الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقدمة من مقام البياتي عن إرهاصات ثورة ٢٥ يناير

مقدمة من مقام البياتي عن إرهاصات ثورة ٢٥ يناير

أبدأ فأشير إلى أن مقام البياتي واحد من أشهر المقامات العربية، وإن كان هو أكثر المقامات الكردية استعمالا في أغاني الأكراد المعاصرة، وبخاصة في المهجر حيث تذاع هذه الأغاني أو تعزف كجزء من الصورة المميزة التي تقدمها مطاعمهم وملاهيهم، وربما يفسر لنا هذا طبيعة الاختلاف بين الكرد الذين هم في رأيي ومعتقدي يمثلون عرب البادية وبين العرب بصفة عامة، وربما يدهش القارئ إذا ما عرف أن الربابة العربية التي تسيطر على الغناء الشعبي والإقليمي في صعيد مصر لا تعزف ألحانها إلا من مقام البياتي فقط .

لست في حاجة إلى أن أذكر للقارئ أن هذا المقام يرتبط في وجداننا العربي والفني بإحساس الانتظار والترقب والتلهف، وربما يتأكد هذا المعني الذي أقصده إذا ما ذكرت للقراء أن هذا المقام كان هو القالب الذي غنت منه السيدة أم كلثوم أغنيتها المؤثرة: القلب يعشق كل جميل من ألحان الفنان زكريا أحمد، كما غنت منه أغنيتها هذه ليلتي للفنان محمد عبد الوهاب ،ثم أزيدك من البيت شعرا فأذكرلك أنه هو المقام الذي غنت منه الفنانة فايزة أحمد أغنيتها الرائعة ست الحبايب من ألحان الأستاذ عبد الوهاب، ومع هذا الوضوح كله فإن قلبي لا يطاوعني في الدخول على الموضوع من دون أن أذكرك بما لا تنساه من البياتي هو مقام الأغنيتين المشهورتين للفنان وديع الصافي، وهما ياعيني على الصبر، ودار يا دار .

روح الفداء الصادقة
أدخل إلى موضوعنا من ذروته فقد عرفت مصر حالة من الطهر والتطهر عقب 25 يناير، كان المصريون المستقيمون وهم أغلبية كبيرة من الشباب والصبية على استعداد حقيقي أن يضحوا بأرواحهم من أجل مصر، بدأ هؤلاء جميعا يعتزون بالشهداء الذين قضوا في ميدان التحرير وفي السويس على حد سواء.وفي أماكن أخرى من الوطن كانت عصا الأمن الغليظة فيها أسرع من السلطة نفسها في مواجهة الثورة.
كنت أمر في الشوارع وأنا لا أزال عاجزًا عن الحركة بدون العكاز فأجد شبابًا ارتدى القفازات وأخذ ينظف الشوارع، فأنصرف إلى حيث لا يرونني وأبكي ما شاء الله لي أن أبكي، لم أكن أتوقع أنني سأشهد مثل هذه الثورة الجادة في حياتي فإذا بها تأتي أسرع مما توقعت، بدأت أحاول أن أحلل الأسباب التي سرّعت أو عجّلت بالثورة ومدى صحة ما ذكره لي أكثر من واحد من الأحباء عن إسهامي المتواضع فيها، شعرت بالفخر من أن توسيع قاعدة التعليم الجامعي والعالي قد آتت ثمارها سريعًا، كان هناك كثيرون من شباب الثورة من طلاب التعليم المفتوح والانتساب الموجه والجامعات الخاصة والمعاهد العليا الخاصة، ومن المنتسبين إلى برامج تعليمية جامعية خارج مصر.

الأثر المباشر لتوسيع قاعدة الجامعيين
تذكرت محاوراتي ومحاولاتي الجادة والمثمرة التي أدت إلى توسيع قاعدة هذه الأنماط من التعليم، كان كل أساتذتي الكبار ينصحوني بالتريث في مثل هذه الدعوات والتحسب لكثرة الشهادات في البلد، ولم أكن أشغل بالي بالمعارك أو إثبات الذات في هذه الجزئية أو تلك، لأني كنت أؤمن أن الجهد الذي ينجح في إقناع مسئول واحد بالقضية سوف يثمر أضعاف المناقشات التي تتبادلها الصحافة ويتحزب الكُتاب فيها إلى رأي ما أو إلى نقيض هذا الرأي.

كنت أرى بعيني رأسي تجارب الأطباء الذين يبعثون بأبنائهم إلى المجر ورومانيا ليعودوا بشهادة السنة الأولى من الطب فينتظموا مع مَنْ هم في سنهم ممن حصلوا على المجموع المؤهل لكلية الطب في التنسيق، كنت أعلم علم اليقين أن أي زيادة في أعداد المقبولين في الكليات سوف تؤدي إلى مزيد من التدهور الذي بدأ منذ توقفت خطط التنمية في منتصف الستينات رغم أن الشائع أنها لم تتوقف إلا بعد 1967، بينما الحقيقة أنها توقفت بعد الدخول في حرب اليمن مباشرة.
كنت أعرف أن أجيال شيوخ الصناعات في مصر تربوا في عهد الاحتلال الإنجليزي الذي كان يحرص بصورة خفية على احترام الشهادات بعدم إتاحة الطريق إليها إلا بالقدر المحدد الذي سوف توفره الحكومة من وظائف للحاصلين على هذه الشهادات، وقد سيطر هذا الفكر حتى على مشايخ الأزهر الكبار الذين كانوا يرون أن يقتصر منح عدد الشهادات العالمية والعالية الممنوح على ما هو متوقع وجوده من وظائف حتى لا تحدث بطالة في الحاصلين على الشهادات العالية والعالمية، ومن ثم تفقد هذه الشهادات مكانتها وقيمتها، وهكذا كان هؤلاء الكبار يفكرون وكان تفكيرهم صدى لواقع عصرهم، وجاء العصر الناصري ليؤكد بكل آلياته وبكل ما كان يتميز به من انضباط بيروقراطي هذا المعنى القديم من كل ناحية، رغم أنه استمتع (ولا نقول استفاد فحسب لأن استفادته وصلت حد الاستمتاع) بما وجده من جيوش المؤهلين الذين لم يكن لهم عمل فوظّفهم لأهدافه مستفيدا من تأهيلهم الجيد الذي صُنع من قبله، ثم توسع في هذه الاستفادة حين وضع نظام القوى العالمة الذي كان يضمن لكل متخرج وظيفة، وبالتالي كان يؤمن لكل طفل وظيفته.
أحد الأثارالإيجابية للانفتاح الاقتصادي
حين حدث الانفتاح خرجت قوى بشرية من العمل في الحكومة إلى العمل في القطاع الخاص والاستثماري والعمل في الخارج، لكن أحدًا لم يعن بأن يناقش فرص العمل في الخارج من منطق فوقي بدلًا من المنطق البراجماتي، كان أسلافنا الذين أسسوا الجامعة المصرية الأهلية في 1908 ثم في 1925 واعين لفكرة التعليم الجامعي وأهمية التعليم الجامعي، ولهذا فإنهم لم يشغلوا أنفسهم بإنشاء كلية للمعلمين في الجامعة وإنما بإنشاء كلية الآداب وكلية العلوم.
نجحت كلية الآداب في تغذية الوظائف للمختلفة التي لم تكن موجودة حين نشأت الجامعة، وعلى سبيل المثال فقد أصبح خريجو قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب هم المنبع الطبيعي للإذاعة المصرية، لا لأنها تذيع بالإنجليزية، وإنما لأنها تتعامل مع التراث الإنجليزي والمكتبة الإنجليزية والخبراء الإنجليز والدراما الإنجليزية والإذاعة البريطانية، وهكذا كان هؤلاء الخريجون يستحضرون بعضهم ويستقدمون البعض لهذه حتى من قبل أن يستقطبوا خريجي الأقسام الأخرى ومن قبل أن ينشأ معهد الصحافة، وتطويراته.


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com