول الأمريكي “ميكانيكا” صرفا في المقام الأول فقد كانت صناعة الزعماء على طريقة أحمد نجيب الهلالي باشا و تلامذة أحمد نجيب الهلالي باشا ستستغرق وقتا أطول بكثير من سرعة الدبابة في الوصول إلى الحكم ، والحصول على الأغلبية بتكميم الأفواه وترهيب أصحاب الرأي، ومحاربة الاتجاهات الوطنية و الإسلامية ، وبث اليأس في نفوس البسطاء من أن يكون لصوتهم أو رأيهم قيمة في صنع القرار السياسي.
في مصر كان أحمد نجيب الهلالي باشا قد وجد هذه الفرصة الأمريكية بمساعدة وزراء متقدمين من ذوي العلاقة بالأمريكيين ، و كان هؤلاء الوزراء من نوعين:
النوع الأول تكنوقراطي مع قليل من السياسة المظهرية ، يُمثله الدكتور محمد زكي عبد المتعال والدكتور أحمد حسين وهما في الوصف المستتر أمريكيان وفي الوصف العلني وفديان منشقان بسرعة عن الوفد من أجل أن يكونا كأحمد نجيب الهلالي باشا أو يساعدا أحمد نجيب الهلالي باشا كمرحلة في طريقهما إلى أن يكونا كأحمد نجيب الهلالي باشا
..

والنوع الثاني يُمثله رجال إدارة وسياسة متميزون اختاروا منذ البداية لأسباب طبقية أو عائلية أن يكونوا بعيدين عن تيار الأغلبية، وأبرز نموذج لهؤلاء هو وزير الداخلية القوي الجديد أحمد مرتضى المراغي باشا ابن الشيخ المراغي والذي بدأ حياته سكرتيرا لرئيس الوزراء محمد محمود باشا ، وهكذا كان عليه أن يسير للنهاية في خط مختلف عن تيار الأغلبية إن لم يكن معادياً لهذا التيار.
بهذين النوعين من الساسة كان يُمكن للهلالي باشا أن يحكم، والأحرى أن تقول إنه كان “لا يمكن له أن يحكم” ، ذلك أن السياسة أوسع من أن يتناولها ويستفرقها هذا الطراز أو ذاك من الساسة محدودي الأفق والشعبية والقدرة إذا ما قورنوا بمن كانوا موجودين من الوفديين من طراز فؤاد سراج الدين باشا .
وعلى سبيل المثال فقد كان في وسع الدكتور محمد زكي عبد المتعال باعتباره وزيراً وفديا عاملا وذا سلطة أن يبدأ موجة من التحرش بمنافسه الأعظم السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة باعتبار السنهوري وزيراً سعديا سابقاً لكن مثل هذا التحرش لم يكن قابلاً للكثير من الاستمرار في عهد تولي الوفد الحكم ، وإنما كان ممكنا من خلال كيان أقلية من قبيل وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا ، ذلك أن حكم الأغلبية قادر على تصحيح الأخطاء بسرعة ، وهو ما كان قد حدث بالفعل بإقالة زكي عبد المتعال باشا من وزارة الوفد .
وهكذا كان أحمد نجيب الهلالي باشا يبحث في جدية و بصعوبة عمن يعاونه من المستقلين حتى إنه لجأ إلى صديق قديم له كان من أنصار مكرم عبيد باشا الذين صعد بهم مكرم عبيد إلى الوزارة عقب خروج الوفد من الحكم في أكتوبر 1944 وهو طه السباعي باشا، وفي يوليو ١٩٥٢ حين أسفرت حسابات الدكتور احمد حسين عن أن الأفضل له ألا يدخل الوزارة مع أحمد نجيب الهلالي باشا فقد دخلها والد زوجة الدكتور احمد حسين وهو الدكتور سيد شكري.
لماذا وقع اختيار الأمريكان على الهلالي باشا ؟
كان الهلالي باشا وهو الرجل العظيم في مواهبه ، والضعيف في توجهه أنسب من يقوم بهذا الدور الهادم للوفد و الحركة الوطنية أو المحاول لهدم الوفد بعد إصرار الوفد على قيادة المقاومة الشعبية في القنال و ما قد تتطور إليه من حرب متوقعة مع الكيان الصهيوني ، وكان هذا الاختيار المدروس قد تم بناء على معطيات تاريخ الهلالي باشا نفسه الذي ارتبط بالانشقاقات الحادة التي صادفت الوفد منذ ظهوره هو نفسه في الصورة في ١٩٣٤ .
فقد شهد عهده كوزير للمعارف انشقاق الأستاذ العقاد بسبب خلافاته معه وهي خلافات لم تكن كافية في ظاهرها لأن يغضب الأستاذ العقاد على نحو ما غضب لكننا و نحن نرى ما آلت إليه الأمور فيما بعد عشرين عاما نفهم أن العقاد كان محقا و معذورا وثاقب النظر ، وربما لو أنه وهو والنحاس باشا أعطيا آذانهما لبعضهما لفهما ما كان ينتظر الحركة الوطنية من عنت على يد الهلالي باشا .
ومن العجيب أنه لما حدث انشقاق النقراشى وماهر في ١٩٣٧ سارع الهلالي باشا إلى اعلان انضمامه للوفد مصحوبا بالحديث عن أن مامنعه من الانضمام في الماضي كان هو كرهه لأحمد ماهرباشا والنقراشي باشا ، ثم يأتي العجب العجاب حين يخرج مكرم عبيد على الوفد فيكون الهلالي باشا هو سلاح الوفد في الفتك البياني و البلاغي بمكرم عبيد .
وحين يكون المنطق أن ينضم الهلالي لوزارة الوفد الأخيرة وزيرا للمعارف في موضعه الطبيعي فإنه يعتذر بلا مبرر ظاهر مع أنه شارك في وضع برنامج الوزارة المعروف بخطاب العرش ، ولا يمكن لأحد أن يفهم اعتذاره عن الاشتراك إلا في ضوء السر الذي عرف بعد ذلك وهو أنه كان مطلوبا منه ألا يشارك حتي يرتب لنفسه منصة موازية للقفز بعد ذلك إلى رئاسة الوزارة ، وهو ما حدث بالفعل مع تقديم من يحبونه لمبررات واهية من قبيل أنه كان يرى أن شخصه يستحق التقديم على فؤاد سراج الدين باشا ، على سبيل المثال ، وهو ما لم يطلبه من هم أقدم منه من قبيل عثمان محرم باشا ، لكنها طبيعة من ينتوون الانشقاق والخروج على الصف .
عمر وزارته الثانية و الأخيرة

نأتي إلى ما استقر في أذهان الكثيرين أن وزارة نجيب الهلالي الثانية التي سبقت ثورة 1952 مباشرة لم تستمر إلا أقل من يومين، أو يوماً واحداً فقط أو ساعات لم تصل إلى يوم كامل ، وكل هذا صواب في صواب ، تبعا للاختلاف في زاوية الرصد والحساب ، ذلك أن هذه الوزارة حلفت اليمين في مساء 22 يوليو 1952 واندلعت الثورة في مُنتصف ليلة 23 يوليو 1952 بينما استمرت الوزارة بقوة القصور الذاتي حتى 24 يوليو 1952 ، وهكذا فإن كثيراً من وزرائها لم يدخلوا مكاتبهم الاصلية وإن كانوا قد حلفوا اليمين، ولهذا دخلوا في عداد الوزرء وترتيبهم وعلى كل الأحوال فقد كان في الوزارة من تولوها بالفعل وإن كان فيها من اقتصر توليهم الوزارة على هذا اليوم أو هذين اليومين أو هذه الساعات وهم على كل حال خمسة وزراء كان منهم الدكتور سيد شكري .
كل هذا صحيح ، وبهذا يُمكن القول بأن وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا هي أقصر وزارات سنة 1952 عمراً ، لكن المعلومة لا تكتمل ولا تصح إلا إذا تذكرنا وذكرنا أيضا أن وزارة نجيب الهلالي باشا الأولى عاشت أربع شهور ما بين أول مارس وأول يوليو 1952 وبهذا فإنه صاحب أكثر وزارات سنة 1952 عمراً.
ربما يكون الاستطراد هنا مفيداً لذكر أعمار الوزارات التي تعاقبت على حكم مصر في سنة 1952
1ـ بدأ عام 1952 ووزارة الوفد المتشكلة في يناير 1950 في الحكم وقد استغرقت من عام 1952 مدة خمسة وعشرين يوما حتى حدث حريق القاهرة الذي تُشير مُعظم المعلومات المتاحة إلى أن هدفه كان هو اسقاط هذه الوزارة الوفدية.
2ـ استمرت وزارة علي ماهر باشا الثالثة خمسة أسابيع كاملة ما بين 26 يناير 1952 وأول مارس 1952.
3 ـ استمرت وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا الأولى أربعة شهور كاملة كما ذكرنا
4ـ استمرت وزارة حسين سري باشا الخامسة والأخيرة ثلاثة أسابيع كاملة
5ـ استمرت وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا الثانية يومين
6 ـ استمرت وزارة علي ماهر الرابعة 47 يوما أي أقل من سبعة أسابيع.
7ـ استغرقت وزارة الرئيس محمد نجيب الأولى ما بقي من 1952 بعد 9 سبتمبر أي ثلاثة شهور وثلاثة أسابيع فضلاً عما استغرقته بعد ذلك من عام 1953 حتى إعلان الجمهورية .
نال أحمد نجيب الهلالي الباشوية في ١٢ مايو ١٩٤٢ مع عبد الفتاح الطويل باشا و فؤاد سراج الدين باشا
كيف كون الهلالي باشا وزارته الأولى

ضمت وزارته الأولى من وزراء الوزارة السابقة عليه مباشرة (وهي وزارة علي ماهر باشا التي أعقبت حريق القاهرة) كلاً من :
أحمد مرتضى المراغي باشا وزير الداخلية والحربية والبحرية وكان أول عهده بالوزارة في وزارة علي ماهر ومحمد زكي عبد المتعال باشا الذي كان قد أصبح وزيراً للمالية في وزارة الوفد الأخيرة، ثم أخرجه الوفد من الوزارة فلما شكّل علي ماهر باشا وزارته انضم إليها واستمر أيضا في وزارة أحمد نجيب الهلالي، وقد أشرنا إلى السبب في هذا عند حديثنا عن طبيعة شخصية الهلالي باشا كرئيس للوزراء، ومن كان يمكن له أن يستعين بهم. ومحمد عبد الخالق حسونة باشا ليكون وزيراً للخارجية (وكان يتولى وزارة المعارف في وزارة علي ماهر السابقة كما كان قد تولى الشئون الاجتماعية قبل ذلك).
وقد اختار أحمد نجيب الهلالي باشا لموقع الوزير القبطي زميله القديم في قضايا الحكومة صليب سامي باشا الذي كان عضوا في وزارة على ماهر السابقة وزيرا للزراعة ثم وزيرا للمواصلات ، ومن الطريف أنه كان قد وصل إلى المنصب الوزاري قبل الهلالي باشا نفسه بعام (في وزارة صدقي باشا) وقد تولى في وزارة الهلالي الأولى وزارتي التجارة والصناعة (التي كان الهلالي باشا نفسه أول وزير لها عند تأسيسها في 1934) والتموين.
وبهذا يكون أحمد نجيب الهلالي باشا قد احتفظ من وزارة على ماهر المستقيلة لتوها بأربعة وزراء يشغلون أهم الوزارات.
و اختار أحمد نجيب الهلالي باشا من الوزراء القدامى التقليديين الدكتور محمد كامل مرسي باشا ليكون وزيراً للعدل (وكان قد تولاها من قبل في وزارة صدقي باشا في ١٩٤٦ وفي وزارة سري الرابعة 194٩) ومن الطريف أنه يسبق الهلالي باشا في التخرج بعامين حيث تخرّج 1910 من مدرسة الحقوق.
ومن وزراء حزب مكرم عبيد الذي كان قد تضاءل حتى اختفى ، اختار الهلالي باشا طه السباعي باشا ليكون وزيراً للشئون البلدية والقروية ، وسرعان ما حدثت مشكلة عابرة بسبب اختياره، ذلك أنه كان من الذين وقعوا “عريضة المعارضة” التي وقعها بعض الوزراء السابقين يتقدمهم إبراهيم عبد الهادي والدكتور محمد حسين هيكل (رئيسا حزبي السعديين والأحرار الدستوريين) وكان الملك فاروق فيما تصوره الروايات الفلكلورية قد وضع أسماء هؤلاء الموقعين في محفظته حتى لا يسمح بتكريم أحد منهم، ولا بدخوله الوزارة على سبيل المثال، وقد بذل الهلالي باشا جهوده لاسترضاء الملك حتى قبل بدخول طه السباعي الوزارة.
أما الوزراء الجدد الذين ارتبط توليهم الوزارة بالهلالي باشا فكانوا هم :
محمد رفعت باشا المؤرخ وزير المعارف، وكانت علاقته الوظيفية بالهلالي ممتدة من أيام عمل الهلالي في وزارة المعارف سكرتيراً عاما ثم وزيراً
وطراف عليّ باشا وزير المواصلات الذي كان مديراً عاماً للسكة الحديدية والباشا القديم الذي كان قد نال الباشوية قبل الهلالي باشا نفسه فقد نالها عند الاحتفال بعيد ميلاد الملك في 11 فبراير 1941 أي في نفس اليوم الذي نالها فيه وزيران مخضرمان كانا وقتها وزراء في وزارة حسين سري باشا وهما أحمد عبد الغفار باشا وزير الزراعة (الدستوري) وعبد المجيد إبراهيم صالح وزير المواصلات (الدستوري)
وراضي أبو سيف راضي وزير الشئون الاجتماعية والصحة العمومية
ومحمد المفتي الجزايرلي وزير الأوقاف والذي كان قد وصل إلى منصب رئيس محكمة الاستئناف ونال الباشوية في أكتوبر 1949
محمود عثمان غزالي باشا الذي عين وزيراً للزراعة وكان هو مدير الأمن العام ومحافظ القاهرة والذي كان قد نال الباشوية في نهاية ديسمبر 1951 .
محمد فريد زغلوك الذي يُعد أول وزير للإعلام وقد سُمّيت وزارته يومها اسما طريفاً وصريحاً حيث سمى وزير دولة للدعاية.
نجيب إبراهيم باشا للأشغال العمومية
كيف كون الهلالي باشا وزارته الثانية
تختلف وزارة الهلالي باشا الثانية عن وزارته الأولى في تكوينها عدة اختلافات كاشفة عن تطور الحياة السياسية في ثلاثة أسابيع فقط ، وعن أثر الأحداث والمعارك السياسية في البنية و النخبة الحاكمة خلال فترة ثلاثة أسابيع فقط هي الفارق بين نهاية عهد وزارته الأولى وبداية عهد ووزارته الثانية.
صحيح أن بعض الوزراء بقوا في مواقعهم:
محمد زكي عبد المتعال باشا (في المالية)
محمد عبد الخالق حسونة باشا (في الخارجية)
محمد كامل مرسي باشا (في العدل)
محمد رفعت باشا (في المعارف)
طراف علي باشا (في المواصلات)
محمد المفتي الجزايرلي باشا (في الأوقاف)
وصحيح أن وزيرين بقيا في الموقع الأهم و تركا الوزارة الإضافية فقد كانا يتوليان أكثر من وزارة فبقوا بوزارة واحدة، وحل وزراء جُدد في الوزارات التي تركوها
فقد كان أحمد مرتضى المراغي باشا وزيراً للداخلية والحربية والبحرية فاحتفظ بالداخلية بينما دخل إسماعيل شيرين وزيراً للحربية والبحرية وكان هذا أول عهده بدخول الوزارة.
كان راضي أبو سيف راضي وزيراً للشئون الاجتماعية والصحة العمومية فاحتفظ بالشئون العمومية فقط ودخل الدكتور سيد شكري وزيراً للصحة.
لكن تغييرات أخرى حدثت ، فقدحدثت تنقلات يمكن تفصيلها:
كان صليب سامي باشا وزيراً للتجارة والصناعة والتموين فحلّ محله وزيران كانا موجودين في مواقع أخرى من الوزارة فأصبح وزير الدعاية محمد فريد زعلوك وزيراً للتجارة والصناعة و أصبح وزير الشئون البلدية طه السباعي باشا وزيراً للتموين
حل وزير جديد للشئون البلدية والقروية هو مريت غالي باشا محل طه السباعي باشا الذي حلّ مكان صليب سامي باشا في التموين
أما الإحلالات المتساوية الطرفين فكانت في موقعين فقط :
حل وزير جديد للأشغال هو يوسف سعد بك محل وزير الاشغال في وزارته الأولى نجيب إبراهيم باشا
وحل وزير جديد للزراعة هو حسين كامل الشيشيني باشا محل وزير الزراعة في وزارته الأولى محمود عثمان غزالي.
الوزراء الجدد في وزارته الثانية
وبهذا فإن الوزراء الخمسة الجدد الذين كان أول عهدهم هو وزارة أحمد نجيب الهلالي الثانية هم إسماعيل شريف، ويوسف سعد بك، وسيد شكري بك وحسين كامل الشيشيني باشا، ومريت غالي بك.
ومن الطريف أنه لم يستمر معه من وزارته الأولى: صليب سامي ولهذا قصة طريفة تنبئ عن حكمة صليب سامي وحرصه على نصح الهلالي باشا، ومحمود عثمان غزالي ، ونجيب إبراهيم كما اختفى مُسمى وزارة الدولة للدعاية.
إهمال ثورة يوليو له

ننطلق إلى مكانة أحمد نجيب الهلالي باشا في كتابات المنتمين لثورة 1952 فنجد حرصا مفتعلا ذات مرة عند بعض الصحفيين المرتبطين بالرئيس عبد الناصر على إثبات مساعدة الهلالي لثورة يوليو وتقديرالثورة له وهو معنى بلا دلالة ولا دليل .
ومن الجدير بالذكر أن ثورة 1952 على وجه العموم لم تكلف خاطرها أي نوع من أنواع الترضية أو التكريم للهلالي باشا ، رغم ما كان يتمتع به من قدرة على أن يحارب الوفد لحسابها، و قد أشرنا إلى جهده المحموم في هذا الميدان قبل قيام الثورة ، لكن الضباط الشبان رأوا ( بحكم ما كانوا يتلقونه من نصح خفي و غير وطني بالطبع ) أن يهدموا الوفد بطريقتهم هم ، وبحساباتهم هم ، وبإهاناتهم العسكرية لا القانونية.
وقد أشرنا إلى أن أغلب الناس لا يكاد يعرف أن آلية التطهير وقانون الغدر ومحاكمات الغدر التي استخدمتها الثورة مع السياسيين السابقين على نطاق واسع بدأت قبل الثورة على يد أحمد نجيب الهلالي باشا وهو رئيس الوزراء لكن حركة 23 يوليو 1952 حين مضت في ممارسة التطهير تعمدت ألا تذكر جهد الهلالي باشا باشا بكلمة شكر واحدة ، فلم تتذكر أي دور له ، ولم تُشد بفضله ولا بفكرته.
وهذا بالطبع مفهوم في ظل ثورة كانت حريصة على أن تتباهى بإذلال كلّ الساسة الذين سبقوها بما فيهم الهلالي باشا نفسه بالطبع .
وهكذا عاش هذا السياسي الكبير في سجن الكمد (بدون سجن ) طيلة 6 سنوات حتى توفي في 1958.
تاريخيا نية فكرة التطهير

ترعرعت فكرة التطهير في ذهن الهلالي باشا من موقف نقيض تماماً للفكرة ، ذلك أن الهلالي باشا كان هو الرجل الذي عهد إليه الوفد بالتصدي لمكرم عبيد بعد نشره الكتاب الأسود ، وقد تصدى الهلالي لمكرم عبيد بكفاءة واقتدار ، وقد رفعت هذه النجاحات الجدلية والمنطقية من مكانة اسم الهلالي في الأوساط الأدبية والثقافية التي اكتشفت فيه أسلوبه وقدراته البيانية التي كانت تتفوق على قدرات مكرم عبيد الميالة إلى التقعر والتكلف بأكثر من ميلها إلى البيان والتعبير فضلاً عن أن الهلالي كان يُمارس قدراته من دون الضجيج المستفز الذي كان يصنعه مكرم عبيد ، بيد أن الهلالي في الوقت نفسه وجد طريقة مكرم عبيد في تجريح الوفد مثلاً يحتذيه على طريقته هو التي وصفتها من قبل بأنها كانت تقفز على فكرة الكتاب الأسود إلى فكرة القرار الأبيض أو قرار التطهير.
ومن العجيب أن الزمن لم يُسعف الهلالي باشا بالوقت الذي أنصف به مكرم عبيد باشا، كما أن التاريخ بمساره لم يُسعف الهلالي باشا بتلاميذ مفتونين به على نحو ما كان جلال الدين الحمامصي وأحمد قاسم جودة و خالد محمد خالد وأضرابهم مفتونين بمكرم عبيد باشا ولغة مكرم عبيد باشا وخطابة مكرم عبيد باشا وافتراءات مكرم باشا.
إحسان عبد القدوس ينقض نظريته في نزاهة الحكم باقتدار

على أن هذا الضجيج الهلالي كله لم يكن ليمُرَّ بدون تقييم قاس ونقد حاد بل وسخرية مستفزة، وفي هذا المقام أستطيع أن أدعو القارئ إلى قراءة المقال الرائع الذي كتبه الأستاذ إحسان عبد القدوس وجعل عنوانه في منتهى الثقة والوضوح مُعبراً عن فهم سياسي عميق لا يتأثر بفكرة لامعة ولا يتوقف عند شعار جميل وإنما ينفذ إلى الجوهر الحقيقي لتقييم الأشياء. فقد كتب الأستاذ إحسان عبد القدوس مقالا في مجلة روز اليوسف في يونيو 1952 بعنوان “خير لمصر أن يديرها رجل..يسرق النصف ويعطيها النصف”، يعلق فيه على سياسة التقشف التي دعا اليها رئيس الحكومة في ذلك الوقت أحمد نجيب الهلالي باشا ووزير ماليته زكي عبد المتعال باشا .
يقول الأستاذ إحسان عبد القدوس في مقاله :
” إن كل ما بدا في اليوم من أمارات التقشف، هو وقف التعيينات الجديدة، ووقف المشاريع الإنتاجية، ووقف النشاط الاقتصادي…حتى أصبحت مصر بلدا واقفا لا يدور مع الأيام ولا يتقدم إلى الأمام، وأصبح مصر بلدا لا يعتبره العالم ميتا فيترحموا عليه، ولا يعتبرونه حيا فيتعاملوا معه”.
وتساءل الأستاذ إحسان عبد القدوس بصوت عال عمن يتبع سياسة التقشف : هل هم الأغنياء أم الفقراء، فيقول إن أحدا لم يأخذ على الطبقة الشعبية في مصر إسرافا، ولم يكن الموظف أو العامل في يوم من الأيام مسرفا، لأنه لا يستطيع، وإنما كانت شكوى الإسراف محصورة في طبقة معينة من المصريين”.
ثم وصف الأستاذ إحسان عبد القدوس هذه الطبقة بقوله :
“هل جمع دولته عدد الكروش المنتفخة وعدد الخزائن المثقلة، وعدد الصدور التي تلمع فوقها قطع الألماس ليفرض عليها رجيم التقشف؟”.
وتعجب الأستاذ إحسان عبد القدوس أن بلدا فقيرا كمصر استورد في عام واحد بما قيمته 18.5 مليون جنيه (بأسعار ذلك الوقت) جواهر ولآلى ومعادن ثمينة، وتستورد مصر بما قيمته مليونان من الجنيهات خمور؟! وسيارات جديدة قيمتها ثلاثة ملايين من الجنيهات ومصنوعات خزفية قيمتها ثلاثة ملايين والنصف مليون جنيه، ولا تقل نفقات تصييف العظماء في الخارج عن خمسة ملايين جنيه سنويا.
“هل أعدت حكومة التقشف مشروعا تمتص به هذه الاموال الزائدة عن حاجة أصحابها لتضعها في مشاريع نافعة، تنقذ العامل من البطالة، وترحم الفلاح من الفقر، وتريح الموظف من العنت؟”.
مرتضى المراغي باشا يشير إلى أن الأمريكيين كانوا يترقبون فعل الملك فاروق للتخلص منه

كان مرتضي المراغي باشا في عصره أسيرا للفكرة القائلة بسيادة طهارة الأمريكيين ، و حرصهم على نزاهة رجال الحكم ، و ذلك من دون أن يدري أن هذه السياسة الظاهرة كانت جزءا من مسلكهم السياسي وسياستهم الأعمق التي كانت تجيد البحث عن أسباب و مبررات إعلامية تساعدهم في تنفيذ سياساتهم الرامية الى التخلص من أية زعامة لا تتوافق مع رغباتهم في حماية الكيان الصهيوني و فرض سطوة الاستعمار الجديد .
و من هذا المنظور الضيق و الطيب فقد تحدث المراغي باشا في مذكراته عن صدى استقالة الهلالي أو إقالته عند الأمريكيين بما ينقله عن صحيفة بريطانية ثم هو أي المراغي لا يجد حرجا في أن يجاهربأن هذه الخطوة( أي إقالة الهلالي) من جانب الملك فاروق كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في ثقة الأمريكيين بالملك ، و يمكن لنا الآن بسهولة شديدة و بحكم ما تعلمناه من الزمن أن نقرأ ما يرويه المراغي بمنظور منضبط لا يبرئ الهلالي و المراغي من أن يكونا من حيث لم يعرفا أومن حيث دريا أو شعرا جزءا من المخطط الأمريكي .
“والغريب أن سر استقالة هذه الوزارة لم يكن خافيا، فقد ذكرت جريدة التايمز البريطانية أن الاستقالة جاءت نتيجة لمؤامرة دبرها للهلالى باشا بعض رجال الاقتصاد بالاشتراك مع بعض رجال القصر الملكى”.
………………………………
” و جاءت الضربة القاضية التي انهارت معها آمال الأمريكان في الملك فاروق حين أخرج وزارة الهلالي نظير مبلغ مائتي ألف جنيه قدمها المالي المعروف أحمد عبود ليتخلص من الضرائب التي كانت تطالبه بها وزارة الهلالي”
” وحين علم السفير الأمريكي بإخراج الهلالي وتعيين حسين سرى بدلا منه وفقا لمخطط عبود أخذ يصيح قائلا: لا فائدة.. لا فائدة من هذا الملك، فليذهب إلى الجحيم”
رواية المراغي باشا عن دور عبود باشا في بيع وزارة الهلالي
تتضمن مذكرات أحمد مرتضى المراغي التي تدارسناها في كتابنا على مشارف الثورة تفصيلات كثيرة عن القصة التي روجت كثيرا في بداية عهد ١٩٥٢ والتي تؤكد على أن إقالة الملك فاروق لوزارة الهلالي باشا تمت نظير مبلغ محدد من المال دفعه عبود باشا للملك أو لحاشيته ، ومع أن كثيرا من الشائعات تذكر أن المبلغ كان مليون جنيه، فإن المراغي باشا حدد الرقم بمائتي ألف جنيه فقط.
ومن العجيب أن أحمد مرتضى المراغي باشا يروى أن عبود نفسه فكر أن يستعين بالإنجليز في هذه الجزئية لكنه عدل عن هذه الفكرة لأنه كان يعرف أن الإنجليز لن يساعدوه فيها، وهكذا يوحى لنا المراغي بفكرة أن الإنجليز كانوا أكثر حرصا على النظام الداخلي لمصر من حاشية الملك نفسه.
كذلك فإن رواية أحمد مرتضى المراغي باشا تحصر بالأسماء الدور الذى لعبه إلياس أندراوس المستشار الاقتصادي للملك في إتمام الصفقة ، على أن حلقات المذكرات المنشورة في مجلة أكتوبر وقعت في خطأ لست أدرى السبب فيه ، وهو أنها تذكر اسم عدلي اندراوس بدلا من إلياس اندراوس وشتان بين الرجلين ، وقد اضطررت إلى تدارك هذا الخطأ فيما أنقل من نصوص بطريقة شبه عملية وشبه علمية حيث ذكرت الاسم باللقب فقط وحذفت كلمة ( عدلي ) التي وردت في المذكرات .
وربما يندهش القارئ من سلوك الملك الذى وصل إلى هذا الدرك.. كما يندهش بالطبع من سلوك عبود الذى بلغ به الاستهتار بنظام الدولة هذا الحد مع أن هذه الدولة تمثل مجال نشاطه وصناعته وتجارته وهو رجل اقتصاد كبير من المفترض أنه يفهم عواقب ما فعله، وقد أرته الأيام عواقب هذا بالفعل بعد فترة قصيرة جدا.. لكن المثير للتساؤل اليوم وقد مضى نصف قرن تقريبا على هذه الواقعة هو إلى أي حد كان الهلالي موفقا في ترك الأمور المناهضة له أو الهادمة لعمله تصل إلى هذا الحد؟ هل فكان غير قادر على إقناع الملك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن بقاءه يستأهل ما هو أكثر من مائتي ألف جنيه؟ ربما يقودنا هذا بالطبع إلى التفكير في أن الملك كان يفكر بالفعل في التخلص من الهلالي، فلما جاءه هذا العرض لم يمانع في أن يظهر أن العرض ثمن للقرار بينما هو كان على وشك أن يتخذ القرار حتى بدون هذا العرض السخيف والمقابل الضئيل.
لكن العجيب بعد هذا كله أن يعود أحمد نجيب الهلالي باشا نفسه بعد ثلاثة أسابيع فقط وبالتحديد في 22 يوليو 1952 ويتقبل تكليف الملك له برئاسة الوزارة ، ونحن لا ندينه تماما في هذا الموقف ، فلربما كان الهلالي قد قبل رئاسة الوزارة لينتقم من الملك و حاشيته وعبود وغيرهم .. بيد أن حركة الثورة قامت بعد يوم واحد ولم يعد في أيدينا أن نعرف حقيقة موقف الهلالي في ذلك اليوم الذى قبل فيه منصبا أقيل منه منذ ثلاثة أسابيع مقابل مبلغ صغير أو كبير من المال.
بقيت نقطة مهمة قبل أن نقرأ نصوص المراغي عن إقالة وزارة الهلالي استجابة لرغبة عبود وللثمن الذى دفعه، وهى نقطة في غاية الأهمية، ذلك أن كل المذكرات تتحدث بصراحة واضحة عن إجراءات استثنائية اتخذها وزراء مسئولون من أجل التغلب على جبروت عبود باشا بمحاولاته المستمرة استغلال سطوته الاقتصادية في فرض قرارات تصب في مصلحته على حساب سياسات الدولة الاقتصادية، ونحن نرى الوزير المخضرم صليب سامى وهو ينذر شركته مرة وراء أخرى ، كما نرى الوزير الجديد عبد الرحمن الرافعي يفعل نفس الشيء، ونرى الوزير الوفدي إبراهيم فرج يشير إلى نفس التوجه وقد تبناه الوفد رغم ما هو متواتر عن صداقة عبود للوفد بل إن الأمر وصل بعبد الحميد عبد الحق باشا إلى أن يهدد عبود باشا بالحبس ، ولا يجوز لنا من باب الإنصاف أن نترك الأمر يبدو وكأن الذنب ذنب عبود باشا وحده فقد كان هناك كثير من التقصير الحكومي .
وعلى كل الأحوال فلنقرأ رواية المراغي باشا :
“كان أحمد عبود يملك شركة السكر، وشركة الأسمنت وشركة الفوسفات وشركة البواخر، وقيل إن مجموع ثروته حوالى المائة مليون جنيه، أى أن دخله السنوى يبلغ على الأقل عشرة ملايين جنيه، بينما دخل الفلاح هو ثلاثون جنيها في السنة، ومع كل هذا فإن أحمد عبود لم يكن يدفع الضرائب المستحقة عليه للخزانة. ولماذا؟ لأن بعض رؤساء الوزارات وأغلب وزراء الخزانة (يقصد :المالية ) كانوا أعضاء في مجالس إدارات شركاته”.
ويصل المراغي بسرعة إلى ذروة المعركة حول بقاء الوزارة التي كان هو نفسه ركنا مهما فيها:
“وجاءت وزارة الهلالي في أوائل مارس 1952 تحمل علم التطهير، تريد أن تطهر الإدارة من الفساد، وأن تصدر قانون من أين لك هذا، وأن تجعل كل شىء يسير على مايرام، كان الهلالي أمينا ونزيها، لكنه كان يحمل لحزب الوفد كراهية شديدة، لأنه كان عضوا فيه وانفصل عنه، ولم يكن للهلالى حزب يستند إليه، وكانت كل قوته هى السراى، ولكن التطهير إذا دخل السراى خرج كل مَنْ يقيم فيها لا من الأبواب بل من النوافذ”.
“وقبل الملك برنامج الهلالي على أن يبدأ بالوفد وبالحكومة، أما إذا حاول الاقتراب من القصر، فعندئذ لكل مقام مقال”.
“وبدأت يد الهلالي تمتد إلى أكبر صديق للوفد وللإنجليز معا وهو أحمد عبود، ولم يكن أحد من أعضاء وزارة الهلالي قد دخل مجالس شركات عبود، وقلبت دفاتر عبود، فوجد أنه ماطل الخزانة في خمسة ملايين جنيه ضرائب”.
“وأنشب وزير الخزانة أظافره في عنق عبود وطالبه بها، وأرسل إليه إنذارا على يد محضر بالدفع وإلا اتخذت إجراءات الحجز على إمبراطوريته الواسعة”.
“وأخذ عبود يبحث عن مخلص، فكر في الإنجليز، لكنه عدل لأنه يعلم أن الإنجليز لن يساعدوه، فكر في أن يأتى بمحامين مقتدرين يقيمون الإشكال تلو الإشكال، عسى أن يمضى وقت طويل تذهب معه حكومة الهلالي، ولكن الحكومة أخذت تضيق عليه الخناق، وكاد أن يصدر الأمر بالحجز على شركاته وأمواله سدادا للضرائب المتأخرة، وهداه تفكيره إلى من؟ إلى .. أندراوس.كان.. أندراوس موظفا بسيطا في شركة نسيج تسمى شركة البيضا التي كان يملك أغلب أسهمها الإنجليز، وكان لا يحمل إلا شهادة الدراسة الابتدائية، وتدرج إلى أن أصبح مديرا عاما لها، وجاءت الحرب فأثرى ثراء فاحشا، واتصل بحاشية الملك، وعرض على الملك أن يسهم في الشركة وباع له حصة كبيرة من الأسهم، وارتفعت قيمة الأسهم وكسب الملك مكسبا كبيرا، وكافأه الملك بتعيينه مستشارا اقتصاديا له، وأنعم عليه برتبة الباشوية”.
“توجه عبود إلى أندراوس متوسلا أن ينقذه من الهلالي، واعتذر أندراوس، لكن عبود قال له: ما عليك، تكلم معه (أى مع الملك)، قل له إنى مستعد لبذل كل شىء”.
حوار المراغي باشا مع اندراوس عن شخصية الهلالي باشا
وقد حاول المراغي في مذكراته أن يوضح جانباً آخر من صورة المؤامرات على وزارة أحمد نجيب الهلالي (الأولى) بما يضمن له هو نفسه الخروج تماما من دائرة المتآمرين:
“.. وفي يوم من أواخر مايو كنت في مكتبى ودق جرس التليفون، وكان المتكلم.. أندراوس، قال لى إنه يود رؤيتى، وحددت له موعدا، وحضر في الموعد، وجلس وأخرج علبة جلدية فيها سيجار وعرض علىَّ سيجارا ضخما وأشعله، وبدأ ينقر غطاء المكتب الزجاجى بأصابعه وأنا أنظر إليه، ثم تأوه وقال:
“هل أنت مسرور مع الهلالي؟”.
“قلت له: نعم.
“قال: يا خسارة، إنه رجل حنبلى خالص.
“قلت: حنبلى لماذا؟.
“قال: يعنى لازم يخرب بيت عبود؟ هل تعلم أنه لو انخرب بيت عبود انهار الاقتصاد؟”.
“قلت: هل مبلغ خمسة ملايين جنيه يخرب بيت عبود، وثروته مائة مليون؟ إن هذه الملايين الخمسة هى نصف دخله السنوى”.
“قال أندراوس: ولكن الملايين الخمسة إذا دفعت مرة واحدة تقصم الظهر، وعلى كل حال مولانا أصبح يضيق بتصرفات التطهير، وغدا سيصل الموسى إلى.. ثم أشار إلى رقبته وضحك قائلا: ولكنكم تريدونها أن تصل إلى ما هو أعلى”.
“واستأذن وانصرف، وأسرعت أنا إلى الهلالي وأخبرته، فقال: وبماذا تنصح؟”.
“قلت: ترقب”.
“وبدأت معاكسات الملك، واستقال الهلالي يوم أول يوليو بعد أربعة أشهر، واشترى عبود الملايين الخمسة بمائتى ألف جنيه، وكانت ضربة مروعة من فاروق عجلت بالنهاية”.

رضوخ الهلالي باشا للملك في تعيين إسماعيل شيرين وزيرا للحربية ليلة الثورة

نعرف أن المراغي باشا ظل مستمرا في السلطة كوزير للداخلية منذ حريق القاهرة وحتى قامت الثورة ( وذلك باستثناء فترة حكم وزارة حسين سرى الأخيرة التي دامت ثلاثة أسابيع) ونظرا لعلاقته الطيبة بالهلالي باشا فإنه رشح وزيرا للداخلية والحربية في وزارة الهلالي الثانية على نحو ما كان منصبه بالفعل في وزارة الهلالي الأولى، لكن حدثت المفاجأة التي كانت في رأى بعض الذين عاصروا تلك الأحداث بمثابة الشرارة التي نبهت الضباط الأحرار إلى القيام بحركة الجيش.
ذلك أنه في اللحظات الأخيرة وفي أثناء مثول الوزراء في القاعة تمهيدا لحلفهم اليمين استدعى الملك رئيس وزرائه ليطلب إليه تولية زوج شقيقته إسماعيل شيرين وزارة الحربية، وعلى الرغم من رفض إسماعيل شيرين نفسه واعتذاره، وعلى الرغم من محاولة المراغي الاعتذار عن الاشتراك في الوزارة بعد هذا التغيير المفاجئ من الملك، فإن الأمور سارت في الطريق الذى نعرفه جميعا ببقاء الهلالي والمراغي وشيرين جميعا.
ويعزو المراغي قبوله لهذا الوضع إلى ضغط عاطفي من الهلالي الذى ترقرقت الدموع في عينيه، كما يعزو قبول الهلالي نفسه للوزارة بعد بيعه بمائتى ألف جنيه (على حد تعبيره) إلى رغبته في الانتقام ممن باعوه، بل وينسب المراغي إلى الهلالي عزمه تطهير القصر من كريم ثابت وبوللى وأندراوس:
” دعا الملك نجيب الهلالي يوم 21 يوليو لتشكيل الوزارة عقب استقالة وزارة حسين سرى، ودعانى الهلالي للدخول معه فقلت إنى اعتذرت عن دخول وزارة حسين سرى ومازلت مصرا على عدم الاشتراك في أية وزارة”.
“قال: إذا لم تدخل معى فإنى لن أشكل الوزارة”.
“قلت له: وما الفائدة؟ هل نسيت أنهم باعوك بمبلغ مائتى ألف جنيه؟”.
“قال: ولهذا جئت، سأعقد مجلس الوزراء بعد يومين وأطالب بتطهير القصر من كريم ثابت وبوللى وأندراوس وكل عناصر الفساد فيه، سيكون هذا الطلب قرارا من مجلس الوزراء، وسنرى كيف يكون وقعه”.
“قلت: إذا كان الأمر كذلك فإنى أقبل”.
“وفي الرابعة بعد الظهر ذهبت إلى قصر المنتزه في الإسكندرية لحلف اليمين، لتستقبلنى مفاجأة، دخلنا قاعة كبرى كل ما فيها أخضر: مقاعدها وستائرها وأبوابها، وحليت السقوف برسوم ذهبية وتدلت منها ثريات ضخمة، وكان دخولنا الساعة الرابعة إلا خمس دقائق، لأن الملك سيدخل الساعة الرابعة تماما وتبدأ بعد ذلك عملية حلف اليمين، ومرت الرابعة ولم يدخل الملك حتى دقت الساعة الربع بعد الرابعة، ورأى الوزراء رئيس الديوان يدخل ويتوجه إلى الهلالي ويهمس في أذنه ويقوم الهلالي ويسير متوجها مع رئيس الديوان إلى غرفة مكتب الملك، وظللنا نحن الوزراء ينظر كل منا إلى الآخر ولا نقول شيئا، وفي الساعة الخامسة دخل الهلالي القاعة وتوجه وجلس بجوارى، وتنهد”.
“قلت: خيرا”.
“قال: أنت تعرف أن مرسوم تعيينك وزيرا يتضمن أنك وزير داخلية وحربية”.
“قلت: نعم، أعلم ذلك”.
“قال الهلالي: لقد استدعانى الملك كما تعلم وطلب منى أن أصرف النظرعن تعيينك وزيرا للحربية اكتفاء بوزارة الداخلية”.
“قلت: ليس في ذلك من بأس، وكم كنت مرهقا من الجمع بينهما . ولكن لى سؤال: لقد علمت منك أنه قد وافق على المرسوم الذى قدمته إليه، فما الداعى لهذا التعديل الآن؟”.
“قال الهلالي: لأنه يريد تعيين زوج أخته إسماعيل شرين”.
“انتفضت واقفا وقلت : هل تعلم أن إسماعيل شرين برتبة يوزباشى احتياطى؟ فكيف يقفز إلى رتبة وزير؟ إذا كان الملك يريد ضابطا فعنده على الأقل مائة لواء، لماذا لم يعين حيدر أو حسين فريد أو محمد نجيب؟”.
“قال الهلالي: إنه مصر على تعيين إسماعيل شرين ، قلت: ألم أقل لك إنه لا فائدة، أرجوك أن تدعنى أنصرف، وأمسك الهلالي بيدى قائلا:
“أرجوك أن تبقى، ستكون فضيحة لو خرجت، لقد وعدته بقبول دخول إسماعيل شرين، هل تريد أن تفضحنى ، وكانت الدموع تترقرق في عينيه، فسكت، وأعتقد أن أكبر خطأ في حياتى ارتكبته هو قبولى لذلك الوضع، ولا أزال نادما عليه حتى الآن”.
“وفي السادسة مساء جاء إسماعيل شرين ليحلف معنا اليمين وهنا لابد أن أقرر حقيقة، وهى أنه حين عرضت عليه الوزارة اعتذر عن عدم قبولها، ولكن الملك أصر وأجبره على القبول. كنا مساء الاثنين 21 يوليو ، ولم نكن نعرف أن عمر هذه الوزارة لن يتجاوز 24 ساعة، وأن أحداثا خطيرة سوف تقع تغير تاريخ مصر”.
رأي إبراهيم فرج و رواياته عن صعود الهلالي وانشقاقه

ظل إبراهيم فرج باشا ينتقد السلوك السياسي للهلالي ، و يقرن هذا باحترامه لقدراته وذكائه، كما كان يعترف بأن الوفد أفاد منه في البداية إفادة كبيرة، وهو يشرح تاريخه السياسي في مراحله المختلفة فيقول:
“الهلالي باشا لم يكن وفديا في يوم من الأيام إلى ما قبل وزارة توفيق نسيم عام 1934 التي اختير وزيرا للمعارف فيها. وقبل هذا كان أقرب إلى خصوم الوفد ولم يكن الوفد ينجو من لسانه ونكاته اللاذعة كما كان يبلغنا. والهلالي باشا في غاية الذكاء. ولا أنكر كفايته الممتازة وعقليته الصافية حقا. سمع من توفيق نسيم ـ كما علمت ـ أن نجيب الهلالي هذا ينتظره مستقبل باهر، وأنه كفاية مصرية ممتازة. ويظهر أن هذه العبارات التي قيلت له من توفيق نسيم على سبيل المجاملة والتحية رسخت في ذهنه وأنشأت له طموحات واسعة.. فبدأ يتقرب إلى الوفد.. وفي الوقت نفسه كان الهلالي باشا خصما للنقراشي، ولم يكن يستريح له هو وأحمد ماهر باشا. ولما حدث الانشقاق في الوفد وخرج النقراشي وأحمد ماهر، ادعى أنه وفدى، وأن ما كان يحول بينه وبين الانضمام للوفد هو وجود النقراشي وأحمد ماهر، والآن خلا له الجو وانضم للوفد”.
……………………….
“ولما شكلت وزارة النحاس باشا في عام 1937 بعد تولى الملك فاروق سلطته الدستورية، اختاره النحاس وزيرا للمعارف وضمه لعضوية الوفد ـ وهو أعلى هيئة في الحزب ـ في التعديل الوزاري الذى أجرى في [نوفمبر1937] وكان كاتبا لامعا و وفديا ظاهر الحماس . والوفد في البداية كسب بانضمامه كسبا كبيرا. ومضت السنوات.. وكان الامتحان من 1937 ـ 1942 في صفوف الوفد قد أسفر عن نجاحه نجاحا كبيرا في خدمة الوفد والتقرب من رئيسه، وفي تقديم كل ما يمكن أن يقدم من رجل مثقف وواسع الكفاءة مثله، إلي أن جاءت سنة 1942 فاختير وزيرا للمعارف وكان له القدح المعلى في كل البيانات السياسية وفي الرد على التهم التي تناولها “الكتاب الأسود”، وكان أسلوبه الفكه يحبب فيه الناس”.
ثم يصور إبراهيم فرج باشا ذروة الصراع والأحداث التي يرى أنها باعدت بين الهلالي باشا والوفد، وسنجد الهلالي مدانا من وجهة نظر إبراهيم فرج باشا دون أن يلتمس له أي عذر حقيقي، أو حتى مصطنع :
“وفي عام 1949 بلغ النحاس باشا السبعين عاما، وللأسف بدأ التطلع إلى خلافته، وبدأت المطامع تلعب برأس نجيب الهلالي الذي يعتبر نفسه أكفأ شخصية في الوفد ـ في نظره ـ على الرغم من أن الوفد كان يضم في ذلك الحين أساطين في السياسة والقضاء والقانون وفي التجربة السياسية وفي الأقدمية. إنما بدأت تسكره الآمال والمطامع في خلافة النحاس باشا. وفي الوقت نفسه كان يرى أن الشقة بين النحاس والملك عميقة بعيدة، وأن النحاس سيصل في نهاية المطاف إلى أن يكتفي برئاسة مجلس النواب أو بشيء من هذا القبيل ويترك السبيل لغيره من أعضاء الوفد لكى يتولى الوزارة. وأخذ يعمل لهذا من وراء الستار ـ وهو ما انكشف فيما بعد ـ وجاءت وزارة الوفد عام 1950، فعرض عليه النحاس باشا الاشتراك في الوزارة فاعتذر، فعرض عليه أن يختار ما يشاء من الوزارات فأصر على الاعتذار، كما اعتذر أيضا عن قبول عضوية مجلس الشيوخ. وهو ما كان النحاس باشا ينوى عمله عندما تخلو بعض المقاعد”.
“وكان يحتج بأنه عندما أقيلت وزارة الوفد في 8 أكتوبر سنة 1944 أقسم يمينا خطيرة ـ يقصد يمين الطلاق ـ أنه لا يمكن أن يدخل سراي عابدين بأي صورة وبأي ثمن، ولو عين وزيرا أو عضوا في مجلس الشيوخ فسيكون من واجباته أن يقابل الملك ويسلم عليه، وقال إني أرفض أن سيارتي تطأ فناء قصر عابدين”.
تعرضه لفقدان الحرية وهو رئيس وزراء سابق وحرمانه من حقوقه السياسية
حدد مجلس قيادة الثورة إقامة أحمد نجيب الهلالي باشا لفترة قصيرة مع مجموعة أخرى من كبار ساسة البلد تحت دعوى تأمين الثورة (سبتمبر 1952) ثم أطلق سراحه وسُمح له باستئناف عمله في مكتبه للمحاماة.
ثم عاد مجلس قيادة الثورة وأدرج اسم أحمد نجيب الهلالي باشا ضمن أسماء الساسة المحرومين من ممارسة السياسة ، وقد حدث هذا من دون أن يُعني أصدقاؤه من رجال أمريكا و الأمريكيين برفع هذا الخطر عنه.
وإذا كان لنا أن نُرتّب أكثر الساسة المصريين الليبراليين الذين آذتهم ثقتهم في الأمريكيين فإن الهلالي باشا يأتي في الصف الأول منهم، ذلك أنه لم ينتفع على الإطلاق منهم على نحو ما انتفع معاصروه من الصحفيون أو أبناء ذلك الجيل من رجال الأعمال المغامرين.
مؤلفاته والمأثور عنه

لأحمد نجيب الهلالي باشا من المؤلفات «شرح القانون المدني في العقود».
عرف أحمد نجيب الهلالي باشا بتدخين السيجار وبالتأنق في ملبسه، كما عرف بالتأدب، وله أساليب وعبارات بلاغية مأثورة عنه ، وهو صاحب العبارة المشهورة التي تقول إن الوزير يفقد نصف عقله حين يتولى الوزارة والتي أتمها الشيخ أحمد حسن الباقوري بقوله : “ويفقد النصف الآخر عند خروجه من الوزارة “. ومن عباراته فيما يتعلق بالتعليم قوله “إن الديمقراطية لا يتحقق معناها الرفيع إلا إذا اعتمدت على أساس راسخ من التعليم الصحيح”؛ و وقوله : ” التعليم ضرورة من ضرورات الحياة للأمة، وليس شأنه في سنوات الشدة بأقل من شأنه في سنوات الرخاء؛ فعليه يتوقف مصير كل أمة ويتضح سبيلها وتحدد غايتها” … وهكذا .
وفاته

على الرغم من كل العنت و الإيذاء و التحقير والإهمال الذي لقيه في عهد ثورة ١٩٥٢ فإن هذا كله لم يؤثر في أحمد نجيب الهلالي باشا مقدار ما تأثر بوفاة زوجته، وهو ما يُثبته التاريخ من أنه توفى قبل أن يمضي شهر واحد على وفاتها. وقد توفي أحمد نجيب الهلالي باشا في ديسمبر ١٩٥٨ قبل سري باشا وعلى ماهر باشا اللذين توفيا في ١٩٦٠ وقبل النحاس باشا الذي توفي في ١٩٦٥ وقبل إبراهيم عبد الهادي باشا الذي توفي في ١٩٨١ ، أما بقية رؤساء وزراء عهد الملكية فكانوا قد فارقوا الحياة قبل قيام ثورة ١٩٥٢

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com