فوجئت ذات مرة بأحد الأصدقاء من الوزراء السابقين يسألني عن تصوّري للساعة الأولى في حياة وزير ليُقارن تجربته الشخصية بأيّة تجربة أخرى، ومع أن السؤال لم يكن صعباً فإنه جاء بطريقة مُفاجئة وعلى غير توقع، وبعد هنيهة تذكرت أنني عشت هذه التجربة سنة 1993 حين ذهبت لتهنئة أحد أساتذتنا الأفاضل وهو الدكتور علي عبد الفتاح المخزنجي بتوليه وزارة الصحة، وعشت معه الساعة الأولى من عمله الوزاري.
كانت تربطني بالدكتور علي عبد الفتاح علاقات متعددة تُحتّم ان أكون من أوائل مُهنئيه ولهذا آثرت أن أذهب مبكراً قبل أن تشغلني الدوامات المعتادة، وفي الحادية عشرة كنت قد وصلت مكتب وزير الصحة حيث المرور إلى المكتب يقتضي عبور سرداب وراء آخر بينما يستعمل الوزراء بابا ينفتح على الردهة الكبيرة في ذلك القصر المخُصص للوزارة التي تأسست في 1936، ومن الطريف أن وزارة الصحة تشغل القصر المجاور مباشرة للقصر العظيم العريق المنيف الذي تشغله رئاسة الوزارة، وهو قصر الأميرة شويكار، وكأن رئيس الوزراء يطمئن نفسه بوجود وزير الصحة إلى جواره مباشرة، ويعود الفضل في شراء قصر الأميرة شويكار بكلّ قيمته الأثرية والمعمارية ليكون مقراً لمجلس الوزراء إلى زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا، أما هذا القصر الذي يحتله وزير الصحة وبعض معاونيه فلا أعرف صاحبه، ولا أعرف هل تستأجره الدولة أم أنها اشترته أم أممته أو صادرته أو فرضت الحراسة عليه أو آل إليها بطريقة أخرى من طرق التملك أو الاغتصاب.
دخلت مكتب الوزير، فإذا بعدد ممّن أعرف من أساتذتنا قد سبقوني، أذكر منهم أستاذ الأمراض الجلدية في طب عين شمس الدكتور صالح الشيمي وكان عضوا في مجلس الشورى، وهو ينتمي إلى نفس القسم الذي يعمل فيه الدكتور الوزير، وما هي إلا دقائق وجاء الدكتور حسن حمدي إبراهيم رئيس جامعة القاهرة وكان في ذلك الوقت لا يزال رئيساً للجنة قطاع التعليم الطبي (بعد أن بلغ سن التقاعد) بينما كان الدكتور علي عبد الفتاح هو أمين هذه اللجنة، وكنت بحكم مسئوليتي عن المجلة الطبية المصرية الجديدة على تعاون متصل مع الرجلين، بمسئوليتهما في اللجنة، وبأستاذيتهما في الفسيولوجيا والأمراض الجلدية، بل لقد كان الرجلان من الأعضاء الخمسين المؤسسين للمجلة التي شرُفتُ بالمسئولية عنها مديراً للتحرير ثم رئيساً للتحرير بعد وفاة أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف رئيس تحريرها الأول.
سأل الدكتور حسن حمدي الوزير الجديد عن السؤال الذي كان يشغل أذهاننا جميعاً في ذلك اليوم وأجاب الوزير على نحو ما سأرويه بالتفصيل بعد قليل. أحببت أن أنصرف مع انصراف أستاذنا الدكتور حسن حمدي فسألنا الوزير هل نحن على اتفاق على الذهاب إلى موعد آخر، فلما أجبنا بالنفي، استأذنني في أن أبقى معه بعض الوقت إن كنت لا أمانع، وبعد دقائق فرغ من تحية الحاضرين الذين امتلأ بهم المكتب، فاستمهل مدير مكتبه في أن لا يُدخل عليه أحداً لبضع دقائق، ثم فاجأني بأنه في حاجة إلى خدمة لا يُنجزها إلا مثلي، فقد كان من المقرر أن يذهب الشهر القادم لحضور مؤتمر علمي في أمريكا، لكنه بالطبع لن يستطيع، ولهذا فإنه أحضر معه دعوة للمؤتمر، وإيصال سداد الحضور، والاشتراك، وحجز الفندق، ويرجوني أن أكتب الآن إلى المؤتمر عن طريق الفاكس بإلغاء اشتراكه وإعادة الرسوم.. وأخبرني أنه لا يذكر من كل هذه البيانات المطلوبة إلا اسم دينامو المؤتمر الذي هو موجود في هذا الورق.. وأعطاني هذه الأوراق التي تبلغ العشر بما فيها من إيصال سداد، ودعوة، وإخطار بقبول.. الخ
قلت لأستاذنا الوزير: إنني لا أستطيع أن أنجز هذا إلا على مكتب عريض لأنني سأنقل عنوانا من هنا واسما من هنا، ورقم إيصال، ورقم شيك، ورقم فاكس من هناك، ورقم حجز فندق من هناك.. الخ فإذا به يُجيبني بالإجابة الوحيدة التي لم أكن أتوقعها، وهي أنه قال إنه سيترك لي مكتبه لأنجز المهمة، وقبل أن أعتذر عن هذا الإزعاج، أكمل جملته، وقال إنه سوف يستغل هذا الوقت في أداء صلاة الظهر، وسألني عن القبلة فأجبته، فسألني كيف عرفتها بهذه السهولة فأجبته بأن في مواجهة مكتبه مباشرة مسجد لمجلس الشعب منذ أن كان مجلس النواب، ورأس اللجنة الدينية فيه الشيخ الظواهري فبنى هذا المسجد الذي يُفتح للجمهور لصلاة الجمعة، ثم قال أستاذنا: إنه لابد أننا سنجد سجادة صلاة في هذا الركن أو ذاك، ونظر إلى يمينه فوجد سجادة فقام إلى الصلاة، في أحد الأركان المستترة من مكتبه، وجلست إلى المكتب أنجز ما طلبه مني، إنقاذا للدولارات الكثيرة التي ستضيع لو لم يُخطر المشترك باعتذاره قبل موعد معيّن، وإنقاذا للدولارات الأخرى الخاصة بحجز الفندق الذي سيتم (كعادة تلك الأيام) من خلال تنسيق تشترك فيه للجنة المُنظمة للمؤتمر.. وهكذا.
في أثناء هذا، كانت اللمبة الحمراء مضاءة للجمهور لكن بما لا يمنع من أن يدخل مدير المكتب أو تدخل السكرتيرة، وما أن أطلت السكرتيرة بوجهها من الباب الواصل من مكتبها للوزير، ورأت شخصاً آخر غير الوزير على مقعده، حتى فزعت فزعاً شديداً، وقلبت يديها تسأل، على حين اعتصمت بالصمت وأشرت بسبابتي بحسم على الفم حتى لا تتكلم، ومع أن الطبيعي أن تفكر في أن الوزير قد يكون في التواليت الخاص به فإن ذهنها توقف تماماً من الدهشة. ختم الوزير الصلاة، وسألني: هل أحتاج مزيداً من الوقت؟ فقلت له: دقائق قليلة، فقال، لا تتحرك من على المكتب حتى تنتهي وجلس إلى مقعد من المقاعد، وما إن انتهيت، حتى سألني قبل أن يأذن بدخول دفعة جديدة من المهنئين: يبدو أنهم مُتعوّدون على أن الوزراء لا يُصلّون، فتماديت في الافتراء، وقلت: الوزراء لا يصلون إلا صلاة الظهر فقط في يومهم الأول فقط! فانفجر ضاحكاً، وشاكراً، وتركته، وانصرفت، لكن طاقم المكتب كلّه سرعان ما استوقفوني بالإجبار المهذب ليأخذوا تليفوناتي وعناويني.. الخ، وأنا أبتسم، وأقول لهم: إن هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي آتي فيها إلى مكتبكم.. كنت أقول هذا ولا أدري أن النبوءة ستتحقق حتى إنني عندما حضرت اجتماعات مع وزراء صحة آخرين في ذلك المبنى لم أبرح قاعة الاجتماعات إلى مكتب الوزير ولو من باب المجاملة.
قصة تغيير اسم الوزير
نعود إلى موضوعنا الأساسي وهو سؤال الدكتور حسن حمدي عن اسم الوزير، فقد كان من الطبيعي أن يطرح الدكتور حسن حمدي على الوزير السؤال الذي كان كلّ الأطباء في مصر يريدون أن يعرفوا له إجابة في ذلك اليوم، وهو من أين أتى الوزير بلقبه الجديد الذي لم نعرفه به على مدى أستاذيته وعمادته وخدمته الطويلة؟ فقد كنا نعرفه باسم علي عبد الفتاح، فإذا أردنا الاسم الكامل فإنه محمد علي عبد الفتاح ولم نكن نعرف أن لقبه المخزنجي؟ وبخاصة أنه يوجد في نفس الكلية التي كان وكيلا لها ثم عميدا لها (لست سنوات) أستاذ لأمراض النساء والتوليد اسمه الدكتور محمد المخزنجي.
سأل الدكتور حسن حمدي الوزير الذي هو تال له في كلّ شيء: من أين اتيت بلقب المخزنجي يا دكتور علي؟ وقد عشنا كلّ هذا العمر ولا نعرف أنك مخزنجي؟ وبدأ الدكتور الوزير يحكي القصة التي لم يكن أحد من السامعين الذين جاوزوا العشرين يعرفها ولا يتصورها على هذا النحو، قال: إنه منذ عدة سنوات كان بدأ يُعاني أنه من إجراءات التدقيق في اسمه في شباك جوازات المطار كلّما عاد من مؤتمر من المؤتمرات التي يحضرها في الخارج، فما أن يكتب اسمه على جهاز فحص القادمين حتى يستوقفه ضابط المخابرات، ويحتجز جوازه، ويطلب إليه أن ينتظر بعض الوقت ويطول الوقت أو يقصر ثم يأتيه الجواز مختوماً بختم الدخول ويسمح له بمغادرة دائرة الجوازات، وفي بعض الأحيان كان هو بحكم مناصبه رئيس الوفد بالطبع فيسمحون للوفد بالدخول جميعاً إلا هو فيتحفظون عليه بعض الوقت، لكن الأصعب من هذا ما كان يحدث حين يسافر مع زوجته وهي أستاذة من كبار أساتذة الأمراض الباطنة، فيسمحون لها بالدخول، ويستمهلونه، ريثما يتأكدون من أنه ليس ذلك الشخص المطلوب القبض عليه.
وقال أستاذنا الوزير إنه تعود على هذا الأمر، وتقبله على نحو ما نتقبل كثيراً من الإجراءات الأمنية، لكنه في آخر مرة صادف ضابطاً شاباً غرّاً أساء معاملته، وهو يُعطيه جواز سفره بعدما استبقاه طويلاً بأكثر من المعتاد، فذهب لرئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي الذي هو من جيله، فضلاً عن انه صديقه، وفضلاً عن أنه (أي الدكتور علي) عديل للمستشار عادل صدقي الذي هو الشقيق الأكبر لرئيس الوزراء.
ذهب الدكتور علي عبد الفتاح فقصّ القصة على رئيس الوزراء الذكي، شاكيا، فما كان من رئيس الوزراء إلا ان قال له: لا تُتعب نفسك، فما دام اسمك قد دخل هذه القائمة على هذا النحو فلن يخرج منها! وقد حدث هذا مع والدي نفسه الذي كان وكيلاً لمحكمة النقض حين كان لمنصب وكيل النقض شأنه ووزنه، لكني أدلك على حل سهل جداً، وهو ان تذهب الآن فتغير اسمك في البطاقة الشخصية، ومن ثم تغير الجواز ليكون باسمك الكامل الذي يحوي اسم عائلتك وبهذه الطريقة لن تقف أبداً.. أما محمد علي عبد الفتاح فتتركه لهم يبحثون عنه مع كلّ طائرة. أنجز الدكتور علي عبد الفتاح تغيير اسمه في البطاقة والجواز، وتصادف بعدها أن اختير وزيراً فكتب رئيس الوزراء اسمه في التشكيل على النحو الجديد الكامل الذي كان من اقتراحه هو نفسه والذي نجاه من تكرار الاحتجاز الأمني، والذي نال به الوزارة أيضاً.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا