منذ نجاح ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ أصبح قاسم بك أمين (ولايزال) يحظى بصورة فريدة في الأدبيات السياسية المصرية، حتى إنه يبدو في هذه الأدبيات مصريا لمن حطموا سجن الباستيل ، والسبب في هذا طريف بل في غاية الطرافة وهو أن عصر الشمولية الذي ارتبط بحكم العسكر كان لابد أن يقدم الحرية في صورة أخرى غير الحرية السياسية ، وهكذا كان الحديث المفضل عن حرية المرأة عند أدبيات ثورة يوليو لا يرتبط بأدوارها السياسية وإنما يحبسها في قضية فرعية كقضية الحجاب مع تصوير هذه القضية على أنها هي وهي فقط الحرية ، وهكذا تم استدعاء قاسم أمين إلى مجتمع ” الميثاق” الذي قدمه الرئيس عبد الناصر كصيغة ثانية لدستوره الفردي بعد فلسفة الثورة وقبل بيان ٣٠ مارس .
وفي حقيقة الأمر فإن قاسم أمين كان ابن عصره ، لأنه كان فيما كتبه و نادى به يُعبّر بوضوح شديد عن كثير من جوانب الحيرة الفكرية التي وقع فيها المتميزون من أبناء مصر ، وهم يفكّرون فيما يجب على بلادهم أن تأخذ به لتتحرّر من التخلُّف أولا أو لتتقدّم قبل أن تتحرر على نحو ما تقدموا هم قبل أن يتقدم الوطن بالمعايير التي رأوها تعبر عن التقدم ، وبالطبع فقد كانت هناك لأفكار عديدة ، و نظريات متنوعة ، واختراعات كثيرة، ووجهات نظر مختلفة، وكان قاسم امين بحُكم تكوينه وذكائه وثقافته واحداً من نُخبة النُخبة ، ذلك أنه كان قد وصل إلى أعلى درجات السلك القضائي مُستشاراً في محكمة الاستئناف الوطنية، بعد ما كان قد تخرّج في مدرسة الحقوق في سن مُبكّرة، وابتعث إلى باريس فأتم بعض الد\راسات القانونية في مونبيليه، وعاد وهو في الثانية والعشرين ليرتقي في السلك القضائي من أوله إلى نهايته.
ولد قاسم بك أمين في ١ ديسمبر ١٨٦٣، وهو نفس العام الذي ولد فيه مفكر قانوني بارز توفي أيضاً في سن مُبكّرة، وإن لم يكن في سن الخامسة والأربعين مثل قاسم أمين، ذلك المفكر هو أحمد فتحي زغلول الذي يفوق قاسم أمين في جهده الفكري الذي تولى به تعرّيف القراء العرب على التراث الفكري الأوربي الحديث بما فيه من أعمال جوستاف لوبين وغيره ، وفي ذلك العام نفسه ولد أيضا اثنان ممّن امتدَّ بهما العُمر فتولوا الوزارة ورئاستها وهم حسين رشدي باشا (1863 ـ 1928) ومحمد سعيد باشا (1863 ـ 1928) ومن الإنصاف أن نُشير إلى أن قاسم بك أمين وأحمد فتحي زغلول باشا كانا يفوقان رئيسي الوزراء من حيثُ إنجازهما الفكري وقُدُراتهما البيانية.
كتاباته عن المرأة
بدأت علاقة قاسم بك أمين بالحياة الفكرية العامة عندما ألّف كتابا كاملا رد به على كتاب مؤلف فرنسي هاجم مصر والإسلام، أما قاسم أمين، فقد دافع في كتابه الأول هذا عن مكانة المرأة ووضعيتها في ظلِّ الإسلام.
ولم يكن قاسم بك أمين في هذا المنهج ، المنحاز للمجتمع الإسلامي على نحو ما هو عليه ، و الذي بدأ به إسهامه في مجال الفكر بعيداً عن توجُّهات مُفكّري عصره على وجه العموم، لكنه لسبب يختلف مؤرّخو الفكر و الأدب في تحديده كتب كتابين تاليين ذهب فيهما شوطاً بعيدا من مخالفة الشائع فطالب بحقوق أكثر للمرأة في المجتمع الذي كان يعيشه، وكان توجُّهُه هذا واضحاً حتى في عنواني الكتابين “تحرير المرأة” و “المرأة الجديدة”، وفي هذين الكتابين هاجم قاسم أمين الحجاب، وهنا نُنبّه إلى ما نبهنا إليه كثيرا من أن لفظ الحجاب في ذلك العصر كان يعني النقاب ، وليس الحجاب الذي نعرفه الآن، كما اعترض على أمور ليس لها علاقة مباشرة بالإسلام، وإنما فرضتها التقاليد والحياة الاجتماعية ، وذلك قبل الزواج المبكر، والاقتصار على قدر ضئيل من التعليم.
وكما هو متوقع، فقد اختلطت عبارات قاسم بك أمين في الهجوم على التقاليد بأفكار أخرى كانت مطروحة في الطريق، لتُشكّل في أذهان المُتربّصين به هجوماً على الإسلام، وكما كان متوقعا مع أصحاب الفكر المجدد في كل بيئة وعصر فقد كان من الطبيعي أن يقع قاسم أمين في بعض الخطأ في استنتاجاته التي يؤيّد بها أحكامه، أو في استنباطاته لما يراه صواباً، أو مُلائماً للعصر والمجتمع الإسلامي.
ونظراً لما كان يبدو من حساسية الموضوع الذي تناوله قاسم بك أمين من ناحية، ونظرا لما كان المجتمع المصري يتمتّع به من يقظة في متابعة الكلمة المكتوبة والمطبوعة، فقد حظيت أفكار قاسم بك أمين وكذلك الأفكار التي هاجمته بأقصى الدرجات المتوقعة من الاهتمام والذيوع والانتشار.
علاقاته السياسية
فيما قبل ذلك ، فقد كانت علاقات قاسم بك أمين السياسية تنتمي به إلى مجموعات النخبة القانونية المُشتغلة بالفكر ، وعلى رأسها الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده ، الذي كان هو نفسه مُستشاراً في محكمة الاستئناف قبل قاسم أمين، وسعد زغلول الذي كان أبرز تلاميذ محمد عبده كما كان هو الآخر مستشاراً في محكمة الاستئناف ، وبهذا الانتماء ، فقد كان قاسم أمين واحداً من سلسلة أو مجموعة فكرية قادت كثيراً من التطورات الاجتماعية والإصلاحية المهمة والجوهرية من قبيل إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية ، وإنشاء الجامعة المصرية، وإنشاء نادي المدارس العُليا ، ثم النادي الأهلي …. وقد كان قاسم بك أمين واحداً من أبرز النشطاء في كلِّ هذه الميادين، وكانت له بصماته الواضحة التي ساعدته في أن يكون شخصية مرموقة في مُجتمع عصره.
ومن الجدير بالذكر، أن أصدقاء قاسم بك أمين لم ينبروا للدفاع عنه بحماس شديد ولا بحماس مفتعل على نحو ما فعل من خالفوه الرأي وانتقدوه بكتابات قوية وواضحة، وقد كان في مقدمة من هاجموه اثنان من قادة الفكر المصري الحديث الممارسين للسياسة في أعلى ميادينها، وهما الزعيم الوطني مصطفى كامل باشا والاقتصادي الكبير طلعت حرب باشا.
على أن أفكار قاسم بك أمين أصبحت فيما بعد سنوات محلاً لدراسات عديدة ولتأريخات متعدّدة الزاوية، وعلى سبيل المثال قد درس المفكر المصري أحمد بك أمين معركته مع الدوق داركور كما كُتبت عنه كُتُب عديدة من أبرزها كتاب الدكتور محمد عمارة: “قاسم أمين: تحرير المرأة والتمدن الإسلامي” وكتاب الدكتور ماهر حسن فهمي وكتاب الأستاذ احمد خاكي وكتاب الأستاذة وداد سكاكيني وقد حملت جميعا اسم قاسم أمين في عناوينها
ماذا تبقى من قاسم أمين بعد أن تغيرت المرأة الجديدة ؟
الإجابة واضحة جدا وهي أنه بقي من قاسم بك أمين دوره الرائد فى تبنّي فكرة من الأفكار التي كانت كفيلة ببدء الحوار الجاد في قضية عالجها الزمن على نحو فاق تصوُّرَه، لكنه أصبح (على سبيل المثال) هدفاً لمن يُريد إلقاء اللوم على الفكر في أيّ تجاوز ترتكبه أيّة سيدة في أيّ موضوع ، وذلك بدعوى أنه ما كان لها أن تسلُك هذا السلوك لولا دعوة قاسم بك أمين إلى تحرير المرأة، وعلى الرغم من وضوح التجاوز المنطقي في هذه الفكرة فإن تيارات اليمين المُتشدّد في كلِّ حضارة لا تفوّت مثل هذه الفرصة في تجسيد خلافاتها أو هجومها.
وهنا أذكر من باب الطرافة أن الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله كان كثيرا ما يتناول في خطبه الحالات الاجتماعية المرتبطة بفساد خلقي أو تجاوز سلوكي تكون المرأة طرفا فيه وكان مغرما كلما انتهى من نقد حالة من هذه الحالات أن يسترجع ويردف بترديد جملة تلك الجملة الجميلة الوقع والملمس التي تقول: ” تركوا سنة القاسم الأمين وساروا خاف قاسم أمين”.
ومع أن مكانة قاسم بك أمين الفكرية المُستندة إلى هذه المعركة لا تكفل له، وحدها، موقفاً مُتقدّماً بين مُفكّري عصره فإن ذكر قاسم بك أمين يظلُّ حاضراً على الدوام بسبب ما أثير حول دعوته من ضجيج، أكثر من أن يكون هذا بسبب دعوته نفسها.
الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على وفاته وقصيدة الشاعر علي الجارم
على أن إبرز تكريم حظي به قاسم أمين أنه احتفل في 1938 بمرور ثلاثين عاماً على وفاته، ونظم الشاعر علي الجارم في هذه المناسبة في هذه المناسبة.
وتتمثل أهمية قصيدة الشاعر على الجارم في أنه وظف فيها، من دون قصد ولا من أو استعراض – معارفه السيكولوجية والتربوية في تقييم غير مباشر لطبيعة الدور الذي لعبه قاسم أمين في تاريخ وطنه. وبهذا تفوق الشاعر الجارم عاى الكتب المطولة التي كتبت عن قاسم أمين.
وفي هذه القصيدة نرى كثيرا من التصوير الجيد لمكانة قاسم أمين ودوره الفكري والاجتماعي. وقد بدأ الشاعر علي الجارم قصيدته عن قاسم أمين بداية كلاسيكية تحدث فيها عن المشاعر الذي تؤلم النفس من الحزن والألم والوجد والملل، حينما يطلب من الثغر أن يبتسم بالرغم من الاكتئاب والألم اللذين يسيطران على القلب والنفس:
مَلَّ مِنْ وَجْدِهِ وَمِنْ فَرْطِ مَا بِـهْ / وَأرَاقَ الشَّـــرَابَ مِنْ أَكْوَابِــهْ
وَإِذا الْقَلْــبُ أَظْمَأَتْهُ الأَمَانِـــــيُّ / فَمَـــاذَا يُرِيدُهُ مِــنْ شَرَابِـــــهْ
وَإِذَا النَّفْسُ لَمْ تَكُنْ مَنْبِـــتَ الأُنْ / سِ تَنَاءَى الْقرِيبُ مِنْ أَسْبَابِهْ
وَأَشّدُّ الآلاَمِ أَنْ تُلْزِمَ الثَّغْــر َابت / ساماً وَالْقَلْبُ رَهْــنُ اكتِئاَبِــهْ
ثم يتحدث الشاعر علي الجارم عن ظاهرة تكرار الأسى لفقد الشباب من الواعدين، وما يصحب هذا من فقدان النبوغ والأمل، لا لشئ، إلا لأن الدهر بخل على العقل أن يصل إلى مبتغاه:
كُلَّما اخْتَالَ في الزَّمـانِ شَبَـــابٌ / عَصفَتْ رِيحُـــهُ بِلَدْنِ شَبَابِـــــهْ
وَالنُّبُوغُ النُّبُوغُ يَمضي وَتَمْضِي / كلُّ آمـــالِ قَوْمِـــهِ في رِكَابِـــهْ
غَرِدٌ مَــا يكَــــادُ يَصْدَحُ حَتَّــــى / يُسْكِتَ الدَّهْــرُ صَوْتَّهُ بِنُعابِـــهْ
وحَبابٌ إِذَا علاَ الْسَمـــاءَ وَلَّــــى / فَاسْأَلِ الْمَاءَ هَلْ دَرَى بِحَبابِــهْ
وسَفينٌ مَـا شَـارَفَ الشَّطَّ حَتَّــــى / مزَّقَ الْيَــــمُّ دُسْــرَه بِعُبَابِـــــهْ
بَخِلَ الدَّهْــرُ أَنْ يُطَـــــوِّلَ لِلْعَقْــــ / ـــلِ فيَجْري إلَى مَدَى آرَابِـــهْ
كلَّمَا سَـــارَ خُطْوَة ً وَقَفَ الْمَـــــوْ / تُ فَسَدَّ الطَّريقَ عَنْ طُلاَّبِـــهْ
وَابْتِدَاءُ الْكَمَـــالِ في عَمَلِ الْعَـــــا / مِلِ بَدْءُ الشَّكاة ِ مِنْ أَوْصَابِــهْ
ضِـلَّة ً نَكْتُـمُ الْمَشِيــبَ فَيَبْــــــــدُو / ضَاحِكاً سَاخِراً خِلالَ خِضَابِهْ
ويبدأ الشاعر علي الجارم في الاقتراب من عبقرية قاسم أمين، فيتساءل عن هذا الحظ الذي عاجله فلم يمهله في إنضاج فكره والدخول إلى عالم الجهاد:
أَينَ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُرْشِدَ الدُّنيَا / وَسَوْطُ الْمَنُــــون في أَعْقَابِـــــهْ
أَيُهَا الْمَوْتُ أَمْهِلِ الْكَاتِبَ الْمِسْــ / ـكِينَ يُرْسـلْ أَنْفَاسَــهُ في كِتَابِــهْ
آهِ لَوْ يَشْتَرِي الزَّمَانُ قَرِيضـــى / بِسِنينٍ تُعَـــدُّ لِـــي في حِسَابِـــهْ
مَا حَيَاتِي وَالْكَـوْنُ بَعْدَ جِهَــــــادٍ / لَمْ أَزَلْ وَاقِـفــاً عَـــلَى أَبْوابِـــهْ
تَظْمأُ النَّفْسُ في حَيَاة ٍ هِيَ الْقَـــــ / ــفْرُ فَتَرْضَى بِنَهْلة ٍ مِنْ سَرابِهْ
كيف عبرت صورته الفوتوغرافية عن نفسيته
يتحدث الشاعر على الجارم عن المفارقة المتمثلة فيما يلحظه المتأمل في الصورة الفوتوغرافية لقاسم أمين والتي يراها الجارم بعين الشاعر وكأنها تعبر عن شباب القلب، بينما الرأس قد أصابه الشيب على نحو ما يرى الشاعر نفسه، وعلى نحو ما نراه من منطق حديثه بضمير المتكلم عن قاسم أمين:
أنَا قَلْبي مِنَ الشَّبَابِ وَجِسْمي / أَثْخَنَ الشَّيْبُ رَأْسَهُ بِحِرَابِــــهْ
أَمَلٌ هَذِهِ الْحَيَاة ُ فَهَــلْ يَعْثُرُ بِـ / ـي الْمَوتُ دُونَ وَشْك طِلاَبِهْ
كُلَّمَا رُمْتُ لَمْحَــة ً مِنْ سَنَـــاهُ / هَالَنِي بُعْدُهُ وَطُولُ شِعَابِــــهْ
مَا الذَّي تَبْتَغِي يَدُ الدَّهْـرُ مِنِّـي / وَدَمِي لا يَزَالُ مِلءَ لُعَابِـــهْ
ويلتفت الشاعر علي الجارم إلى الدهر فيرجوه أن يعطيه الفرصة ليملأ أسماع الناس بما يخطه يراعه من فن لا حدود له:
دَعْ يَرَاعِي يا دَهْرُ يَمْلأ سَمْعَ النِّـ / ـيلِ مِنْ شَدْوِهِ وَعَزْفِ رَبَابِهْ
كُلُّ شَيىء لهُ نِصَـــابٌ سِـوَى الْفَـ / ـنِّ فلا حَدّ ينتهي لنصابــــه
تعاطف الجارم مع قاسم أمين بسبب رحيله المبكر
ثم ينطلق الشاعر على الجارم في الحديث عن قاسم أمين بعد كل هذه التمهيدات السيكولوجية التي تقترب بالمتلقي من أشد درجات التعاطف مع قاسم أمين الذي عاجله الموت:
عصفتْ صَيحة ُ الرَّدى بخطيبٍ / وَهْوَ لَــــمْ يَعْدُ صَفْحَة ً مِنْ خِطَابِهْ
سَكْتَة ٌ أسْكَتَـــتْ نَئِيــــجَ خِضَـــمٍّ / عَقَــــدَ النَّـــوْءُ لُجَّــــهُ بِسَحَابِـــــهْ
سَكْتَهٌ أطْفَأَتْ مَنَـــــارَ طَرِيــــــقٍ / كَمْ مَشَتْ مِصْرُ في ضِيَاءِ شِهَابِهْ
وَمَضـــى قَاسِمٌ وَخَلَّف مَـجْــــــداً / تَفْرَعُ النَّجْــــمَ رَاسِيَـــاتُ قِبَابِـــهْ
تصوير الجارم لموقف المجتمع من قاسم أمين
ويوازن الشاعر على الجارم بين موقف المجتمع الذي ينتمي هو نفسه إليه من قاسم أمين، وفكره، وهو موقف بدأ بالاستنكار لكنه تحول مع الزمن إلى التقدير. ويبدع الشاعر على الجارم في تصوير هذه المفارقة في موقفه هو نفسه وموقف أنداده من قاسم أمين ويقدم أبياتا رائعة الدلالة في تصويرها واتزانها وحكمتها:
قَدْ نَكِرْنَاهُ حِينَ قَـــــامَ يُنَـــــادِي / وَفَهِمْنَا مَعْنَـاهُ يَـوْمَ احْتِسَابِـــــهْ
رُبَّ مَنْ كُنْتَ في الْحَيَاة ِ لَهُ حَـرْ / باً شَقَقْتَ الْجُيُوبَ عِنْدَ غِيابِـــهْ
وَتَحَدَّيْــتَ شَمْسَــهُ فَإذا وَلَّــــــــى / تَمنَّيْتَ لَمْحـَة ً مِـنْ ضَبَابِـــــهْ
لَــــــمْ يَفُزْ مِنْكَ مَــــرَّة ً بِثَنَــــــاءٍ / فَنَثَرْتَ الأزْهَارَ فَوْقَ تُرَابِـــهْ
يُعْرَفُ الْوَرْدُ حِينَمَا يَنْقَضِي الصَّيْـ / ـفُ وَيُبْكي النُّبُوغُ بَعْدَ ذَهَابِهْ
كَمْ نَدَبْنَا الشَّبَــــابَ حِيــــنَ تَوَلـــى / وَشُغِفْنَـا بِالْبَدْرِ بَعْدَ احْتِجَابِـهْ
ويذهب الشاعر على الجارم خطوات واسعة في تصوير ما يمكن وصفه بسوء حظ قاسم أمين على الرغم مما كان يتمتع به من شموخ:
كَتَبَ اللّهُ أَنْ يَعِيشَ غَريبــــــــاً / كُلُّ ذِي دَعْوَة ٍ إلى الْحَقِّ نَابِــهْ
لا تَرَى فَوْقَ قِمَة ِ الطَّــــوْدِ إِلاَّ / بَطَلاً لا يًهَــابُ هَوْلَ صِعَابِـــهْ
كُلُّ ذَاتِ الْجَنَاحِ طَيْرٌ وَلَكِـــــــنْ / عَرَفَ الْجَوُّ نَسْرَهُ مِن غُرَابِـهْ
كَمْ رَأَيْنَا في النَّاسِ مَن يَبْهَرُ الْعَيْـ / ـنَ وَمَا فِيِه غَيْرُ حُسْنِ ثِيَابِــهْ
يَمْلأُ الأرضَ وَالَّسمــــاءَ رِيَـــــاءً / وَعُيُوبُ الزَّمَانِ مِلءُ عِيَابِهْ
ويعود الشاعر على الجارم إلى تحليل موقف الناس من قاسم أمين حين واجهوه بالنقد والاعتراض، بل بالسب في بعض الأحيان فيقول:
نَقَدَ النَّـــاسَ قَاسِمـــــاً فَــــرَأَوْهُ / أَصبَرَ النَّاسِ في تَجَرُّعِ صَابِـهْ
حُجَّة ُ الْجَاهِلِ الْمِرَاءُ فاِنْ شَـــا / ءَ سُمُـــوًّا أَمَدَّهَـــا بِسَبَابِـــــــهْ
قَدْ يُغَشِّى الْوِجْدانُ بَاصِرَة َ الْعَـ / ـقْلِ فَيُعْمِيهِ عَنْ طَرِيقِ صَوَابِهْ
جسارة قاسم أمين في التصدي لسطوة القديم
وبعد كل هذا يبدأ الشاعر على الجارم في مديح صنع قاسم أمين والإشادة بشجاعته وصولاته وجرأته وتحمله مرارة العذاب، وجهاده من أجل تثقيف الشعب بلا تدليل وإصلاح المجتمع رغم الصعوبات، ومواجهته سطوة الجهل بجهاد عفيف، على الرغم من أن العصر كان لا يزال عصرا للقديم وسطوته:
صَــالَ بِالرَّأْي قَاســـمْ لاَ يُبَالــــــي / وَمَضَى في طَرِيقهِ غَيْرَ آبِــــهْ
كِمْ جَرىء لاَ يَرْهَبُ السَّيْفَ إنْ سُلَّ / وَنِكْـسٍ يَخَــافُ مَسَّ قِرابِــــهْ
وَالشُجَــــــاعُ الَّذي يُجَــــاهِرُ بِالْحَــ / ـقِّ وَلَوْ كَانَ فِيهِ مُرُّ عَذَابِـــــهْ
كَيْفَ يَهْدي النَّصِيحُ إِنْ رِيعَ يَوْمــــاً / مِنْ قِلَى مَنْ يُحِبُّ أَوْ إِغْضَابِهْ
وَطَرِيقُ الإِصْلاَحِ في كُلِّ شَعْبٍ / عَسِــــرُ الْمُرْتَقَى عَلَى مُجْتَابِـــــهْ
يَعْشـــــَقُ الشَّعْــــبُ مِنْ يُدَلِّلُهُ زُو / راً بِمَذْقٍ مِنْ سُخْفِـــهِ وَكِذَابِـــــهْ
قُمْتَ لِلْجَهْــــــلِ تَقْلِمُ الظُّفْرَ مِنْـــهُ / وَتَفُضُّ الْحِدَادَ مِنْ أنْيَــــابِـــــــهْ
فِي زَمانٍ كَانَ الْقَدِيمُ بِهِ قُدْ / ساً يُذَادُ الْجَدِيـــــدُ عَــنْ مِحْرابِــــــــــهْ
ثلاثة القاب : نصير الإمام و نصير النساء وفتي الكرد
ثم يمنح الشاعر على الجارم قاسم امين ثلاثة ألقاب جميلة تبدأ بلقب جميل يناديه به / وهو نصير النساء، ويفيض في وصف ما جعله يستحق هذا اللقب عن جدارة:
يَانَصِيــــرَ النِّسَاءِ وَالدِّينُ سَمْحُ / لَوْ وَعَيْنَــــــا السَّرِيَّ مِنْ آدَابِــــهْ
قَدْ خَشَينَا على الْحَمائِمِ في الدَّوْ / حِ أَظافِيــرَ بَـــازِهِ أَوْ عُقَابِــــــــهْ
إنْ أَرَدْتَ الظِّبَاءَ تَمْرَحُ فِي الـ / ـسَّهْلِ فَطَهِّرْ أَكْنَافَـــــهُ مِنْ ذِئَابِــــــهْ
كَمْ ضِرَاءٍ وَسْطَ الْمَدَائِنِ أَنْكى / مِنْ ضِرَاءِ الضِّرْغَامِ في وَسْطِ غَابِهْ
وشِبَاكِ مِنَ الْجَــــرائِمِ والْخَتْلِ / حَوَاهَــــا شَيْطَانُهُـــمْ فِي جِرَابِــــــهْ
وَإِذَا مَا الْحَيَاءُ لَمْ يَسْتُرِ الْحُسْــ / ـــنَ فَمَاــذَا يُفِيـــــدُهُ مِــأنْ نِقَابِـــــــهْ
ثم ينتقل الشاعر على الجارم انتقالة ذكية يصور بها فضل قاسم أمين في تمكين المرأة من العلم، وأثر دعوته الجريئة في مستقبل بنات ذلك الجيل الحاضر، ثم هو يصل في تدليل قاسم أمين إلى تسميته بفتى الكرد ونصير الإمام يقصد الإمام الشيخ محمد عبده:
قُمْتَ تَدْعُو الْبَنَاتِ لِلْعِلْمِ فَانْظُرْ / كَيْفَ حَلَّقْنَ فَوْقَ شُمِّ هِضَابِــــهْ
وَزَهَا النِّيلُ بابْنَة ِ النِّيلِ فَاخْتَـــا / لَ يَجُرُّ الذَيُولَ مِــنْ إِعْجَابِــــهْ
وَغَدَا الْبَيْتُ جَنَّـــة ً بالَّتـــي فِيــ / ــهِ خَصِيباً بالأُنْسِ بَعْــدَ يَبَابـهْ
يَا فَتَى الْكُرْدِ كَمْ بَرَزْتَ رِجــالاً / مِنْ صَمِيمِ الْحِمَى وَمِنْ أَعرَابِه
نَسَبُ الْمَرْءِ مَا يَعُدُّ مِنَ الأعْـــــ / ــمَالِ لا مَا يَعُـــدُّ مِنْ أَنْسَابِـــه
كَمْ سُـــــؤَالٍ بَعَثْتُ إِثْرَ سُــــؤَالٍ / أَيْقَظَ النَّائِميـــنَ رَجْعُ جَوَابِــه
كُنْتَ فِي الْحَقِّ لِلإِمَامِ نَصِيـــــراً / وَالْوَفِيَّ الصَّفِيَّ مِنْ أَصْحَابِه
نَمْ هنِيئاً فَمِصْرُ نَالَتْ ذُرَا الْـــــ/ ـــمَجْدِ وَفَازَتْ بِمَحْضِهِ وَلُبَابـه
مِنْكَ عَزْمُ الدَّاعي وّفَضْلُ الْمُجَلِّي / وَمِنَ اللّهِ مَا تَرَى مِنْ ثَوَابِـه
وفاته وذريته
فيما بعد وفاته أوحت مذكرات سعد زغلول بأن قاسم بك أمين مات منتحراً، وكان قاسم بك امين قد أنجب ذرية من البنات، ولم يُنجب ذكوراً، وقد تزوج أحد أسباطه وهو المسمى باسمه “قاسم أمين” من السيدة روز اليوسف، وتوفيت هذه السيدة الرائدة وهي على ذمته، فكان من ورثتها مع ابنها الأستاذ احسان عبد القدوس وابنتها السيدة آمال زكي طليمات.
توفي قاسم أمين في 22 ابريل 1908 في نفس العام الذي توفي فيه الزعيم مصطفى كامل باشا، وإن كان مصطفى كامل باشا قد سبقه إلى الوفاة بشهرين (10 فبراير 1908) عن سن أصغر من سن قاسم بك أمين لم يصل عمر مصطفى كامل باشا إلى الرابعة والثلاثين..
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا