الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقدمة من مقام النهاوند لقصة الفريق شفيق

مقدمة من مقام النهاوند لقصة الفريق شفيق

نبدأ بأن نذكر للقارئ أن نهاوند مدينة فارسية وقعت بالقرب منها معركة نهاوند في عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب، وانتهى وجود الدولة الساسانية في هذه المعركة بانتصار المسلمين بقيادة النعمان بن مقرن الذي جمع الحسنيين فنال النصر والشهادة معا، وكان هذا القائد أبرز نموذج للجمع بين الحسنيين في معركة واحدة، أما مقام النهاوند الموسيقي فمقام صالح للفرح كما أنه صالح للحزن وليس أدل على هذا من أنه هو المقام الذى تغني به الفنانة أسمهان أغنيتها المرحة الراقصة ليالي الأنس في فيينا كما أنه هو نفسه المقام الذي يغني منه شقيقها الفنان فريد الطرش أغنيته الحزينة “كلمة عتاب”.

وننتقل إلى ترشيح الفريق أحمد شفيق لرئاسة الجمهورية الذي كان بمثابة خاتمة لسلسلة شائقة وشائكة من صراع المغامرات والتداخلات، وربما كانت هذه الجملة تلخيصًا لعملية معقدة وطويلة من حوادث وافتعالات تاريخية، نعم أنا اقصد هذا اللفظ: افتعالات تاريخية، لأنها لم تكن فعلًا ولا رد فعل، وإنما كانت محاولة يائسة لصنع فعل بعد فوات الأوان، وربما تعود قصة أحمد شفيق مع السلطة إلى مرحلة مبكرة عن ثورة 25 يناير. بداية فقد كان تعيين أحمد شفيق في منصب وزير الطيران على عكس ما يبدو من منطقيته وروتينيته أمرًا مخالفًا لكل ما درج عليه مبارك نفسه من تلمس لأسباب النجاح، وربما لا يعرف الناس أن مبارك كان هو صاحب الفضل في اختيار محمد فهيم ريان رئيسًا لمجلس إدارة شركة مصر للطيران في عهد السادات، وهو المنصب الذي استمر فيه فهيم ريان حتى جاء أحمد شفيق وزيرًا للطيران المدني.

كانت وجهة نظر مبارك قريبة من وجهة نظر الحضارة الحديثة في التعامل مع مؤسسة الطيران (أيا ما كان اسمها) على أنها مؤسسة “نقل” تخضع لاقتصاديات النقل ولإداريات النقل ولأمنيات النقل ولتبعات النقل ولتعقبات ومعقبات وعقبات وعواقب النقل بعيدًا عن شمخة الطيران وجاذبية الطيران وسحر الطيران وخصوصية الطيران، ولولا أن مبارك كان يؤمن بأن “النقل” هو طابع الطيران المدني ما استطاع النجاح في هذه المهمة الإشرافية العليا عليه التي أسندها إليه السادات وهو نائب لرئيس الجمهورية، وهكذا اختار مبارك أفضل مهندس طيران في ذلك الجيل وهو الجيل الذي عمل فيه، وهو محمد فهيم ريان بجديته ومهارته ودأبه بل ببطولته السابقة.

وتطور الأمر في الطيران الذي كان يضم مع السياحة في وزارة واحدة بوزير واحد بحكم “المجاورة المتخيلة أو اللازمة ” عند رؤساء الوزراء المصريين، تطور الأمر إلى أن عاد النقل إلى مساره الطبيعي مع وزارة النقل والنقل البحري، وهكذا أصبح الطيران في وزارة عاطف صدقي الأخيرة في عهدة سليمان متولي وزير النقل والمواصلات العتيد الذي تولى هذه المسئولية منذ عهد وزارة السادات الأخيرة في مايو 1980. هكذا كانت الصورة متمثلة في إشراف سليمان متولي وهو مهندس عسكري شأنه شأن محمد فهيم ريان، وهو إشراف خفيف لا يعنى بإثبات نفوذ ولا عبقرية.، فلما جاء عاطف عبيد لرئاسة الوزارة في 1999 اختار أن يقسم اختصاصات سليمان متولي الذي لم يدخل وزارته إلا وزيرين: إبراهيم الدميري للنقل، وأحمد نظيف للاتصالات، ويومها كتبت (بل صرّخت) بأن هذا خطأ كبير ستدفع مصر ثمنه (وقد دفعت بالفعل أثمانًا مضاعفة أكثر مما كان أي أحد يتصور).

كانت وجهة نظري المتواضعة التي اقتنع بها كثيرون ممن سألوني من مستويات مختلفة هي أن قطاع الاتصالات يمول قطاع النقل وأن المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في بداية عهد الرئيس مبارك نفسه أوصى بهذا توصية صريحة واضحة، وهي توصية لم تكن غريبة على عقلية الأفذاذ الذين تولوا رئاسة ذلك المؤتمر، وكانوا يعرفون طبيعة الاقتصاد المصري والمسشكلات التنموية المصرية على نحو جيد، وبناء على هذا فإنه لا يستقيم أن يقف ” إبراهيم الدميري” وزير النقل كل يوم أمام أحمد نظيف وزير الاتصالات ليطلب منه تمويلًا لشراء قاطرة أو إصلاح طريق، كان الأساتذة الصحفيون والكتاب والساسة يستمعون إلى هذا الذي أشرحه فيعجبون من أن تكون مقاربة المشكلات المصرية متاحة على هذا النحو الذكي والمتكامل الذي يوفر عناء كبيرًا، كانوا يقتنعون وكانوا يضيفون من خبراتهم المتراكمة إلى ما شرحته أن النتيجة التي لن تظهر إلا بعد عام أو عامين أن وزارة الاتصالات ستمضي في إنفاق سفهي ومظهري وأن مرفق النقل البري والبحري والجوي سيبدأ في التدهور.

وأذكر أن أحد كبار المسئولين طلبني وسألني بكل وضوح ما هو الأسلوب الأمثل لإجبار الاتصالات على تمويل مباشر للنقل وهل هذا ممكن بعيدًا عن المالية والتخطيط؟ أي بعيدًا عن وضع ذلك في خطة الدولة (التي وضعتها وزارة التخطيط) وتمولها وزارة المالية إلى أرقام واعتمادات، فقلت لذلك المسئول الكبير جدًّا: نعم ممكن من خلال آليات كثيرة منها أن تدفع وزارة الاتصالات إيجارًا كبيرًا جدا لمكاتبها الموجودة في محطة السكك الحديدية أو في منشآت تابعة للنقل، أو لأعمدة التليفونات السائرة بحذاء السكك الحديدية في حرم السكك الحديدية .. أو للمخازن التي خصصتها السكك الحديدية وهي المرفق لآلات وأسلاك وعدد مصلحة التليفونات … إلخ. وسألني المسئول الكبير جدًّا جدًّا، وهو معجب بهذا الأسلوب، هل النقل أقدم من المواصلات وتعجب حين أجبته بالحقيقة وهي أن وزارة المواصلات وجدت منذ، 1913 لكن وزارة النقل لم توجد إلا في 1964، وأن كل ما هو تابع للنقل كان تابعًا للمواصلات.

مرة ثانية هاتفني بطريق غير مباشر وسألني وهو ضاحك عن تسمية وزارة الاتصالات، وهل حقًّا أنني الذي سميتها هكذا؟ ففهمت من الضحكة الخفيفة أن بعض من ناقشهم المسئول الكبير جدا جدًّا أشاروا له أنني أنا نفسي الذي أدخلت كلمة “الاتصالات” بدلا من المواصلات، في مقترحاتي المتعلقة بالوزارات، وبثقة شديدة، بدأت من هذه النقطة شارحًا الفروق بين الاتصالات والمواصلات والنقل والعقلية الإدارية السوفييتية والبريطانية والغربية، لكني أحسست من المناقشات أو من الأسئلة أن الامور قد تعقدت بما سيصيب قطاعات التنمية المصري في مقتل، وبخاصة بعد أن تطورت الدنيا تطورا طفريا فاق الحد مع انتشار المحمول وأصبحت الدخول المتحققة أو الممكن تحقيقها من قطاع الاتصالات مائة ضعف الدخول القديمة، على حين لم تزد دخول قطاع النقل بل على العكس، فإن أعباءه هي التي تضاعفت مع زيادة وسائل الأمان وضرائب الأمان وتكاليف التأمين والتشغيل وارتفاعات أسعار الوقود.

كنت من ناحية أخرى قد أدركت من متابعة الأخبار والأحداث العالمية مدى المعاناة المضاعفة التي بدأت شركات الطيران العالمية تعانيها، حتى إن بعض هذه الشركات الكبرى التي كانت بمثابة دول أعلنت إفلاسها أو اندماجها في شركات أخرى أكبر منها لها ملاءة مالية واسعة وقادرة على الوفاء بمتطلبات التطوير، بل بمتطلبات استمرار التشغيل، جاء حادث الطائرة المصرية التي سقطت في المحيط 1999 فوضعت يدي على قلبي، لما كنت أعرفه من أنها ستكون فرصة معروفة أو معهودة لتشغيل الأسطوانة المعهودة في مثل هذه الحالات، وهي ضرورة وجود وزارة للطيران المدني، وكنت أتوقع أيضا أن الوزير الذي سيعين وزيرًا للطيران المدني إن عادت هذه الوزارة إلى الاستقلال بوزير سيكون هو ذلك الفريق الذي كان ترشحه الشائعات ليكون نائبًا لرئيس الجمهورية باعتباره مقربًا من الرئيس مبارك، وكنت أعرف من خبرتي ومناقشاتي السابقة في الأوساط العالية أن الرئيس مبارك لا يميل إلى هذه الآراء الصحفية التقليدية السطحية من قبيل إنشاء وزارة وإلغاء وزارة …. إلخ، لكنه لم يكن يصرح بهذا لكيلا يكون هو نفسه جزءًا من النقاش ولكيلا يقفل على نفسه بابا من أبواب رحمة الاقتراحات أو الحلول الاضطرارية في وقت ما.

تطور الأمر كما تتطور الكارثة على نحو متدافع وحدث حادث لقطار في السكك الحديدية وأصبح من المحتم أن يُضحي بوزير النقل لأن وجوده أصبح غير ذي موضوع، وسرعان ما صدق حدسي بأن الرئيس سيختار لقطاع النقل إداريًّا مثابرًا من الذين يقتلون أنفسهم في العمل وستكون النتيجة أن يموت هذا الوزير في العمل فيصبح شهيد وزارة النقل، كان الصحفيون يضحكون من التعبير، لكن ما توقعته حدث للأسف بالحرف الواحد.

اختار الرئيس لمنصب وزير النقل وزيرا جادا نسى الناس اسمه الآن رغم استشهاده في القطاع، كان هو حمدي الشايب وهو مهندس مجتهد جدًّا في قطاع البترول في شركة كان أحد أقرب الناس من مبارك يعمل فيها، وتصوري أنه سمع من هذا القريب المقرب أحكامه على منْ في الشركة من كبار المديرين ووجد ضالته في حمدي الشايب، وزاد من فرص الشايب أنه منوفي فلاح جاد. وجاء الشايب وزيرًا للنقل مضحيًا بدخل وزارة البترول ومستقبله فيها .. وتوفي الشايب بأزمة قلبية على نحو ما توقعت تمامًا، تكاثرت الثرثرات الداعية إلى قدوم أحمد شفيق للوزارة ترفع صوتها وكنت على يقين أن أحمد شفيق سيؤذي نفسه وسيؤذي قطاع الطيران. وهذا حديث آخر.


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com