أحب أن أبدأ هذه التدوينة بتذكير القارئ بحقائق مهمة أظن ان أغلب القراء يعرفونها جيدا لكني سأذكرها مقترنة بتواريخها كي يستعين القارئ بها على إدراك حدود التزييف والتزوير الذي تعرض لهما الأستاذ نجيب محفوظ سواء في ذلك رواية الوقائع وتصويرها:
– ولد الأستاذ نجيب محفوظ 1911، وتخرج في كلية الآداب 1934، وكان أستاذه الشيخ مصطفي عبد الرازق أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية محبا له، فعمل على إلحاقه بوظائف الحكومة فور تخرجه، ولما أصبح الشيخ مصطفي عبد الرازق نفسه وزيرا في وزارة محمد محمود باشا في 31 ديسمبر 1937، نقل نجيب محفوظ إلي مكتبه ليكون سكرتيرا للوزير في العصر الذي كان كل إنسان فيه يحرص على لقب مواكب لسنه، ولهذا فإن نجيب محفوظ لم يدع أنه كان مدير مكتب الوزير، أو مستشاره مع أنه كان شيئا قريبا من هذا بحكم ثقافته، وعلاقته بالوزير.
– ومن الصحيح أن نجيب محفوظ عمل في وزارة الأوقاف لكن مكانته كصاحب مؤهل عال كانت متقدمة بالطبع، وظل يحظى بالطبع بالترقي والتدرج الوظيفي.
– لما تأسست وزارة للإرشاد القومي ١٩٥٢ على يد فتحي رضوان، والدكتور حسين فوزي، نقل إليها المفكرون والأدباء ومنهم نجيب محفوظ، بما يتناسب مع أقدميته الوظيفية، وتدرج في مناصب الإرشاد القومي والثقافة حتى وصل إلي ما يعادل درجة وكيل أول وزارة، لأنه رأس مجلس إدارة مؤسسة السينما، وكان من قادة العمل الوظيفي في الوزارة في أعلى درجة حكومية وهي الدرجة الممتازة .
بعد هذه الحقائق نأتي إلي إنسان آخر يقول إنه ولد 1923 ويقول المقربون منه إنه ولد قبل ذلك، ولم ينل من شهادات التعليم شيئا مذكورا، لكنه نال حظوة جعلته عن حق يبدو فوق رئيس الجمهورية حتى أصبح (حسبما صور نفسه بنفسه وبأقلام تابعيه) الصحفي الأوحد، والصاحب الأوحد، للسلطان الأوحد، وقد ظل هذا الأوحد يعاني من العقد النفسية حتى بعد أن تخطى التسعين، وبعد أن رزق كنوز المال العربي، لكن هذه العقد النفسية كانت مع ذلك أقوي من كل شيء، وانظر إليه وهو يتحدث في حديث صحفي عابر فلا يخجل من أن يرتفع بقيمة نفسه إلا بأن يصور نجيب محفوظ على أنه كان مجرد موظف في أرشيف وزارة الأوقاف حين دعاه هو.. أي الكاتب الأوحد في أواخر الستينيات ليتبوأ المكان الذي تكرم عليه هو به في الأهرام.
ليس هذا فحسب بل إن الصحفي الأوحد يحمل كلماته كل ما هو ممكن له من سخرية، وغطرسة، وتعال على نجيب محفوظ، وعلي الرغم من أن ذلك الحديث أجري في 2012 بعد أن تحررت مصر كلها، فإن الصحفي الأوحد ظهر معانيا من العقد التي تجعله يصور لنفسه أنه هو الذي صعد بنجيب محفوظ إلي نوبل بدلا من الوضع الذي كان أديبنا العظيم فيه كاتبا في أرشيف وزارة الأوقاف (!!)، مع أن عرض التفرغ للكتابة في الأهرام حدث في الستينيات حين كان نجيب محفوظ في أعلى درجات الكادر الوظيفي ويري بالطبع أن من حقه أن يتوج هذا الكادر الطويل بالخروج وهو في أعلى درجاته، وهو ما حدث بالفعل. لكن ماذا تفعل في هذا النمط من الأخلاق التي تدين صاحبها!.
لنقرأ هذا النص المذهل الذي جاء في حوار الفنان عمرو واكد مع الأستاذ الذي كان لا يزال يصور نفسه على أنه الأوحد في 21 مارس 2011، وقد نشر الحوار بلمسات الأستاذ هيكل نفسه في كتابه «مصر إلي أين»، وفيه كان الأستاذ هيكل يثرثر بعدم اقتناعه بترشيح البرادعي وعمرو موسي للرياسة واستطرد ليقول: «… الاثنان من خارج الساحة السياسية التقليدية، وبالضرورة عاشا معظم العمر في الخارج، وبواقع الأمر انتظرا حتى انتهي «الكارير» ـ التاريخي الوظيفي لهما ـ لآخر لحظة، ثم تقدما للرئاسة، وهذا لا يعيبهما، فالاثنان محترمان جدا، وصديقان لي، أضف إلي ذلك أنهما تجاوزا سن 75 عاما، ولكن سؤالي هو: هل هذه بالضبط المواصفات المطلوبة لهذه اللحظة؟ يذكرني الموقف بنجيب محفوظ حينما دعوته في إحدى المرات للعمل معنا في «الأهرام» بناء على اقتراح من توفيق الحكيم، وكان وقتها كاتب رواية، وموظفا في أرشيف وزارة الأوقاف، فكان رده أنه موافق ومتحمس، لكنه طلب مني شيئا واحدا، وهو أن أنتظر عليه حتى يستكمل معاشه ثم ينضم للأهرام، هذا نجيب محفوظ».
ولأن كل فقرة من فقرات الأوحد لا تكتفي بمخالفة واحدة للحقيقة ولا بمخالفتين اثنتين، فإنه بالإضافة إلي ما كان من ذكره لما يخالف الحقيقة فيما يتعلق بنجيب محفوظ، فإن البرادعي حين جري نشر الكتاب (وقد نشر الحوار قبل نشر الكتاب بالطبع) لم يكن قد وصل بعد إلي الخامسة والسبعين!! رحم الله نجيب محفوظ جزاء ما تحمل من فظاظة وفجاجة حيا وميتا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا