لست في حاجة إلى أن أؤكد القول بأني أحترم كل مظهريات العلاقات الاجتماعية التي تُقيمها السفارات الغربية مع الشخصيات النافذة في المجتمع والتي تظهر تجلياتها بوضوح على سبيل المثال في احتفال كل سفارة باليوم القومي للدولة التي تمثلها حيث تتبارى كثير من السفارات في إظهار التألق والنفوذ في هذه الاحتفاليات بما في ذلك أهمية وكثرة المدعوين إلى هذا الحفل للدلالة على مدى توطد العلاقة التي أسّستها هيئة السفارة والسلك الدبلوماسي العامل فيها بالمجتمع الذي تعيش فيه.
ونستطيع أن تقول إن مثل هذه العلاقات لها أصول وفصول وقواعد وروابط وبديهيات ورسميات وسموحات وممنوعات. ونستطيع أن تقول إن هذه العلاقات تبتدئ بصورة أكثر أناقة في القنصليات القائمة في غير العاصمة حيث تكون فرصة التجويد والصقل أفضل بكثير (حفلات الإسكندرية تفوق حفلات القاهرة أناقة وتألقا). في ظل ازدهار الحكم الشمولي وما يستتبعه من حساسيات في التعامل مع الآخر، أيا ما كان الآخر، تتغير هذه القاعدة إلى حد أن تصل إلى العكس، فيصبح السير على رصيف الشارع الذي تقع فيه السفارة بمثابة اتهام من قبيل القول عن مشتبه فيه سياسيا، إنه شوهد يمشي في طريقه إلى السفارة الأمريكية، وعائداً منها.
من الطريف أنه كانت هناك منافذ متنوعة لعلاقة السفارة الأمريكية على سبيل المثال بجيلنا من الباحثين العلميين والأطباء حين كنّا طُلاباً في الجامعة وما بعد الجامعة من الدراسات العليا، فقد كنا نتردد على المركز الثقافي الأمريكي ومكتبته الشهيرة في جارون سيتي ونستعير منها او نقرأ فيها ما لم يكن مُتاحاً في غيرها من مراجع الطب وعلومه الاكلينيكية، بل إن جيلنا (من أساتذة الطب المتقاعدين أو حديثي التقاعد) كله مرّ بلا استثناء على مكتبة “النمرو” التي كانت قائمة في وحدة الأبحاث الطبية التابعة للبحرية الأمريكية والتي كانت بمثابة أفضل مكتبة طبية محدثة في مصر، وكنا نحصل على تصريح دخولها والتصوير منها والاستنساخ باليد فيما قبل زمن الانترنت والإمكانات الميسرة، وكان هذا يقتضي مننا ومن زملائنا من الأقاليم الحضور قبل الفجر ليكونوا في المكتبة حين تفتح أبوابها..
بعد أن أوضحت بعض ظلال الصورة فإني أقاوم الاسترسال في حديث الذكريات التي من هذا النوع على الرغم من انها لا تقل أهمية عما أريد أن أتحدث عنه، ولهذا فإني أقطع الاسترسال لأروي للقارئ أنني فوجئت ذات صباح في صيف 2011 بهاتف من أحد الصحفيين اللامعين الذين تولوا رئاسة تحرير صحفهم المعارضة قبل ثورة 25 يناير وبعدها، وبعد الانقلاب كذلك، لكنه كان يثق بي وبأحكامي كما كنت أثق، رغم كل شيء، بقدرته على الفهم والفرز.
سألني مباشرة وهو منزعج أيّما انزعاج هل رأيت قائمة المثقفين المصريين الذين أعلنت وثائق مسربة من السفارة الأمريكية أنهم كانوا يتردّدون عليها، وينتفعون بأموالها من أجل إحداث تغيير سياسي (ديموقراطي)، فسألته: وما الجديد في هذا؟ قال إن الجديد الذي أزعجه هو ورود اسم الدكتور ح ع الناصري العنيد الأستاذ في جامعة عين شمس في مقدمة هذه الأسماء، ثم أخد يحدث نفسه بصوت عال، ويقول: ح ع.. ح ع .. حتى أنت يا ح ع؟
هدأت من روع محدثي وقلت له بكل بساطة إن هذا لا يتعارض مع ما كان يُحدثكم به عن ناصريته فقال: كيف لا يتعارض مع ناصريته لقد تعلمنا أن الاتصال بأيّ أمريكي وبمثل هذه الطريقة التحريضية هو نوع من الخيانة، فقلت له: الحمد لله انني وأنا المحب لكثير مما في أمريكا لم أتعلم على يديه، فقال: هناك فرق يا دكتور، فأنت تكتب عن أمريكا وحبك لها بكلّ وضوح وأنت الذي توليت بكتاباتك الدعاية لأكبر مستشفياتها حتى استأثرت بالمصريين النافذين لكنك فعلت هذا عن اقتناع مهني وليس نتيجة لذهابك للسفارة! فسألته ضاحكاً: ومن يدريك أنك لن تجد اسمي في قائمة من القوائم وتستنكر عليّ ما استنكرته على الدكتور ح ع؟ قال الصحفي الكبير: لا تحاول أن تشتت الموضوع، فأنت تعرف المعنى الذي أتحدث فيه بالضبط، ولا يهمني لو ذهب كلّ زملائك من أساتذة الطب إلى أية سفارة.. نحن نتحدث عن النادي الناصري وعن القناعات الناصرية وعن الحسابات الناصرية.
قلت لصديقي الصحفي اللامع هل يُمكن لك أن تمد بصرك إلى ما هو ممكن خلال عام أو عامين حين يحدث انقلاب عسكري؟ قال وما علاقة الانقلاب العسكري بالذهاب للسفارة الأمريكية؟ فأجبته بكل وضوح: إن الانقلاب العسكري يحتاج الضوء الأخضر من السفارة الأمريكية أو من الرئاسة الامريكية على وجه التحديد، وإن المشتاقين للوزارة يذهبون إليها الآن لتسجيل أسمائهم في كشوف المشتاقين، وإن الانقلاب حين يبحث عن وزراء له سيبدأ بكشف المترددين على السفارة الأمريكية.. (من الطريف الذي لا ينبغي تأجيل ذكره أن الدكتور ح ع أصبح نائبا لرئيس الوزراء عقب الانقلاب مباشرة) وساعتها ستكون أنت يا صديقي مضطراً لتأييد الانقلاب وشكر السفارة الأمريكية على تدخلها في الوقت المناسب بتأييد الانقلاب وتثبيته وحمايته من الشعب.
قال صديقي اللامع: أدعو الله ألا أعيش إلى هذا اليوم، لقد أضعنا شبابنا في الناصرية ونحن سعداء، فهل يليق بنا أن نبيع كهولتنا أو شيخوختنا للسفارة الأمريكية؟ قلت له: سيكون التيار أقوى منك ومن كل الناصريين ولن تجد ناصريا واحداً ينتقد الانقلاب، ولن تجد ناصريا واحداً ينتقد دور السفارة الأمريكية فيه لكنكم ستستنكرون وأنتم منكرون للاستنكار. قال صديقي الصحفي اللامع وهو يضحك من الوصف: وماذا سنفعل بالإرادة والتحدي والاستقلال والسيادة والتاريخ والماضي والتجربة والمقاومة والممانعة والصمود؟
أجبته بأن كل هذا سيتحول مساره ليتحدث عن محاربة الإرهاب بدلا من محاربة الاستعمار، ومحاربة الإخوان بدلاً من محاربة الإمبريالية، ومحاربة الإيمان الأحادي بدلاً من محاربة التعصب، ومحاربة الجماهيرية بدلاً من محاربة الاستبداد، ومحاربة الشعب بدلاً من محاربة الديكتاتورية. قطع الصحفي اللامع استرسالي في الحديث وقال، إن هذا كله لو حدث لن يغفر للدكتور ح ع اليوم.. فقلت له: هل تريد رداً يريح أعصابك، قال أرجوك فأجبته بأن هذا الدكتور هو ومن شملهم الكشف المسرب عن عمد يعشقون الكحوليات التي تقدم مجانا في السفارة بينما هي مكلفة جداً لموازناتهم التي مهما كانت ثرية فإنها محدودة.. قال الصحفي الألمعي” هذا هو الكلام المعقول.. هذا هو الكلام المضبوط.. لمثل هذا سألتك.. ومن مثل هذا الكلام الواقعي فاسقني كلما لجات إليك.. وانا ظمآن.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا