فيما قبل ثورة ٢٥ يناير بشهور كانت وجهة نظري المعلنة في الفضائيات (وليست المقتصرة على النوادي السياسية) أن من حق الفريق أحمد شفيق أن يطلب المناصب والجاه والنفوذ وأنه لا بأس في أن يواصل إعداد نفسه إعلاميا ودعائيا لدور سياسي قادم، لكن من حق الوطن على من يختاره رئيس الدولة لمثل هذا الدور أن يخرج للعمل سفيرًا ليرى العالم الغربي عن قرب، وليطور من عقلية “الميز” إلى عقلية أخرى تتعامل مع الحياة المفتوحة في زمن أصبح من الصعب على العسكريين أن يفهموه من أعلى.
ومن العجيب أنني على ما قد لا يصدقه الناس وجدت نفسي وقد تأثرت وتشنجت وبكيت بعد هذه الواقعة بعشر سنوات، حين رأيت على الطبيعة حدود عقل وإدراك شفيق قبيل ترشيحه لرئاسة الجمهورية وبعد إقالته من رئاسة الوزارة بفترة، حيث وجدته يقول في حوار جاد جدًّا: “إن البلد باظت” من يوم وفاة جمال عبد الناصر، ولا بد من العودة بها إلى أيام جمال عبد الناصر، يومها احسست أننا قد نمضي على طريق كوريا الشمالية بأسرع مما يتصور أي إنسان، ويومها بعد أن بكيت وانزاح عن صدري بعض الهم بذلك البكاء، بدأت أفكر في أن الهجرة أصبحت ضرورية وواجبة رغم تقدمي في السن وتدهور صحتي!
أعود إلى مطلع الألفية حين تطورت الامور وأصبح أحمد شفيق وزيرًا للطيران المدني قادمًا من قيادة القوات الجوية مباشرة، حضرت عشاء في ذلك اليوم فسمعت أحد الزملاء العاقلين يتوقع بدء عصر التطويرات المظهرية المهمة والمكلفة في الوقت نفسه، فقلت: إن كل ما بناه فهيم ريان من انضباط وبنية أساسية سينهار، وإننا سندخل عصر تشييد مبنى مكيف لكنه يفتقد أساسيات تفكير “السوفت وير”، فلا يتناسب فيه عدد الشبابيك والكاونترات والسيور والناقلات مثلا مع ضغط التشغيل ولا مع معدلاته ولا مع مستوى التميز في الخدمات.. إلخ. وقد حدث. وقلت إننا سندخل عصر انتشار الضباط المتقاعدين في المطار مع ما سيتسبب عن هذا من سهولة اللجوء إلى قرارات تكون نتيجتها وبالا على مبنى المطار ومحيطه بسبب تعطيل حركته وإغلاق أبوابه، قلت إننا سنشهد إضرابات واضطرابات بين الطيارين والمضيفات والعاملين في المكاتب الخارجية، قلت: ستضيع أملاك مصر للطيران في الخارج، وبخاصة مكاتبها الواقعة في أماكن متميزة اشتراها طلعت حرب باشا في أيام العز (وأكل الوز كما يقول التعبير الشعبي).
قال لي واحد من أساتذتنا الصحفيين الذي سمع توقعاتي وكان يحبني حبًّا جمًّا، يا دكتور محمد من الواضح أنك لا تكره شفيق، وإنما تكره له هذا الموضع بهذه الطريقة وبهذه النقلة، بدليل أنك كنت تريده سفيرًا في لندن أو واشنطن.. لكن الذي لا يعرفك ويسمع ما قلت الآن سيظن أنك كنت تريد أن تكون أنت وزيرًا للطيران، مع أن هذا غير وارد أو يظن على الأقل أن صديقًا لك كان ينتظر المنصب، وكنت تنتظره له، أو كأنك رشحت لصاحب القرار من فاته قطار المطار وضحك وسرعان ما أردف (ناصحا بصدق)، فأرجوك أن نجعل ما قلته هو الفقرة الثانية من أي حديث صحفي معك في هذا الموضوع وأن تجعل الفقرة الأولى هي ما تتوقعه من إيجابيات يمكن أن تتحقق على يد أحمد شفيق، كانت النصيحة غالية وذهبية من أستاذ مخلص يتمنى لهذا السياسي الواعد تأثيرًا في مجريات الأمور في بلده.
بعد أن التقط أستاذنا نفسه قال: يا دكتور محمد حاول أن تبحث بتفكيرك عن إيجابيات يمكن أن يحققها أحمد شفيق في الطيران المدني واذكرها، وليس ضروريًّا أن تقولها الآن إذا لم تكن مستعدًّا.
قلت له بالعكس: أنا مستعد.
قال: هذا دليل على أنك إنسان منصف، فتفضل ونحن نسمع لك، قلت إن أحمد شفيق سيكون قادرًا على تفتيت إيجابي لمصر للطيران، وما إن نطقت الكلمة حتى استبشر المستمعون، وقال بعضهم إنه يسمع هذا المصطلح لأول مرة، لكنه جميل، وبدأت أشرح أن أحمد شفيق لن ينتظر حتى يسمع عن كل شيء في مصر للطيران من شخص واحد هو رئيسها لكنه سيجد أن الحل العملي هو أن يحول قطاعاتها إلى شركات مستقلة، وأن تكون مصر للطيران بمثابة شركة الشركات أي شركة قابضة، ترك الحاضرون الطعام وبداوا ينصتون إلى ما أقول.
قال المحبون لأحمد شفيق: لو فعل هذا لكفاه، وهو قادر على أن يفعله.
وقال الكارهون لأحمد شفيق: هل تظنه يفهم هذا؟
قلت ردًّا على هؤلاء الكارهين إن هذا هو الدواء الوحيد وليس مطلوبًا من المريض أن يصف الدواء لنفسه ولا أن يبحث عنه في مراجع الطب لكن الدكتور يختار الدواء وعلى المريض الالتزام به إذا أراد الشفاء.. وأظن الحالة لا تخرج عن هذا، قطع علينا أكثرنا شبابا الاستمرار في هذا الحديث الذي بدا للجميع شيقا وقال: يا دكتور وظف مهاراتك لخدمة اسمك واكتب أفكارك هذه في مقالات مبسطة كما كنت تفعل.
قلت إن بعض المقالات يأتي بأثر عكسي ويتكبر الوزراء أن ينفذوا أفكار غيرهم.
هنا عاد أستاذنا الكبير إلى إدارة الحوار وقال: لا تسرف في تقدير قيمتهم، أنت أكبر منهم جميعًا، اكتب للتاريخ وليس للحاضر، وبدأت فكتبت مقالًا بعنوان حاجتنا إلى مطار جديد في مدينة 6 أكتوبر أبرزته الأخبار في المكان الأول بين مقالات صفحة الرأي. ذهبت الكلية فلما حان اجتماع مجلس القسم في ذلك اليوم طلب منا أستاذنا العظيم الدكتور لطفي، عليه رحمة الله، أن نستمع إلى شيء سيقوله متواصلًا بدون أن نعترض سيل الحديث، ولم يكن هذا من عادته، وإذا به يقرأ المقال كاملا من الذاكرة بعدما استظهره بالأمس فلما انتهى سأله بعض زملائي الأكبر مني: هل هذا مقال لمحمد، قال نعم. قالوا (في حب ظاهر): هل يستحق وهو [العاق] أن تستظهر مقالاته على هذا النحو، قال: أمر الله.
ثم أخذ أستاذي وزملائي يتداولون في أمور التخطيط والتنمية بجدية وحماس واستنارة وأنا صامت تماما، لكني أصبحت على يقين في تلك اللحظة في مطلع الألفية أن الثورة قادمة، أعود الآن إلى سياق الحديث الذي ذهب بنا إلى النقل والمواصلات والطيران، وهي نفسها الموضوعات التي تمثل ميادين الثورة الكبرى في عالمنا المعاصر.
بعدما مرت السنوات وأصبح أحمد شفيق على وشك إتمام خطوات الترشح لرئاسة الجمهورية، إذا بالناس يجدونني أصرح علنًا في فضائية من الفضائيات أن قرار أحمد شفيق قرار خاطئ حتى وإن انتخب رئيسًا بالفعل، وأنه لم “يرتكب” هذا القرار الخاطئ إلا بعد وفاة الملاك الحارس الذي كان يحميه من الاستجابة لمثل هذه الدعوة إلى الترشح، وإذا بأحد الأصدقاء الأعزاء الذين كانوا في غرفة العمليات الانتخابية لأحمد شفيق يهاتفني على الفور وهو منزعج أشد الانزعاج أن يصدر مثل هذا التعبير عني!، وأن الناس لم تتعود مني هذه المواقف!، وكيف أخلط بين وفاة زوجته وترشحه.. وأبني مثل هذا الزعم. انتظرت حتى انتهى صاحبي من كلامه، قلت: هل تظنني أفعل مثل هذا من تلقاء نفسي، إن الفريق شفيق نفسه هو الذي قال هذا لفلان في حواره المنشور في جريدة كذا من أسبوعين، سرعان ما تركني صديقي معتذرًا بطارئ، وبعد عشر دقائق كان يعتذر لي لأنه وجد الفريق شفيق نفسه قد قال هذا الكلام، كانت السيدة عزة زوجة شفيق ابنة لمحمد محمد توفيق عبد الفتاح وهو وزير سابق للشئون الاجتماعية (1958) وسفير سابق بعد ذلك، وكان من دفعة تالية لدفعة المشير عبد الحكيم عامر، ومن الطريف أن توأم والدها أي عمها زكريا أصبح وزيرًا هو الآخر في 1975 أبريل مع ممدوح سالم، وظل وزيرًا للتجارة طيلة وزارات ممدوح سالم الخمس، سارت حملة شفيق على نحو ما يعرف كل الناس أنها سارت، وجاء الموقف منها على خلاف كل ما هو متوقع، كما جاء الموقف منها على خلاف كل ما هو شائع، وهي حالة نادرة في التاريخ.
– فمن الشائع الآن أن القوات المسلحة كانت مع أحمد شفيق والحقيقة أن القوات المسلحة كانت ضد شفيق على طول الخط (وليس لهذا علاقة بصندوق الانتخابات على كل حال)، لكن القوات المسلحة فيما هو معلن من مواقفها لا تستطيع أن تقول إنها كانت ضد ابن من أبنائها، والإخوان المسلمون على الناحية الأخرى لا يقولون إن القوات المسلحة كانت ضد شفيق، فهم لا يتوقعون هذا ولا يصدقونه ولا مصلحة لهم في ترديده.
– ومن الشائع أن شفيق كان على وشك الفوز لكن الحقيقة أن هناك أصواتًا كثيرة حسبت لشفيق (أو صبت عنده) على نحو أو آخر، بينما هي لم تكن لشفيق أصلًا. لكن هذا كان هو الحل أو البديل الوحيد عند بعض مَنْ كانوا لا يريدون الإخوان ولا الإسلام على مستوى فردي. – ولأن هذه الحسابات تمت على مستوى فردي، فمن المستحيل أن يثبتها أحد ومن المستحيل أن يبني عليها أحد.
– لكن هذا حدث كثيرًا وكثيرًا جدًّا.
-من الشائع ثالثا أن شفيق كان يحظى بتأييد السلفيين، لكن الحقيقة أن حزبًا واحدًا ممن نسب إلى السلفيين، بدأ يناور الدولة العميقة بادعاء تأييده لشفيق، حرصًا على وجود الحزب نفسه، ولم يكن هذا الحزب قابلًا لشفيق لا سرًّا ولا علنًا، لكنه كان سعيدًا أن يوصف بأنه مع شفيق ليتجاوز بهذا الأزمة التي كان يراها قادمة لتعصف به. وكان هذا الحزب بمنطق سياسي براجماتي على صواب فيما فعل، وإن كان قد عانى من سقوط أخلاقي لم يكن قد تحسب له، وهكذا وهكذا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا