كنت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين أتوقع في مقالاتي ومناقشاتي وأبشر بأن تجليات عصر الإنترنت باتساعها تتطلب أجيالاً قادرة على التعامل مع المعلومات وأجيالًا أخرى قادرة على التعامل مع الحاسبات، لكني كنت أؤمن أن التعامل الجيد مع المعلومات هو الكفيل بإجادة التعامل مع الحاسبات، وليس العكس، لهذا كله كنت دائما حريصًا على توكيد فكرة أن تكون الحاسبات مقترنة بالمعلومات بل بالمكتبات التي هي القسم العلمي الذي تندرج تحته الإسهامات الجديدة في الثقافة التي ستنشأ مصاحبة للإنترنت.
كان فهمي مختلفًا تمام الاختلاف عن فهم المهندسين وأساتذة الهندسة، وكان هذا سببًا غير معلن لتحفظهم على أفكاري التي كانوا يظنونها جانحة إلى اليمين او إلى الماضي، وكنت أعلم تمام العلم أنه من الصعب عليهم أن يتقبلوا فكرتي لأنهم يرون النهاية مختلفة، هم يرون أن ما سبق من العلوم أدى إلى ما عثروا عليه أخيرًا في أنظمة المعلومات، وأنا أراها وسيلة إلى الوصول إلى بدايات أخرى للعلوم القديمة، لا يزال هذا الاختلاف الفكري قائما بيني وبينهم، ولا أظن أن أحدًا منهم بحكم مسار حياتهم العلمي والهندسي كان سيصدق يومًا ما أن عليه أن يعدل من فكره ليكون على نحو ما أفعل. لكن ثورة 25 يناير جاءت لتثبت لهم بطريقة غير مباشرة أن الأمور ليست كما يظنون، وأنهم لا بد أن يعرفوا أن هناك حياة، وأن الهندسة تهندس هذه الحياة، لكنها لا توجدها، وأن الأنماط الهندسية (أو الأنساق المعلوماتية) التي تتخلق على أيديهم لا تفرض نظامًا، وإنما قد تنظم ما هو موجود وقد لا تنظمه.
ثورة 25 يناير كانت بلغة الهندسة خروجًا على المألوف
كانت ثورة 25 يناير من منظور علوم الهندسة خروجًا على المألوف بطريقة عشوائية غير محددة الهدف، لكنها كانت بمنظور المعلومات تأطيرًا لأفكار متآزرة من أجل خلق واقع جديد، كان من السهل على محترفي الهندسة أن يعوقوا التأطير، لكنهم كانوا ولا يزالون عاجزين عن وضع تأطير بديل مقنع، ولو كانوا نجحوا في ذلك لوضعوه ويستوي في ذلك رؤساء الوزراء المهندسون المتعاقبون: أحمد نظيف، وعصام شرف ،وهشام قنديل، وإبراهيم محلب، وشريف إسماعيل؛ ذلك أنك لا تجد في التوجهات الفلسفية المعلنة لهؤلاء جميعا تناولًا جادًّا للتعامل الأمثل مع الثورة بالمعلومات، وإنما تجد عودة إلى أسلوب البيرواقراطية الذي يتحاور في المفردات والجزئيات من أجل الوصول إلى الاستقرار او السيطرة او التوافق.
قصة توفير الحاسبات للشباب
كنت أطلقت في مقالات منشورة دعوات جادة لأن تعطي الدولة لكل طالب جهاز حاسب آلي ورسمت التدرج في هذه الخطة عامًا بعد عام حتى يصبح لكل طالب جهاز كمبيوتر خاص به، وعلى عادة الجيل السابق رحب الدكتور حسين كامل بهاء الدين بالفكرة مع ما جبل عليه ذلك الجيل من وضع الضوابط والتحفظات والقواعد بحيث تكون النتيجة أن يفقد الاقتراح الزخم وألا تحدث الثورة التي كنت أتصورها.
في مقابل هذا أخذ أحمد نظيف وهو يومها وزير الاتصالات الفكرة من منطق تجاري بحت هو التجارة في الكمبيوتر، وقد كانت أدواته البيروقراطية في وزارة الاتصالات تساعده، فهو لا يحتاج من الطالب إلى ضمان مالي وإنما يتمثل الضمان في خط التليفون الأرضي، وتقوم هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية (أي هيئة التليفونات) من خلال مكاتبها في السنترالات بالدعم اللوجستي المطلوب لبيع هذه الكمبيوترات وتحصيل أقساطها، كان الصحفيون المسئولون المطلعون يقولون لي: إنك صنعت العراك بين الوزيرين وتركتهما يتصارعان، وكنت أقول لا يهمني هذا ولا ذاك، لكن انتشار الكمبيوتر بأية صورة هو الذي سيغير كل شيء.. إن هذا الكمبيوتر الذي يدفع الفتى أقساطه اليوم سيكون مستهلكا تمامًا (كهنة) بعد عامين، وربما لا يجد من يحمله من على الأرض، لكنه سيكون قد غيّر تماما من تعامل الشباب مع الحياة.
تحول رأس المال إلى أن يتكون من أفكار متطايرة
كان المثقفون الشيوعيون القدامى يبتسمون لأفكاري بعد مناقشات طويلة، ويقولون: هل أنت الآن تريد وضع نظرية لرأس المال مع اختلاف رأس المال من أصول ثابتة إلى أفكار متطايرة، وكنت أقول لهم: لكني لن أكون صاحب إنجيل، فيقولون إذا كنت تؤمن بهذا الذي تسميه التطاير والإشعاع والتشعيع فكيف يكون لك إنجيل؟ يكفيك ما كتبت من أناجيل.
بينما كان الشيوعيون يتثبتون من أن توجهي ليس معاديا، فقد كان هواة الأدب الخبثاء من الذين يجيدون تحقير الأمور الكبيرة يحاولون أن يستفزونني بكلمة الأرشيف، وهو أنني معني بأن أدخل الأجيال القادمة عالم الأرشيف، لكني كنت أرد عليهم ردًّا حارقًا لم يتوقعوه، وهو أن الأرشيف أكبر بكثير من هذا الذي نفهمه ونحن في سبيلنا إليه قد نعلم وقد لا نعلم … كانت كلمة الأرشيف قد لقيت حظًّا عاثرًا بسبب ورودها في الأعمال الأدبية مقترنة بقسم كان ينفى إليه الموظفون ذوو الحظ العاثر مع رؤسائهم، ولم يكن أحد حتى ذلك الوقت قادرا على أن يصدق أو أن يعرف أن الأرشيف هو أهم مظاهر الحضارة.
أذكر أننا كنا في عشاء محدود العدد، وأن ناشرًا محترفًا حاول أن يتبسط معي بما كان المختلفون معي يثيرونه من اهتمامي المفرط بضبط التواريخ وتوثيقها، وإذا بي بمنتهى الهدوء أصيح في هذا الرجل صياحًا شديدًا كاد أن يبكيه بكل قسوة، بل ربما أبكاه، قال لي أحد الأصدقاء يومها إن الرجل كان يجاملك، ومن الواضح أنك كنت في حالة هدوء نفسي ولم تكن مستثارًا بكلامه او مستاءً منه، وإنما انتهزت الفرصة لفرض رأيك، فهل كنت تريد أن تؤدبنا جميعًا، قلت: نعم لم أكن مستثارًا منه، لكني كنت أخشى على الفكرة أن تكون محل تهريج واسترزاق وقتي فقط، وأن تنطبع في أذهانكم على هذا النحو، ولو أني لم أفعل هذا كنت خائنا.
الثورة جد لا هزل فيه
في الحقيقة، فإن ثوار 25 يناير كانوا واعين متيقظين منتبهين، ولم يكونوا مندفعين باستثارة مبيتة أو محددة، ولم يكن يهمهم أن يكون لهم كتاب كرأس المال، لكنهم في الحقيقة كانوا في مثل موقفي مع صديقي الناشر الذي كان لا بد له أن يفهم أن الثورة جد لا هزل فيها وأنها ليست فعلًا مؤقتًا ولا رد فعل فحسب.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا