ربما يتعجب بعض أبناء الجيل الجديد الذين لم يعاصروا تجربة الرئيس جمال عبد الناصر فلم يشهدوا نهايتها من طبيعة تطور الحالة الاقتصادية الحقيقية على نحو ما عاصرها وشاهدها الجيل الذي أنتمي إليه. كانت النهاية المروعة هي المصير غير المشهور الذي واجهه الاقتصاد في التجربة الناصرية، وكان وضع الاقتصاد المصري المفرط في السوء قابلا للتفاقم المفلس لولا ما حدث من تدفقات نقدية من تحولات العاملين بالخارج بعد طفرة أسعار النفط بعد حرب 1973، وكان من الواضح لمن يدرك طبائع الأمور أن ما حدث للاقتصاد لا يقل عن الوصف بالمأساة رغم ما نسمعه الأن ممن يرون من آن لآخر شذورا من تعبيرات أو بيانات معتزة بتجربة الستينات وما يزعمونه لهذه التجربة من وصولها إلى معدلات غير مسبوقة في التنمية الاقتصادية وهي معدلات تم التلاعب في حسابها وتقديمها وليس من الصعب كشف ما فيها من التلاعب الممنهج.
ومن الطريف على سبيل المثال أن التأمل العقلي اليسير يدلنا على أن كثيرا من هذه المعدلات كان نتيجة مباشرة لاستيلاء الدولة على مصانع وشركات القطاع الخاص وضمها إلى القطاع العام، هكذا فإن الدولة كانت تحتكم على خمسة مضارب للأرز أصبحت تستحوذ على ثلاثين مضربا، والتي كانت تمتلك عشرة مطاحن أصبحت تملك سبعين مطحنا.. وهكذا، هكذا انتقلت أرقام الإنتاج من قطاعات داخل الوطن بمعناه الواسع إلى المؤسسات المملوكة للدولة فارتفعت أرقام التنمية في الظاهر ارتفاعا فائقا، فلما انتهت الخطة الخمسية الأولى [ما بين ١٩٦٠ و١٩٦٥] ظهر بكل وضوح أن الخطة الخمسية القادمة لن تكون قادرة على أن تحقق ما حققته الأولى لأن كل شيء يمكن تأميمه كان قد تأمم بالفعل.
وعلى الرغم من بساطة هذا الشرح الذي قدمته في السطور السابقة فإن الكتابات الاقتصادية تلف وتدور حتى لا تعترف به، وهذا أمر طبيعي ذلك أن المؤسسات والشركات المؤممة أدمجت في كيان المال العام إدماجا كليا حتى إنه يصعب تصور الفصل بين هذا وذاك في أي رقم تقدمه الحكومة أو أي معدل أو أي نسبة، وليس أدل على صواب تشخيصي من أن أرقام السنوات التالية لموازنة الخطة الخمسية 60/65 قد فضحت هذا السر بكل وضوح. ومع هذا فلا أحد يستطيع أن ينكر أن ثورة 1952 بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر قد أنشأت مصانع غير تلك التي أممتها، وأنها طورت من بعض ما أممته لكن هذا كله يظل في إطار أقل مما كان ينبغي أن يتم لو أتيحت الإدارة الجيدة والحوكمة الرشيدة، والدليل على هذا أن مصر نفسها شهدت بعد التأميم أزمات في الإنتاج لم تكن تشهدها قبل التأميم، بل إن المصانع أصبحت عاجزة عن الإمساك بخيوط اللعبة من أجل رفع أسعار منتجاتها كما أنها أصبحت عاجزة أصلا عن زيادة الإنتاج.
وهكذا فإن سلعة السكر التي كانت شهيرة بأزماتها مع الحكومات المتعاقبة من أجل حصول الشركات (المملوكة لعبود باشا) على مزايا في تخفيض الضرائب مثلا اتخذت صورة جديدة هي صورة العجز عن الوفاء باحتياجات المواطنين إلا أن تلتزم الحكومة في المقابل برفع السعر، وهو ما لم تكن الشركات في عهد عبود تلجئ الحكومات و تضطرها إليه بهذه القسوة، ونحن نستطيع أن نقرأ في عناوين صحف 1965 الرئيسية ما صرح به زكريا محيي الدين بكل وضوح من أن زيادة سعر كيلو السكر قرشين سيكلف الأسرة عشرة قروش شهريا ستضايق الأسر بعض الشيء لكنها في المقابل ستساعد الحكومة على توفير عجز في الموازنة قدره 4 ملايين جنيه.
ومن الحق أن نقول إن حكومات ما قبل 1965 بما فيها حكومات الثورة نفسها طيلة 12 عاما لم تكن تلجأ إلى مثل هذه الزيادة الكبيرة لكننا نفهم بسهولة أن تكلفة إنتاج السكر ارتفعت عندما تولت الحكومة بنفسها إدارة هذه المصانع وبدأت في زيادة الوظائف المكلفة لتعيين المحاسيب والضباط، فضلا عما هو معروف من ارتفاع تكلفة الغاز في ظل الأداءات الحكومية فضلا عن زيادة الفاقد، وعن زيادة الخسائر بسبب عدم الصيانة، وبسبب ضعف الحرص “البشري” على المال العام إذا ما قورن بالحرص على المال الخاص.
بدأت حكومات الرئيس جمال عبد الناصر تضطر إلى تكرار هذه الزيادات في الأسعار بعد أن استقرت بيروقراطية القطاع العام وكان هو نفسه يحاول كبح جماح هذه الشركات دون جدوى حقيقية إذ كانت الحكومة تعمد إلى حل المشكلة بتخفيض مواصفات المنتج بما في ذلك بالمواصفات الكمية، فكان عرض متر الكستور يتناقص من متر إلى تسعين سنتمترا ثم إلى 85 سنتيمترا ثم إلى 80 ثم إلى75 و60… وهكذا حتى بلغ عرض متر الكستور في النهاية 40 سنتمترا فقط وهو ما يعني أن السعر الحقيقي قد تضاعف رغم ثبات السعر المعلن. وقد تم هذا أيضا في علبة الكبريت التي تناقص عدد عيدانها، وفي كشاكيل وكراسات المدارس التي تناقص عدد صفحاتها، وفي الصابون الذي قلت أوزانه القياسية من 200 جم إلى 150 جم إلى 100 جم بالتدريج.. وهكذا
في مرحلة لاحقة امتد هذا الأسلوب إلى العبوات الدوائية في الأدوية غزيرة الاستعمال فأصبح شريط الأسبرين يتناقص في عدد أقراصه حتى بلغ النصف. واستمرت حكومات عهد السادات وحسني مبارك في مثل هذه السياسات كحل مؤقت أو كصورة ناجحة من صور الالتفاف البيروقراطي (أو النفاق البيروقراطي) القادر على تأجيل حسم المشكلات. كان هذا يعني بكل وضوح انخفاض القوى الشرائية للجنيه وزيادة للتضخم وانخفاضا في مستوى معيشة المواطنين لكن جاءت حرب 1967 وما انتهت إليه من هزيمة لتكون بمثابة الشماعة المقبولة لكل ما حدث في هذا التدهور الاقتصادي مع أنه بدأ قبلها بكثير.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا