من عجائب الأقدار أن الذين هندسوا مسار الخط الأول مترو القاهرة اختاروا للمحطة التي سُميت باسم سعد زغلول أن تقع في شارع إسماعيل أباظة، كان السبب اللوجيستي الذي جاء باسمي هذين الرجلين الذين عاشا مختلفين ومتنافسين هو أنهما تُوُفيا في عام واحد، فقد توفي إسماعيل أباظة باشا في يناير 1927 ثم توفي سعد باشا في أغسطس 1927، وهكذا سُمي شارع باسم إسماعيل أباظة باشا في منطقة الدواوين التي يقع فيها أيضا بيت الأمة (بيت سعد زغلول) كما شيد فيها ضريح سعد (ضريح سعد زغلول) والذي أطلق اسمه على الشارع الذي يقع فيه الضريح، و يقع فيها أيضا شارع صفية زغلول.
فلما تمت أعمال بناء المترو الحضري الأول تحت الأرض، جاءت في هذا الشارع مداخل ومخارج محطة سعد زغلول وهي المحطة التي تقع بين محطة مترو السادات (التي تقع في ميدان التحرير) ومحطة مترو السيدة زينب. هكذا اقترن هذان الرجلان في مماتهما بحيث إنك لا تصل إلى محطة سعد زغلول إلا عبر شارع إسماعيل أباظة، ولا تخرج منها إلا عبر شارع إسماعيل أباظة، وبحيث أن شارع إسماعيل أباظة أصبح لا يُعرّف في الغالب إلا بأنه الشارع الذي فيه محطة مترو سعد زغلول.. وهكذا.
مكانته التاريخية
على المستوى الصحفي شارك إسماعيل أباظة في توظيف الصحافة للحركة الوطنية، وعرف بدوره في جريدة «الأهالي». كانت «الأهالي» نموذجا لجريدة الكاتب الواحد فقد كان هو محررها الوحيد
كان إسماعيل أباظة باشا في جيله هو عميد الأسرة الأباظية، ومن بين أجيال الأباظية جميعا فقد كان إسماعيل أباظة باشا هو صاحب أول دور سياسي إيجابي فاعل، فقد كان له شأن كبير في الحركة الوطنية، وكانت له علاقات حسنة بالخديو عباس حلمي، ويمكن القول بأنه كان أقرب الوجهاء المصريين إلى توجهات ذلك الخديو، فلم يكن على اختلاف دائم أو تجاذب معه مثل الشيخ محمد عبده، أو سعد زغلول، أو مصطفى كامل وغيرهم، وإنما كان قريبا منه في معظم الأوقات.
أما قصة إسماعيل أباظة باشا مع التاريخ المكتوب فقصة عجيبة في طرافتها تتجلى فيها حكمة الأقدار على نحو يصعب على البشر أن يفهموه، فهو كما وصفناه في العنوان صاحب البروفة المبكرة لزعامة سعد زغلول باشا، لكن قيمته هذه كادت تنسى لولا مذكرات سعد زغلول نفسه التي أفاض فيها سعد باشا في الحديث عن خلافاتهما وحواراتهما في الفترة السابقة على مجد سعد باشا وعلى ثورة ١٩١٩.
وباختصار شديد ومعبر فإن إسماعيل أباظة باشا نموذج للسياسي البارز الذي كان من الممكن للتاريخ أن يتجاوز دوره البارز في حقبة من تاريخ الوطن ويقفز على هذا الدور، لولا أن خصمه أو منافسه في ذلك الوقت كان هو نفسه الذي أبرز (بطريقة تلقائية غير مخطط لها) قيمة هذا الدور، وقد تحدث عن تفصيلات علاقتهما وخلافهما بخلطة سحرية جمعت أقصى ما يمكن توليفه من اختلاف ونقد، واعتزاز ومعارضة، وإنصاف وانتقاص، وكيف لا وقد كان هذا الصنو هو الزعيم سعد زغلول نفسه بكل سياسته وبلاغته وتاريخه وشغفه بتسجيل مذكراته. وإذا كان هناك علم من أعلام مصر قد استفاد اسمه من الروايات التي جاء فيها ذكره في مذكرات سعد زغلول فإنه هو إسماعيل أباظة باشا.
كانت لسعد زغلول وإسماعيل أباظة معركة مشهورة في البرلمان حيث كان سعد زغلول نفسه وزيرا متضامنا يدافع عن رغبة وزارة بطرس غالى في إقرار مشروع قانون بمد امتياز قناة السويس، على حين نجح إسماعيل أباظة بامتياز في قيادة جبهة معارضة ضد هذا المشروع. ظل للرجلين دور بارز في الحياة العامة، وتمكنا فيما بعد من الوصول بالانتخاب إلى عضوية الجمعية التشريعية (1913).
نشأته الأباظية
ولد إسماعيل أباظة وُلد في 1854 أي كان يكبُر سعد زغلول بخمس سنوات، وكالعادة الأباظية المُنتشرين في إقليم الشرقية والمولودين في قُرى متعددة من ذلك الإقليم، فإن إسماعيل أباظة من مواليد شرويدة، وكما ذكرنا فإن فروع العائلة الأباظية تتعدد حتى تشمل قرى كثيرة من إقليم الشرقية. ومن الجدير بالذكر أن إسماعيل أباظة باشا ولد في قرية شرويدة التي هي الآن من ضواحي الزقازيق المتاخمة للمدينة مباشرة، والتي كان لا بد لي إذا قدِمت من القاهرة أن أعبر بها على نحو ما كنت أصف حال المُتوجه إلى محطة سعد زغلول في المترو، أو هكذا كان زملائي الذين يصحبونني في السفر يبتسمون عندما ندرك شرويدة، وهم يرونني أعيش التاريخ.
أتم إسماعيل أباظة باشا تعليمه في الحقوق مُبكراً 1875 وتولى إدارة أملاك عائلته لكنه احتفظ بخيط مُتصل بالوظائف الحكومية والرسمية، فترقّى فيها إلى أن أصبح وكيلاً لمديرية (محافظة) الشرقية، واحتفظ بعضوية المجالس النيابية على مستوى الإقليم، فكان عضواَ في مجلس مديرية الشرقية، ثم أصبح نائباً في مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وتوّج هذا كله بعضوية الجمعية التشريعية (1913) التي كانت بمثابة آخر برلمان منتخب قبل فرض الحماية الإنجليزية وثورة 1919. ظهر توجّه إسماعيل أباظة السياسي مُبكّراً، وكان من مُؤسسي حزب الأمة (1907).
دوره في الصحافة والأدب
على المستوى الصحفي شارك إسماعيل أباظة في توظيف الصحافة للحركة الوطنية، وعرف بدوره في جريدة «الأهالي». كانت «الأهالي» نموذجا لجريدة الكاتب الواحد فقد كان هو محررها الوحيد كما كان صاحبها ومديرها ومن الطريف أن «الأهالي» التي صدرت عن حزب التجمع الوطني منذ عهد الرئيس السادات كانت كثيراً ما تهاجم الأسرة الأباظية وبصفة خاصة الأستاذ ثروت أباظة من دون أن تعرف علاقتهم باسم الأهالي القديمة، ذلك أن جريدة الأهالي الوسطى التي ارتبطت باسم عبد القادر حمزة باشا في الإسكندرية حجبت ذكر القديمة. يحتفظ التاريخ الأدبي لإسماعيل أباظة بكتابه «حديقة الأدب» وهو كتاب مختارات أدبية، كما أن له كتاباً بعنوان «مقدمة أساس التاريخ العصري لمشاهير القطر المصري».
رياسته لوفد مصري غير مشهور إلى لندن ١٩٠٨
في المستوى السياسي كان إسماعيل أباظة باشا من جيل لا يزال يرى نفسه قادرا على أن يحقق بالحوار السياسي لبلاده كثيرا من المغانم والمكاسب حتى في علاقاتها مع المحتل البريطاني، وقد سافر إسماعيل أباظة إلى إنجلترا على رأس وفد مصري، و كان وفده سابقا بعشر سنوات على الوفد الأكبر والأشهر الذي بدأت حركته في ١٩١٨، وقد ألقى إسماعيل أباظة باشا في اجتماع عام في فندق الكونتنينتال (يوليو 1908) ليوضح للمجتمعين أسباب سفر الوفد إلى إنجلترا، ولخص أهدافه من السفر في رفع صوت التضرر والاستياء للأمة الإنجليزية بعاصمة بلادها.
– أولا: من ممانعة حكومتهم للحكومة المصرية من إجابة مطالب الجمعية العمومية.
– ثانيا: لتبديد الخرافات والأوهام التي ألصقها بهذه المطالب الحقة العادلة أعداء مصر والمصريين هنا وهناك.
– ثالثا: من السياسة التي تسير عليها الحكومة الإنجليزية في مصر، خصوصا في طريقة التعليم، وتأخير الصناعة، وحفظ الأمن، لتنبيه الأمة الإنجليزية لحث حكومتها على الوفاء بوعودها وعهودها للمصريين الذين ينتظرون منها احترام العهود.
وقد سافر هذا الوفد المصري في صباح 14 يوليو سنة 1908 إلى بورسعيد باعتباره ممثلا شعبيا للجمعية العمومية، التي تمثل مصر والمصريين، وكان هذا الوفد مؤلفا من السيد حسين القصبي، ومحمد الشريعي، وعبد اللطيف الصوفاني، وناشد حنا، ومحمود سالم. وبعد عودته نشر إسماعيل أباظة بيانا عن أعمال هذا الوفد على صفحات الجرائد. جاءت ثورة 1919 فحجبت زعامة سعد زغلول باشا القوية والمؤثرة بسهولة معظم ما كان باقيا من تاريخ زعامة إسماعيل أباظة. توفى إسماعيل أباظة يوم الأحد 23 يناير 1927.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرةلقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا