تدلنا الدراسة التاريخية على أنهما هما بطرس غالي وحسين سري باشا، فهذان الرجلان يتشابهان في أنه يمكن وصفها اختصارا بأنها كانا موظفين في مقاعد الزعماء، ولهذا السبب في المقام الأول فقد كانا أضعف اثنين من الذين تولوا رياسة الوزارة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، أو فيما قبل قيام ثورة ١٩٥٢، بل منذ نشأة النظام الوزاري في ١٨٧٨، وقد كانا أيضا بمثابة النموذجين المبكرين لمعظم رؤساء الوزارات في عهد الثورة أي منذ ١٩٥٢، فهما لم يعملا بالسياسة الحقيقية، لكنهما كانا نموذجين بارزين لأولئك الذين يترقون في وظائفهم الإدارية حتى يصلوا إلى منصب الوزارة، ومن هذا المنصب يصعدون إلى مناصب رياسة الوزارة، وهو المنصب الذي كان (ولايزال) يمثل في عهود الليبرالية المعادل الرسمي أو البيروقراطي للزعامة سواء في ذلك الزعامة الشعبية الحقيقية أو زعامة الأقلية أو زعامة المهنة.
وفيما عدا هذين النموذجين فإننا نجد رؤساء الوزارة في تلك الحقبة، إما من الزعماء الشعبيين الذين مارسوا السياسة، أو من بين القانونيين الذين مارسوا العمل القانوني محاماة وقضاء من مواقع متقدمة أتاحت لهم أن يروا، وأن يحكموا، وأن يكون لهم رأيهم الذي يعنون للحقيقة، ويفصل في الخلاف، على حين كان الموظفون من أمثال هذين الرجلين (ولا يزالون) ملتزمين برؤي من يظنون أنهم هم أصحاب القرار، سواء أكانوا ملوكا، أم رؤساء.
ومن العجيب أن هذين النموذجين يبدوان مختلفين جدا في كثير من السمات حتى وإن بدا أن هناك كثيرا مما يجمعهما، ولست أريد أن أستبق التحليل لأصور ما أريد أن أصوره في هذه الجزئية، لكني سأعمد إلى البدء بنقطة فارقة كفيلة بتصوير بعض طبائع الأمور في مثل هذه الحالة، وهي مجمل علاقة كل منهما بالحاكم الذي عمل معه، فقد كان أولهما، وهو بطرس غالي، قد مات وهو يحظي بالثقة الكاملة من الخديو عباس حلمي الذي صرح في مذكراته بما يفيد بأن بطرس باشا كان في رأيه هو أفضل الرؤساء الذين عملوا معه، وهنا نذكر أن عهد الخديو عباس قد شهد رئاسات نوبار باشا، ومصطفي رياض باشا، ومصطفي فهمي باشا، وحسين فخري باشا، وبطرس غالي باشا، ومحمد سعيد باشا، وحسين رشدي باشا، وهكذا فإن الخديو عباس بحكم أوتوقراطيته كان يفضل بطرس غالي على أداء هؤلاء الأعلام من ذوي التاريخ المشرف أو المنظور إليه بإعجاب، ومن العجيب أن مثل هذه الشهادة تبدو أقريب إلى لإدانة منها إلى التكريم .
أما حسين سري الذي جاء إلى مقعد الرياسة ثلاث مرات (وشكل خمس وزارات) في 1940 و1941 ويوليو 1949 وسبتمبر1949 ويوليو 1952 فقد كانت علاقته بالملك فاروق فاترة تماما، رغم كل ما كان يشجع على ألا تكون كذلك، على الأقل بحكم ما كان من النسب الذي ربط الرجلين، ومع هذا فقد جاء هذا الرجل إلى رياسة الوزارة حين كان لابد من أن يجيء مثله، لكن المدهش في حسين سري لم يكن علاقته الفاترة بالملك فاروق فحسب، وإنما كان هو علاقته الدافئة نوعا ما بثورة 195٢، فقد كان هو رئيس الوزراء الوحيد من قبل الثورة الذي لقي تدليل الثورة إلى الحدود المسموح بها في مثل هذه الظروف. وعلي حين لقي حسين سري باشا هذه العلاقة الدافئة أو شبه الدافئة فقد لقي زعيم الأمة مصطفي النحاس باشا أسوأ ضروب التنكيل [المهذب والمكتوم] حيا وميتا، فضلا عن التآمر الخفي والمتصل على تاريخه، ولقي إبراهيم عبد الهادي باشا أقسي ظلم مع أنه كان صاحب جميل لا ينسى على الرئيس عبد الناصر حين قبض عليه في عهده!! فإذا به يواجه أسوأ جزاء يكفي لتصويره أن نقول إنه وصل إلى الحكم عليه بالإعدام، كذلك فقد لقي على ماهر باشا أسوأ ضروب نكران الجميل وإلي ما يقترب من الإهانة مع أنه أول رؤساء الوزارة في عهد الثورة نفسها، ولقي أحمد نجيب الهلالي أسوأ ضروب التجاهل، والتحقير، بل أوقف وحددت حركته، على الرغم من دوره في تهدئة الأمور، لمصلحة الضباط إلى درجة مشاركته في إقرار السلبية في مواجهة الثورة حين كان هو نفسه رئيس الوزراء المنوط به الحكم العاجل في مصير قادة هذا الانقلاب!
أما حسين سري الذي لم يكن له من الأمر شيء، فقد عاش في عهد الثورة ولم يوجه إليه من التحقير أو الإهانة أو التنكيل أو التجاهل أو التآمر إلا النذر البسيط الذي كان لابد منه بحكم طبائع الأشياء. وربما كان هذا أمرا عجيبا في نظر البعض ممن ينظرون إلى الأمور من وجهة نظر وطنية، لكن الذين يتأملون الأمور من زاوية نفسية أو زاوية براجماتية، أو حتى من زاوية أيديولوجية يجدون أن هذا الذي حدث (على يد ضباط الثورة) كان هو الطبيعي، وربما كان هو الأكثر اتساقا مع منطق الأشياء، وطبائع الأمور، ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن نجيب الهلالي توفي في ١٩٥٨، وأن حسين سري باشا توفي في ١٩٦٠، وتوفي على ماهر كذلك في ١٩٦٠، وتوفي النحاس باشا في 1965، وبقي إبراهيم عبد الهادي حيا حتى مطلع الثمانينيات.
كان سري باشا يتمتع بقدر هائل من ذكاء الموظفين مكنه من أن يقف أمام محكمة الثورة ليروي عطش الثورة إلى التنكيل بالنحاس باشا، وليقول مثلا إن النحاس طلب من الملك فاروق أن يسمح له الملك بتقبيل يده. هكذا حسم سري الأمر وقدم نفسه لرجال العهد الجديد على أنه أفضل بدائلهم، وهكذا حظي بالدفء «الثوري» على النحو الذي حظي به الفريق حيدر الذي كان قائدا للقوات المسلحة المصرية، وكان من قبل هذا وزيرا للحربية منذ حرب فلسطين وما تلاها من أحداث صورت أنها هي التي جعلت الثوار يعترضون ثم ينقلبون! ولا يعجبن أحدا من ذلك، فهذه هي طبيعة الثورات، وطبيعة الحياة الدنيا!! أما بطرس غالي باشا فكان كما وصفه معاصروه إنجليزيا بأكثر من الإنجليز، استعماريا بأكثر من الاستعمار، واحتلاليا بأكثر من الاحتلال، وعلى الرغم مما يبدو في حكمنا هذا من تحامل خفيف أو تحامل مسبق على هذين الرجلين فقد بذلت في الترجمة لهما والكتابة عنهما كل ما أستطيع من أجل إيفائهما حقهما بإخلاص شديد للحقيقة، ذلك أني أومن أن من حق كل مجتهد أن يصور اجتهاده في إطاره، وأن نثبت له ما قد يعتقده من الإيجابيات التي يظن أنها أفضل من إيجابيات غيره، أو أهون من سلبيات الآخرين!!
لست من أنصار المصادرة على الطموح مهما كان الطموح مفتقدا إلى مسوغاته، وكما أني لست من أنصار المصادرة على الطموح فإني لست من أنصار التقليل من قيمة التصورات المختلفة للصواب، ولا من قيمة السعي إلى الربح أو الكسب أو الانتصار أو الثواب، ولا من قيمة الإيمان بأهمية الولاء للحاكم وتنفيذ رؤيته، لكني في الوقت نفسه، وقبل هذا كله، لست من أنصار الانسحاق أمام المحتل، ولا الانتصار لمصالحه، ولا الاستجابة لأطماعه، ولا العمل على إفادته على حساب مستقبل الأجيال التالية، ولست من أنصار إرهاب الوطنيين ولا المواطنين من أجل إقرار قيمة النظام، وخلاصة رأيي في أداء مثل هذه الشخصيات الخلافية هي أن تجاوزنا عن جزئية من الجزئيات لا ينبغي له أن ينسحب ليقودنا إلى التجاوز عن التوجه كله، كما أن تقديرنا لموقف صائب لا ينبغي له أن ينسحب إلى الإشادة بالشخص كله، كذلك فإن تقديرنا للموهبة لا ينبغي له أن يكف بصرنا عن خطيئة توظيفها لغير الصالح العام، أو لغير مصلحة الوطن، ولن يتحقق كل هذا الفهم الصائب للتاريخ إلا إذا طالعناه ودرسناه واستقيناه وناقشناه بكل موضوعية وحب، على نحو ما كنت أحب، وعلى نحو ما لا أزال أحب أن أفعل.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا