أبدأ بالإشارة إلى ما أذكره من قصتنا في مدرستنا الثانوية النموذجية، وهي مدرسة المتفوقين في صباح يوم 6 أكتوبر 1973 حين كاد أحد زملائنا الذين كانوا يتمتعون بأقصى درجات التهذيب، وهو الدكتور (ص أ غ) أن يفتك بأستاذنا الدكتور (ي ب) الذي أخذ يعيد علينا في حصة التربية القومية بتلذذ غريب وتعالم سقيم وإسهاب طويل ما كان الأستاذ محمد حسنين هيكل قد نشره في مقاله في اليوم السابق الجمعة 5 أكتوبر 1973 من حديث حافل باليأس والتئييس من أن يكون هناك أي حل للهزيمة الثقيلة التي كنا نكتوي بها في كل لحظة، وكأن الأستاذ محمد حسنين هيكل نفسه لم يكن من الذين تسببوا في هذه الهزيمة بكل ما كان يفعله سلبا وإيجابا.
لم يجد زميلنا المثقف الواعي المشتبك مع الواقع والوطنية والسياسة رغم حداثة سنه ما يمنعه من أن يواجه الأستاذ الحاصل على الدكتوراه في علم النفس بأنه يكرر عن جهل يصل إلى حد الخيانة ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله أمس من أجل مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. كان اتهام زميلنا لأستاذنا ثقيلا وصارخا حتى وإن بدا جاهزا وصائبا كذلك، ذلك أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان في مقال اليوم السابق الجمعة 5 أكتوبر 1973 يبدو حريصا بكل ما هو ممكن على أن يخلى ذمته من التهور الذي يعرف أنه سيحدث في الصباح التالي حين نشرع في العبور فندمر ما تبقى من مصر التي كان قد ضيعها هو والرئيس جمال عبد الناصر منذ 6 سنوات من دون أن ترمش لهما عيونهما.
حدث ما حدث مما يعرفه الناس جميعا وحاربت مصر وعبرت الهزيمة وتحقق النصر واعترف الغرب قبل الشرق بالانتصار وأحس الشاعر الأستاذ نزار قباني بمشاعر العزة والكرامة وشفاء الغليل مما كان يفعله الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي كان قد صار بفضل الشمولية هو الصحفي الأوحد و المفكر الأوحد. مزج الشاعر العبقري العظيم نزار قباني بين الفخر بالانتصار والسخرية من الأستاذ هيكل في قصيدة رائعة من عيون الشعر العربي، لكن هذه القصيدة [غيبت عمدًا عن تراثنا الشعري] وكان ثمن هذا التغييب باهظا، لكنه دُفع عن رضا.
و هذه مقاطع من قصيدة الشاعر نزار قباني [المخفية] التي أجاد فيها وصف الخلاص من تلك المحنة النفسية التي عمقها الأستاذ هيكل.. وهو الذي سمته القصيدة بأسماء من قبيل رئيس الكهنة، وقد قدمها الشاعر نزار قباني في أثناء حديثه عن نصر أكتوبر 1973 حيث يقول:
«ست سنوات..
ومصر تبحث عن خاتمها المسروق
لجأت إلى الكهنة، والعرافين، وقارئي الغيب..
فأخبرها رئيس الكهنة أن خاتمها موجود في بطن حوت كبير.. كبير..
رأسه عند شواطئ فلوريدا.. وذيله في مياه إسرائيل..
ذهبت إلى الوسطاء.. وأصحاب الكرامات.. وصانعي الحجابات..
فأخبروها أن خاتمها موجود في صندوق ملك الجان..
وأنه لن يعيده إليها..
إلا إذا رهنت لديه أساورها، وأطفالها، وصامت سبعة أيام من كل أسبوع..
وصامت مصر 2190 يوما
وانتظرت مصر 2190 يوما..
وشحب وجهها..
ونقص وزنها..
وسكنت عصافير الحزن عينيها الجميلتين..
واشتكت مصر إلى الإنتربول، وإلى محكمة العدل،
وإلى القضاة ذوي البيروكات البيضاء، والمطارق الخشبية
فاكتشفت أن القضاة واللصوص.. يؤلفون شركة واحدة.. لسرقة المجوهرات..»
على هذا النحو الكاريكتيري البديع صور نزار قباني بطريقة فنية ساخرة بسيطة اللفظ رائعة الإسقاط ما كان من شعوره بالموقف المصري قبل حرب أكتوبر ملخصًا ما كان الصحفي الأوحد حريصا على أن يثبّت به الصورة الهيكيلية الانهزامية التي كان يتعمد بها ترهيب الشعب من مجرد التفكير في الثأر وذلك بتضخيم أبعاد الموقف السوداوي الذي كان هو (أي الأستاذ هيكل) يتوقعه لوطنه و لجيش وطنه. وربما يترسخ فهمنا للمعنى الذي أبان عنه الشاعر نزار قباني بتصويره الجميل حين نراه يؤكد هذا التصوير في حديثه الجميل عن حرب أكتوبر والانتصار المجيد الذي تحقق فيها حيث يقول في حديثه عن النصر والعبور:
«تتعرف مصر على وجهها في مرايا سيناء..
تقرأ اسمها في كتاب الشهادة، ومزامير العبور
تقرؤه في فرح المغامرة، وأبجدية الاقتحام..
تقرؤه في معاطف الجنود المسافرين إلى الضفة الثانية للكبرياء..
تقرؤه في جراحهم المتلألئة تحت الشمس كأحجار الياقوت..
وحقول شقائق النعمان..
وتكتشف مصر صوتها..
في رصاص مقاتليها.. لا في حناجر مغنيها»
نعم فقد اكتشفت مصر على يد بطلها الرئيس السادات روحها في رصاص الجنود لا في حناجر المغنين.. مهما كان تقديرنا وتقدير الشعراء للمغنين وسعادتنا بهم.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا