كان الأستاذ عزيز أحمد فهمي تلميذا للأستاذ أحمد أمين والدكتور طه حسين، وأستاذا للأدب العربي في جامعة القاهرة، وكان يكتب في مجلة الرسالة ثم في الثقافة وله مقالات جيدة في كلّ الميادين التي كتب فيها، ومن الطريف أنه يشترك في الاسم الثنائي مع الدكتور عزيز فهمي أبرز زعماء الطلعة الوفدية البارزين. كتب هذا الأستاذ الناقد المشتبك مع قضايا الفن والحياة والثقافة مقالا متميزا في نقد فيلم دنانير الذي قامت ببطولته الفنانة أم كلثوم، وفي رأيي فقد كان هذا المقال غير المشهور أقسى تجربة نقدية مرت بها أم كلثوم كممثلة. وعلى سبيل المثال فإن الدكتور عزيز فهمي، يذهب إلى القول بأن أم كلثوم أصابها الغرور حتى وصلت إلى التحجر في فيلم ميت هو فيلم دنانير.
لا يكتفي الأستاذ عزيز أحمد فهمي بنقد الأداء التمثيلي المتصنع لأم كلثوم، وإنما ينتقد أيضا طريقتها في الغناء في فيلم «دنانير» حتى يقول إنها حرصت على أن تضم شفتيها، وتُصغر فمها، كأنما تخشى ان يرى الناس فمها واسعاً، وشفتيها غليظتين، مع أن أهل الفراسة يقولون إن الفم الواسع والشفاه الغليظة من لوازم الغناء. ويُرتب الأستاذ عزيز أحمد فهمي على هذا النقد تفسيره لما رآه من أن الألحان صدرت عن أم كلثوم مخنوقة مُجهدة مُستشهداً بما فعلته في لحن «بكره السفر» الذي وضعه زكريا أحمد وهو اللحن الذي كان من الممكن على حد تعبيره أن يشيع في مصر كلها لولا أن أم كلثوم خنقت اللحن. ويصف الأستاذ عزيز فهمي ابتسامة أم كلثوم في الفيلم بأنها كالابتسامة الجامدة التي عُرفت بها السيدة بديعة مصابني.
وإلى فقرات مطولة من المقال الذي اتخذ له عنوانا مبالغا في الصراحة “بعد دنانير عودي فاصحي يا أم كلثوم”: يبدأ المقال بتعداد أسماء النجوم والفنانين والمنتجين على هذا النحو: “أم كلثوم. عبد الله أباظة. عبد الحليم محمود. زكريا أحمد. محمد القصبجي. رياض السنباطي. أحمد رامي. أحمد بدر خان. عباس فارس. سليمان نجيب… هؤلاء جميعاً ومعهم غيرهم تعاونوا في إخراج (دنانير). وهؤلاء وغيرهم الذين معهم، جميعاً، من جبابرة الفن في مصر، سواء منهم الذين يغذون الفن بالمال، وسواء منهم الذين يغذون الفن بالفكر والجهد، وسواء منهم الذين يغذونه بالشعور والحس، ومع يقيني بهذا، واعترافي به، فإني أريد أن أقول إن فيلم (دنانير) الذي تعاون فيه هؤلاء كلهم ومعهم وغيرهم.. فيلم فاشل ميت! فكم من القراء يا ترى سيصدق قولي هذا ويعترف لي بالحق فيه؟ وكم منهم سيقول: (أسكت المفتون عن عبد الوهاب فاندار على أم كلثوم!.
“ما الذي حدث لأم كلثوم، حتى أنها استحالت في نظري من فنانة تشبع النفس إشباعاً مريحاً إلى هذه الجديدة التي حين سيطرت على عمل فني كبير مثل (دنانير) خرج من تحت يدها، وهو فاشل ميت، مع وفرة المال الذي بذل فيه وطواعية المعاونين الذين عاونوها فيه؟ لابد أن يكون قد حدث لأم كلثوم شيء وأصاب نفسها وقعد على روحها؟ فما هذا الذي حدث؟ وما هي دلائله؟!”.
“قالت لنا الكاميرا: إن أم كلثوم اغترت، وإن إحساسها ركد، وإن بدنها طغى على روحها، وإنها استمرأت التكلف والتصنع حتى نضبت سجيتها وجفت عواطفها؛ فانحرمت من الفرح تبعاً للذي أرادته من الامتناع على الألم. وقد قالت لنا الكاميرا أيضاً إن أم كلثوم – لها الله – قد تحجرت”.
“أما غرور أم كلثوم فشيء رأيته شائعاً في الفلم ولكني لم أستطيع أن أطبق على عنقه متلبساً بحادثة، لأجره وأقفه أمام الأنظار وهو عريان. فللذين يريدون أن يروه أقول إن عليهم أن يشاهدوا الفلم ليتحسسوه فقد يلمسونه”.
“وأما ركود الحس فقد قبضت عليه متلبساً بحادثة، وقد ظهر على أم كلثوم في موقفها مع الخليفة حين كانت تستعطفه على جعفر، فما بدا في هذا الاستعطاف إحساس بجعفر ولا بها ولا بالخليفة، وإنما الذي بدا منها في هذا الموقف اهتزازات وغمزات بالكتفين، وهمزات في الصوت، لا يمكن أن تصدر من موجع يستعطف لمنكوب؛ وإنما هي قد تصدر من جارية، تغري مولاها إذا هجرها”.
“وأما طغيان البدن فظاهر في هذا الموقف أيضاً، لأنه مصاحب لركود الحس؛ فكل من ركد حسه طغى عليه بدنه، وهو ظاهر كذلك في مواقف أم كلثوم الغنائية جميعها، فقد كانت تغني وتحرص على أن تضم شفتيها، وتصغر فمها فلا تفتحه، مهما تطلب الغناء أن تفتحه، كأنما كانت تخشى أن يرى الناس فمها واسعاً، وكأنما كانت تخشى أن يرى الناس شفتيها غليظتين؛ مع أن أهل الفراسة يقولون إن الفم الواسع والشفاه الغليظة من لوازم الغناء، لأنهما عضوان من الأعضاء التي يتكون منها جهازه البدني”.
“ولأن أم كلثوم قد فعلت فعلتها هذه، فقد كانت الألحان تخرج من بين شفتيها مخنوقة مصفاة الدم مجهدة الروح، ولو كنت أنا زكريا أحمد لطالبت أم كلثوم بتعويض كبير، لأنها خنقت لي لحن (بكره السفر) – على الأقل – فهو لحن كان من حقه أن يذيع في مصر من أقصاها إلى أقصاها اليوم لو أن أم كلثوم أرسلته حياً نابضاً كما أعطى لها”.
“وليس (بكره السفر) وحده هو اللحن الذي قتلته أم كلثوم، وإنما هي سامحها الله قد قتلت ألحان الفيلم جميعاً، فبعضها مات موتاً، وبعضها أغمى عليه، وبعضها أصيب برضوض وعاهات”.
“أما التكلف والتصنع فقد سجلته الكاميرا على أم كلثوم في هذا الذي رأيته، كما سجلته مع هذا في كل موقف من مواقف الفيلم تبسمت أم كلثوم فيه، فابتساماتها لم تكن إلا هذه الابتسامة الجامدة التي عرفت بها السيدة بديعة مصابني”.
“لقد كانت هذه الفتاة [يقصد أم كلثوم] من عامين فقط حقيقة كالحلم الذي يطوف بروح القديس، فأصبحت اليوم حلماً كالحقيقة التي لا تطوف بروح القديس”.
” أختاه.. لا تقولي ما لهذا الولد يتصدى لنفسي؟ فإني لا أعرف سبيلاً إلى نقد الفن إلا نقد النفس، لأني لا أعرف الفن إلا على أنه ثمرة النفس، ولست أعرف هذا من كتاب قرأته، ولا من (هبسلنتي) ولا من (شرونتسكي)، وإنما عرفته منك ومن غيرك ممن أتلقى غذاء روحي عنهم. فأفهميني، واسمعي كلامي، وعودي واصحي.. وإلى اللقاء.. إذا شئت.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا